شكلت الندوة الدولية حول القوانين والتشريعات المنظمة للإنتاج السينمائي، واحدة من أهم لحظات الدورة 38 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، بسبب حيوية الموضوع، التي تحدد فعليا إمكانية تحقق ما يمكن وصفه ب "نقلة سينمائية" في أي بلد من عدمها. اعتبارا، لأن السينما هي صناعة في المقام الأول، وأنه يسري عليها عاليا منطق كل صناعة متكاملة الأضلاع، بما يجب لذلك من ميزانيات ضخمة وقوانين تشجيعية منظمة للقطاع، وتقنيات تسويق، وبنية تحتية إنتاجية. هنا، كما أكدت لنا الأستاذة ماجدة واصف، رئيسة المهرجان (النشطة جدا، والتي تجدها في كل مكان، تتتبع كل التفاصيل) في نقاش على هامش فعاليات المهرجان، فإن رهان إدارة المهرجان على التجربتين الصينية والمغربية جد كبيرة. وهذا ما يترجم قيمة ونوعية الحضور المغربي والصيني لهذه الندوة الدولية الهامة، المتمثل في حضور رئيس غرفة الصناعة السينمائية الصيني وكذا رئيس المركز السينمائي المغربي صارم الفاسي الفهري والمخرج المغربي المتألق أحمد المعنوني باسم غرفة المنتجين المغاربة. لقد أكدت الأستاذة واصف أن التجربة المغربية جد مهمة، كونها نجحت في أمرين بارزين، هو تقنين الدعم وترسيمه وجعله منتظما، وأيضا بلورة نصوص تشريعية منظمة لكل قطاع السمعي البصري وضمنه قطاع السينما، ثم أخيرا تأسيس بنية تحتية منافسة دوليا تجعل الاستثمار في مجال الإنتاج السينمائي يتدفق على المغرب، مقدمة المثال باستديوهات وارزازات، التي تعتبرها تجربة فريدة. وهو نفس الأمر تقريبا، الذي تقدمه التجربة الصينية، الأكثر تقدما، والتي سمحت خلال 20 سنة الأخيرة في تحقيق نقلة جبارة للسينما الصينية، كواجهة للتقدم الصيني في مختلف مجالات الإنتاج، الصناعية والتجارية والثقافية والفنية والرياضية. كان النقاش موزعا على مدار يوم الخميس، بشكل سمح بالتركيز صباحا على التجربة الدولية، من خلال التركيز على التجربة الصينية والمغربية، مع مشاركة أروبية (بلجيكية ورومانية أساسا)، فيما خصصت الحصة المسائية لمناقشة الحالة المصرية، التي شهدت نقدا قويا لأسباب تراجع المغامرة في تحقيق التقدم على مستوى القوانين المنظمة لقطاع السينما، التي لا تزال احتكارية للدولة، بذات خلفية مفهوم التأميم التي كانت ربما مبررة في الخمسينيات والستينيات ولم تعد اليوم منتجة ومفيدة وفعالة. وهنا أيضا حضرت التجربة المغربية كمثال، من خلال التساؤل عن السبب الذي يجعل الرأسمال المنتج في مجال السينما العالمية لا يختار مصر التي تتوفر على شروط طبيعية تنافسية عالية. وكانت أغلب الخلاصات تذهب في اتجاه التأكيد على أن العطب كامن في شكل التدبير الإداري غير المسهل لولوج ذلك الاستثمار العالمي إلى بلاد النيل، بسبب ترسانة القوانين الرقابية، وثقل الضرائب، وبيروقراطية الإدارة. الشيء الثاني المميز في هذه الدورة، هو إصرار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، على فكرة إصدار دراسات وكتب في كل دورة. وكان نصيب الدورة 38، صدور 4 كتب باللغة العربية، لعل أهمها كتابان توثيقيان، هما كتاب حول سينما المخرج الراحل محمد خان، أنجزه الكاتب والناقد محمود عبد الشكور (وهو من جيل الشباب الصحفيين والكتاب والنقاد في مجال السينما والفنون عموما بمصر)، وكتاب حول سيرة الفنان المصري المتألق، أحمد حلمي، أنجزها واحد من مراجع النقد السينمائي في مصر اليوم، الصديق طارق الشناوي، المعروف بأسلوبه النقدي اللاذع. وهو الكتاب الذي يقدم مقاربة شاملة لشخصية أحمد حلمي الإنسان والفنان، من خلال تقنيات تحليلية تعتمد الشهادة وتعتمد تحليل أفلامه، ثم في جزء مطول فتح نقاش تقني وأكاديمي وفني وتأريخي مع المعني بالأمر، النجم والإنسان أحمد حلمي. وللحقيقة، فإن هذا الفنان الشاب، يعتبر فعلا ظاهرة فنية وسلوكية في مصر الآن وبالعالم العربي، كونه يواصل نجاحاته السينمائية والفنية منذ 12 سنة، في مجال فني صعب، هو مجال الكوميديا، دون أن يقع له الاستنزاف الذي وقع لكل من سبقه في ذات المجال، سواء من جيله (محمد سعد، وهنيدي كمثال) أو من الجيل الذي سبقه (إسماعيل ياسين كمثال). وكثيرا ما يقارن بين أحمد حلمي في هذا الباب والفنان النجم عادل إمام، كونهما يشتركان في معطى مهم، هو أن تعاملهما مع السينما يصدر عن رؤية عقلانية وليست رؤية وجدانية عادة ما تؤطر النجم الناجح الذي يصبح سجين تحقيق النجاح في الشباك السينمائي، مما يجعله يسقط في تقليد ذاته فنيا وفي تكرار ذات تجربته الأولى الناجحة، مما يقوده إلى الفشل. ثمة أمر، ربما يعتبر عاديا، لكنه أثارني هنا عاليا، هو حجم حضور شخصية الفنان محمود عبد العزيز، ليس في كل أطراف المهرجان، على مستوى النقاشات العمومية والثنائية أو الحلقية، بل على المستوى الشعبي. مما يعكس ترسخ الدور التربوي الثقافي سلوكيا للسينما في مصر شعبيا. ذلك أنها جزء من معنى وجود عن المواطن هنا، الذي لا تزال أعداد ولوج قاعات السينما جد كبيرة. وحين تتجول في أحياء القاهرة، تفاجئ دوما، بحجم القاعات السينمائية التي لا تزال مفتوحة وتشتغل، وبعضها يعود إلى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. بل وتجدها ممتلئة عن آخرها بالجمهور، مما يؤكد أن الاستهلاك الثقافي والفني عال في بلاد مصر. ولربما هنا يكمن سر علو ذلك الإحساس القومي عند المصري، الذي هو مسنود ببنية ثقافية سلوكية رصينة وراسخة (نفس الأمر ينسحب على قراءة الصحف ذات المبيعات العالية جدا، التي تتجاوز 4 ملايين يوميا). هنا الدرس أن الفقر ليس عائقا دون تحقق تربية سلوكية عمومية لاستهلاك القيم الثقافية والفنية. واضح، هنا، أن المصري قد يجوع في بطنه، لكنه لا يجوع أبدا في وعيه العام وفي وعيه الوطني وفي وعيه الثقافي. كانت الصين، ضيفة المهرجان، قد نظمت ليلة الأربعاء أمسية تواصلية كبيرة مع ضيوف المهرجان وفناني ومثقفي مصر وصحفييها. لكن الحضور كان ضعيفا، ليس بسبب مقاطعة تلك الدعوة الصينية، بل لأن ثلثي فناني مصر وإعلامييها، قد شدوا الرحال في تلك الليلة الباردة جدا (وهو برد غير معتاد في مصر في هذا الوقت من السنة)، إلى مدينة 6 أكتوبر البعيدة عن وسط القاهرة بكلمترات، للمشاركة في حفل عزاء الفنان محمود عبد العزيز ببيت عائلته، حيث كان ذلك البيت محجا لكل مصر، بدون مبالغة، ما يعكس قيمة ذلك الفنان الكبير شعبيا ورسميا وفي وسط النخبة المصرية. إنه بسبب كل هذا الشغف الشعبي بالسينما، هنا بالقاهرة، فإن قاعات عرض الأفلام المشاركة وهي كثيرة العدد، سواء في قاعات عرض دار الأوبرا بمنطقة الهناجر بوسط العاصمة المصرية، أو في القاعات السينمائية بمختلف مناطق المدينة. فإن حجم الجمهور الحاضر كبير جدا، الذي تجده يقف في صفوف طويلة لشراء تذكرة الدخول، وكثيرا ما وقفت على مشاحنات من رجال ونساء من مختلف الأجيال مع الجهات المكلفة ببيع التذاكر بسبب نفادها (ثمة ملاحظة هي أن المصري متعود على الاحتجاج دوما بصوت عال ومرتفع، وينزع بسرعة نحو الغضب، وينزع بسرعة أيضا نحو التسامح. وهذا معطى سوسيو نفسي مغر بالقراءة والتأمل فعلا).