انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    مباحثات تجمع العلمي ونياغ في الرباط    أخنوش: تنمية الصحراء المغربية تجسد السيادة وترسخ الإنصاف المجالي    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الأحزاب السياسية تشيد بالمقاربة التشاركية للملك محمد السادس من أجل تفصيل وتحيين مبادرة الحكم الذاتي    رفض البوليساريو الانخراط بالمسار السياسي يعمق عزلة الطرح الانفصالي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    أخنوش: "بفضل جلالة الملك قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية التدبير"    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    تلاميذ ثانوية الرواضي يحتجون ضد تدهور الأوضاع داخل المؤسسة والداخلية    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوارات في الثورة العربية الجديدة

عبر كثير من المثقفين العرب عن وقع المفاجأة أمام الانتفاضات العربية التي لم يتوقعوا حدوثها، من حيث سرعة انجازها وتوقيتها بالرغم أن تاريخ الثورات يؤكد بالملموس أنها لا تخضع دائما للحتمية الآلية. والدليل على ذلك أن مؤسس التفكير الجدلي كارل ماركس كان يتوقع أن تحدث الثورة الشيوعية الأولى في بلد مثل انجلترا. لامتلاكها لطبقة بورجوازية متنورة، وتنظيم عمالي قوي، لكن مكر التاريخ شاء أن يخيب توقعه، حيث حدثت هذه الثورة في بلد فلاحي هو روسيا القيصرية التي كانت آنذاك تفتقر لهذه الشروط الموضوعية.
إن عامل المصادفة الذي توحي به هذه الثورات هو نتاج تضاريس تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم الفجائعية. التي بقيت في حالة كمون إلى أن توافر لها فتيل الاشتعال، تشبه بركان فيزوف الذي لا يعرف الايطاليون متى يستيقظ. قد يكون سببه مجرد حادث عارض كما حدث مع واقعة البوعزيزي، أو قد يكون سلوكا مترددا في الاستجابة الآنية كما يحدث اليوم في سوريا، أو استبدادا طال أمده لعقود مقترنا بحرمان الشعب من أبسط الشروط الدنيا لبناء الدولة الحديثة كما يحدث في ليبيا أو تجييشا للصراع القبلي والمقايضة بالخطر الإرهابي، ضمانا لعدم المتابعة والمحاكمة العادلة كما يطالب بذلك حاكم اليمن السعيد.
تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، منعطفا متميزا في مسار الحراك العربي، بالرغم من عدم اقتناعنا بوجود مفاضلة معيارية بين الثورات، لقد كان لثورة تونس شرف السبق التمهيدي، الذي صارت على منواله باقي الانتفاضات العربية اللاحقة، من حيث أسلوب العمل والنتائج التي تمخضت عنها وأدت إلى رحيل حاكم تونس القوي.
لكن التجربة المصرية في التغيير والثورة، تمثل المختبر التاريخي لما سيؤول إليه مستقبل الشعوب العربية في الألفية الثالثة، نظرا لوضعها الجيو سياسي ورصيدها الريادي في النهضة والتقدم، ولوجود نخبة ثقافية عريضة لها تجربة غنية في ديمقراطية التعدد الحزبي، تعود إلى أكثر من قرن من الزمن وتمرين في ممارسة الإصلاحات الدستورية، انطلق منذ العقدين الأولين من القرن الماضي.
سر القوة في الثورات العربية الجديدة، أنها لم تقم بتوكيل خارجي، ولهذا السبب تعذر على نظام مبارك وبقية الأنظمة العسكرية أن يتهموها بخدمة أجندة أجنبية، لقد اشتركت الثورات العربية في توظيفها لقاموس حضاري يتسلح بالدعوة المسالمة إلى التغيير والديمقراطية والوعي المدني التواق إلى الحرية والكرامة.
إنها ثورة تفتقر إلى قيادة رائدة أو طبقة طليعية على شاكلة الثورات التقليدية، لأن شباب الفايسبوك لا يؤمرون بتوجيه عمودي بل يعتمدون في حراكهم على التشعب الأفقي المتفاعل مع بقية المتحاورين كأنداد. كما أنها ليست بشرقية أو غربية يكاد نورها يضيء جميع البلدان العربية، تؤرخ لجيل جديد من الثورات الإنسانية وتفند كل التحليلات المكررة لعلماء الاقتصاد السياسي وأدبيات الثوريين التقليديين، القائلين بعدم حرق المراحل، وضرورة التدرج المعتمد على تراكم التجربة ونضج الظرف التاريخي. لقد انطلقت هذه الثورة بأصوات شبابية، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية، لأن جيل الشباب يتقاطع مع مختلف الطبقات وينصهر داخل كل الفئات الاجتماعية.
هناك أسئلة عديدة تطرحها الثورة العربية الجديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في هذه الحوارات مع المثقفين المغاربة أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا.
حوار مع الأستاذ سعيد بنكراد
لم يكن الفايسبوك هو الذي أشعل ثورة الشباب، فلو لم يكن من الظلم ما يدفع إلى الثورة، لما نزل أحد إلى الشارع
{ في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟
لا أعتقد أن الأمر يتعلق بوجهتي نظر، أو بتقويمين مختلفين لما يجري، بقدر ما هو محاولة يائسة من المنتفعين من النظام القائم للدفاع عن وضع منحهم كل شيء، وحرم الآخرين من لقمة عيش نقية. إن للأمر أسبابا أخرى لا يمكن أن ينكرها إلا من على أعينه غشاوة المال والنفوذ والسلطة. يتعلق الأمر بعقود، أو بقرون، من القهر المتتالي، ويتعلق الأمر أيضا بعقود أو قرون من الإذلال الممنهج. يجب أن نسجل أن هذا الحراك جاء في شرط حضاري خاص. وهذا الشرط لم تستطع حتى أعتى الإمبرياليات الهروب منه: لقد تغير العالم كثيرا، لم يعد من الممكن إخفاء الجريمة، الكل أصبح مكشوفا أمام نفسه وأمام الآخرين، وما أنتجته الرأسمالية في اندفاعها الأهوج إلى الأمام هو ذاته الذي وفر للشعوب فرصة خلق عالم لا يستطيع أحد التحكم فيه (أو على الأقل لا يستطيع فعل ذلك طويلا)، عالم يتطور في شكل بروفه افتراضية لا يكتمل وجهها إلا من خلال تحققها في الشارع حيث الحميمية الإنسانية تشير إلى الاستعداد للموت من أجل عالم جديد خال من الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فالحامل الجديد للخبرة الإنسانية (بكل مظاهرها السلبية منها والإيجابية) قادر على تخطي كل أشكال الرقابات السياسية والإيديولوجية والدينية. وقد أصبح، بصفته تلك، قادرا على اقتحام البيوت والتسلل إلى الأذهان في غفلة من سلطة تراقب.
والقائلون بالمؤامرة، من موقع المصالح أو من موقع الوهم الإيديولوجي، لا يقومون، في واقع الأمر، سوى بالخلط بين الحضارة التي أنتجت التحرر والنزعة الإنسية التي تحتفي بالإنسان وحده، وبين ما يرتكبه المنتمون إليها من جرائم خارج حدودهم. فحاصل هذا الخلط سيكون دون شك تبريرا لوجود طغاة يحكمون شعوبهم بعبث سلطوي لا نظير له في التاريخ. لقد برروا باسم المعركة تارة وباسم الخصوصية الدينية والتميز الثقافي تارة أخرى، كل أشكال الاستبداد والتخلف والانكفاء على الذات خارج مجريات تاريخ يُصنع في غيابنا، وخارج قدرتنا على مجاراة إيقاعه.
{ عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت؟
لا أومن بحكاية الاستثناء هاته، فهي الخرافة التي رددناها لسنوات طويلة في ما يتعلق بالمد الأصولي. فقد داهمتنا آلياته في الشارع والإعلام وفي الانفجارات ونحن نتغنى بالخصوصية والاستثناء والتميز. إن الاستثناء إما أن يكون شاملا وإما لا يكون. والحال أننا لم نكن استثناء في الاستبداد والحكم المطلق والقهر بكل أشكاله. لنا خصوصيتنا الثقافية، هذا أمر مؤكد، كما لكل شعوب المعمور خصوصيتها. وقد تكون السلطة في بلادنا، استنادا إلى حسابات المصالح لا إلى إمكانية تبني نموذج جديد في إدارة الشأن السياسي، أذكى من مثيلاتها في العالم العربي، فبادرت إلى نزع الفتيل قبل اشتعال النار في كل الهشيم. ومع ذلك لم ننجز شيئا ذا قيمة كبيرة. يجب ألا نبرر عجزنا على المضي بالحراك إلى أقصى نقطة ممكنة فيه بالاستثناء الذي لا استثناء فيه. والغريب أن القوى اليسارية، أو من تقول عن نفسها كذلك، هي التي روجت لحكاية الاستثناء هاته، لقد كانت تتعجل الاستفتاء كمن يريد أن يتخلص من تبعات وضع لا يستطيع التحكم فيه.
{ هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها؟
الأهم من الإصلاحات الدستورية هو استراتيجية تتحكم في هذه الإصلاحات وتوجهها. فمنذ انطلاقة ما سمي بالتوافق السياسي كانت هناك الكثير من الأصوات التي تقول إن هذا التوافق لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا كان سيؤدي في نهاية الأمر إلى توزيع جديد للسلطة، ويعيد إلى الشعب سلطته في المراقبة ضمن ملكية برلمانية تحظى بكل الاحترام وتكون رمزا محايدا للأمة. وهذا ما تقف في وجهه الكثير من العوائق. فالإصلاحات الموعودة هي في الأصل تعديلات تمس بنودا ولا تشكل في عمقها إعادة النظر في البناء الحضاري الذي يقوم عليه النظام السياسي في بلادنا. لقد ارتبطت كتابة الدساتير بالثورات، والدسترة كانت دائما «ترسيما قانونيا» لممارسات جديدة عجزت القوالب القديمة على احتوائها. لذلك فهذه الإصلاحات ليست، على الأقل في المدى المنظور، سوى توزيع جديد للكعكة السياسية، ولن يقود إلى إعادة النظر في النظام القيمي الذي نحتكم إليه ونقوم العالم استنادا إليه. وما حدث في الاستفتاء الأخير يزرع الكثير من الشكوك حول قدرة إصلاحات دستورية معزولة على إحداث تغيير فعلي في البلاد. سيتناوبون على السلطة بطريقة جديدة دون أن يؤدي هذا التناوب إلى انتقال فعلي من نمط سياسي إلى آخر. لقد فقدت هذه الإصلاحات الكثير من مضمونها من حيث الصياغة، ومن حيث طريقة تصريفها والدعاية لها: لقد استعملت الأساليب القديمة نفسها: استعمال المساجد في خرق سافر لحياد السلطة، واستعمال الإعلام العمومي خارج ضوابط القانون الذي ينظم الاستفتاء، وغياب أي رقابة على الاستفتاء وعلى طريقة التصويت، تجييش أئمة المساجد والنزول بهم إلى الشارع دفاعا عن شيء لا يؤمن الكثيرون منهم به.... لكن المثير هذه المرة هو أن الأحزاب التي طالما اشتكت من التزوير باركت كل هذه الأساليب أو غضت الطرف عنها، وكأنها تحاول أن تتخلص من عبء في أقرب الأوقات.
{ من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية ؟
ما أشرت إليه سابقا يتضمن جزءا من الجواب. فليست بنود الدستور هي التي ستغير من تصورنا للحياة. فقد نأتي بأكثر الدساتير ديمقراطية دون أن ينتج عن ذلك تغيير جوهري للتركيبة الفكرية والاجتماعية السائدة. نحن نعيش أزمة حقيقية على مستوى القيم. أو إن شئت، يتعلق الأمر بحالة تخلف حضاري يختفي في تفاصيل اليومي. فقد داهمتنا المدنية الحديثة ونحن أعجز ما نكون عن القدرة على استيعاب سيرورتها واستنبات قيمها في تربة ثقافية قادرة على فعل التمثل. إننا نعيش خلاصات ما يفرزه الآخر في انفصال كلي عن السيرورة التاريخية التي أنتجته. إن المواطن الذي حرم لعقود من حقوقه لا يستطيع استيعاب مفهوم «الواجب»، والمواطن الذي سلب من حريته لعقود لا يمكن أن يتصور الحرية باعتبارها «مسؤولية» (لقد سارع الكل إلى دسترة الحقوق وحدها). لذلك نحن فعلا في حاجة إلى ثورة ثقافية تبدأ من المدرسة، يجب أن يتعلم الطفل كيف يحب الحق والواجب والخير والصدق والأمانة باعتبارها قيما في ذاتها في انفصال عن أية مردودية، دينية كانت أم سياسية. حينها سيعلن عن ميلاد الإنسان الجديد.
{ يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟
قد يكون هذا التقدير ساذجا، أو يتسم، في أحسن الأحوال، بالكثير من التفاؤل. فمن زاوية ما قد يكون الإسلام «القاعدي» قد فقد بعضا من بريقه مع هذا الحراك، فقد أثبتت هذه الهزة إمكانية الإطاحة بأنظمة عتيدة بأساليب سلمية، ولكنه لم يفقد أي شيء من روحه. لذلك لا يبدو لي أن هذا الحراك يملك القدرة على تشكيل صمام أمان أمام زحف الأصولية. ذلك أن الأصولية لم تكن دائما حاصل جمود سياسي، ولم يكن هذا الاختيار دائما حتميا أيضا(انتعش الإخوان المسلمون مع ثورة الضباط الأحرار في مصر). وهناك شعوب أخرى عاشت مناخ الجمود السياسي، ولكنها لم تكن ملزمة بالتلف للوراء بحثا عن بديل يأتيها من الماضي. لقد اختارت شعوب أمريكا اللاتينية، بعد أن دمرتها رأسمالية متوحشة وحكم دكتاتوري مريض، من جديد الوصفة الاشتراكية ضمن قواعد جديدة للعبة السياسية. وعاشت إسبانيا وقبلها البرتغال تحت نظامين دكتاتوريين، ومع ذلك فقد كانت عودتهما سريعة إلى الديمقراطية. والشيء ذاته حصل مع دول أوروبا الشرقية، لقد استعادت موقعها الطبيعي بشكل سلس ضمن المنظومات الديمقراطية بعد سقوط الأنظمة الشيوعية. لقد كان هناك في جميع هذه الحالات رصيد حضاري مشترك قابل للتعميم، وهو الذي سهل التحول الديمقراطي، وجعل العودة إلى نظام شمولي من قبيل ردة تدعو إلى قيام دولة دينية أمرا مستحيلا. في حين احتاجت تركيا، المنتمية جغرافيا إلى أوروبا، وعقديا وفكريا إلى الشرق، إلى العسكر لكي تحمي علمانيتها ومازالت في حاجة إليه، رغم الضمانات التي قدمها الحزب الحكام حاليا. وهذه أمور للتأمل.
{ إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟
لم يكن الفايسبوك هو الذي أشعل ثورة الشباب، فلو لم يكن هناك في الواقع من الظلم والتسلط ما يدفع أكثر الفئات خمولا إلى الثورة، لما نزل أحد إلى الشارع. بالتأكيد كان هناك عزوف عن العمل السياسي ومازال، وهو عزوف طال جميع الفئات بما فيها فئة الشباب. ولكن هناك حقيقة أخرى تفسر الكثير من الأشياء، وهي أن الأحزاب السياسية نفسها شاخت، ولم تعد قادرة على استيعاب طموحات شباب يعيش أكثر من نصف واقعه في عالم افتراضي يقدم له عوالم هي النقيض المطلق لما يراه في محيطه المباشر. لقد ثار الشباب، بشكل عفوي، على السلطة بكل معانيها بما فيها سلطة شيوخ الأحزاب الذين لا يريدون التخلي عن كراسيهم. لقد تماهوا مع النظام الذي يحاربونه. ومع ذلك يجب ألا ننساق وراء الظاهر. فنسبة كبيرة من الشباب «المستقل» الذي يخرج للتظاهر في الشارع لا يملك وعيا سياسيا بالمعنى الذي يدفع به إلى تجاوز الاحتجاج إلى تبني نموذج قيمي جديد، بل إن جزءا كبيرا منهم ينادي الآن بعودة مفجعة إلى نمط حياتي هو النقيض المطلق لما علمته إياه آلة التواصل الحديثة. لا يشكل الحداثيون داخل الحراك الآن سوى فئة قليلة، وهذه حقيقة لا يجب أن ننكرها. إن المطالبة بالديمقراطية قد تكون طريقة ديمقراطية لإلغاء الديمقراطية بكل بساطة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.