مدينة محمد السادس طنجة تيك تستقطب شركتين صينيتين عملاقتين في صناعة مكونات السيارات    المغرب يفتح أجواءه على العالم.. 52 شركة طيران تربط المملكة ب 135 مطارًا دوليًا        توقيف مقدم شرطة بتطوان للاشتباه في تورطه في حيازة وترويج الكوكايين    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود    تصفيات المونديال.. بعثة المنتخب المغربي النسوي تحت 17 سنة تشد الرحال صوب الجزائر    التقدم والاشتراكية يشجب القرارات التأديبية في حق طلبة الطب    إضراب كتاب الضبط يؤجل محاكمة "مومو"    تأجيل القرار النهائي بشأن الغاز الطبيعي بين نيجيريا والمغرب    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    الملك محمد السادس يهنئ الباراغواي    مطالبة للحكومة بمضاعفة الجهود لتحسين ولوج المغربيات إلى سوق الشغل    "فيفا" يعتمد برمجة جديدة للمسابقات    تسجيل أزيد من 130 ألف مترشح بمنصة التكوين على السياقة    التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يتوقع نمو الاقتصاد المغربي ب 3 بالمائة في 2024    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    انتخاب المكتب التنفيذي للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على أداء سلبي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    الفيفا يحسم موقفه من قضية اعتداء الشحات على الشيبي    أمريكا تشجع دولا عربية منها المغرب على المشاركة في قوة متعددة الجنسيات في غزة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الإعلان عن طلبات العروض لتوسيع مطارات مراكش وأكادير وطنجة خلال الأسابيع المقبلة    زنيبر: رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمته المملكة    قصيدة: تكوين الخباثة    طاقات وطنية مهاجرة … الهبري كنموذج    الرئيس السابق للغابون يُضرب عن الطعام احتجاجا على "التعذيب"    زلزال قوي يضرب دولة جديدة    معرض هواوي العالمي "XMAGE" ينطلق لأول مرة بعنوان "عالم يبعث على البهجة"    وفاة عازف الساكسفون الأميركي ديفيد سانبورن عن 78 عاما    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    معرض الكتاب يحتفي بالملحون في ليلة شعرية بعنوان "شعر الملحون في المغرب.. ثرات إنساني من إبداع مغربي" (صور)    الجديدة: حجز 20 طنا من الملابس المستعملة    الجيش الملكي ومولودية وجدة يواجهان الدشيرة وأولمبيك خريبكة للحاق بركب المتأهلين إلى المربع الذهبي    بلاغ جديد وهم من وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة    رسالتي الأخيرة    عملاق الدوري الإنجليزي يرغب في ضم نجم المنتخب المغربي    احتدام المعارك في غزة وصفقة أسلحة أمريكية جديدة لإسرائيل بقيمة مليار دولار    حصيلة حوادث السير بالمدن خلال أسبوع    كيف يعيش اللاجئون في مخيم نور شمس شرق طولكرم؟    الرئيس الروسي يزور الصين يومي 16 و17 ماي    بلينكن في كييف والمساعدات العسكرية الأمريكية "في طريقها إلى أوكرانيا"    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    دعوات لإلغاء ترخيص "أوبر" في مصر بعد محاولة اغتصاب جديدة    شبيبة البيجدي ترفض "استفزازات" ميراوي وتحذر تأجيج الاحتجاجات    المنتخب المغربي يستقبل زامبيا في 7 يونيو    هل يتجه المغرب إلى تصميم المدن الذكية ؟    الأمثال العامية بتطوان... (598)    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    الأمثال العامية بتطوان... (597)    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(من القرن السادس عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين) .. الرحالون الفرنسيون في المغرب

يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت.
وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة».
ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة.
بالرغم من بعض التقلبات الديبلوماسية التي شابت العلاقة مع المغرب خلال القرن السابع عشر، فإن وضعية فرنسا في المغرب ظلت في حالة جيدة. غير أنها في القرن الثامن عشر ستشهد بعض التراجع لفائدة الإنجليز. ثم ستعود إلى الانتعاش مع الوزير شواسول بمناسبة إيفاد سفارة الكونت برونيون.
لكي يجعل حدا لحرب القراصنة سوف تبعث فرنسا بقطع من أسطولها سنة 1765 لقصف مدينتي العرائش وسلا. وطالما أن السلطان سيدي محمد كان يرغب في إحلال السلم بين البلدين، فقد شُرع أولا في تبادل وجهات النظر، ثم أعقب ذلك إيفاد سفارة فرنسية إلى مراكش سنة 1767 لكي توقع على المعاهدة الرسمية. وقد كان وزيرنا المفوض للقيام بذلك هو الكونت برونيون.
وقد خلّف القس روشون، الذي رافق هذه البعثة بصفته عالما فلكيا تابع للبحرية، كتابا سيظهر سنة 1791 سجل فيه بعض الذكريات عن هذه السفارة. وإضافة إلى ذلك سنجد شهادة عن هذه الرحلة ضمن رسائل أحد أعضاء السفارة هو لويس دو شينيي الذي كان الوزير شواسول قد عيّنه حديثا قنصلا عاما في المغرب والذي سيلتحق بمنصبه في أعقاب هذه السفارة.
ومع أن شهرة ابنه الشاعر أندري قد سرقت منه الأضواء، فإن ذكري لويس دو شينيي الديبلوماسي جديرة بأن يحتفظ بها، فقد كان قنصلا مقتدرا في ظروف جد صعبة غالبا، وخلّف لنا عن تاريخ المغاربة وبلادهم مؤلفا ما يزال يفرض نفسه علينا بصدد فترة كانت فيها المؤلفات المتصلة بالمغرب في حكم النادرة.
وقد حل مبعوثو الملك لويس الخامس عشر بميناء مدينة أسفي على متن ثلاث بواخر حربية كبيرة. وكانت البعثة الفرنسية التي تضمّ عددا كبيرا من الأعضاء جرى انتقاؤهم بعناية قد حظيت باستقبال من طراز رفيع عند نزولها على اليابسة، غير أن الانطباع الأول لدى شينيي لم يكن طيبا خاصة عند رؤيته تلك الأراضي الجرداء التي جعلته يشعر بخيبة الأمل، كما أنه لم يعجب بألعاب الفروسية الفوضوية والعنيفة التي تجري على الشاطئ تشريفا لهم، وبدون شك فقد منعته ذهنيته الكلاسيكية المجبولة على الدقة والانتظام من التعاطف مع هؤلاء الفرسان العرب ذوي الألبسة الفاقعة والحركات الصاخبة.
وقد انتقلت السفارة بعد ذلك إلى مراكش عبر أراضي قاحلة بدت لشينيي وكأن حرائق قد أتت عليها. وأثناء الطريق حظيت البعثة الملكية بكل التشريفات الممكنة. وعندما بلغوا العاصمة خص السلطان السفير باستقبال يليق بمقامه وجرى توقيع معاهدة السلام يوم 30 ماي 1767.
وقبل أن يودع السلطان سيدي محمد، قام الكونت برونيون بتقديم القنصل العام الذي سيمثله في المغرب، حيث سيقيم إلى سنة 1782، أي على امتداد حوالي خمس عشرة سنة.
لقد كان لويس دو شينيي (وقد تخلى أبناؤه بعده عن جزيئة «دو» الدالة على أصله النبيل)، قد عمل قبل ذلك في القسطنطينية كملحق بالسفارة، وهناك تزوج من فتاة يونانية فائقة الجمال اسمها إليزابيث سانتي-لوماكا، أنجبت له عددا من الأطفال سيشتهر من بينهم الشاعر أندري والكاتب ماري-جوزيف. وبما أنه كان يعاني من ضيق في ذات اليد فقد قبل المنصب المغربي الذي اقترحه عليه شواسول، وهكذا انتقل للعيش في هذا البلد وهو في سن الخامسة والأربعين تاركا أسرته كاملة في فرنسا. وإذا كان قنصلنا يكشف في رسائله عن بعض المرارة فإن السبب الأول في ذلك هو اضطراره إلى العيش وحيدا في المغرب، كما أن ظروفه الحياتية لم تكن تسهّل عليه تجاوز المضايقات التي كان يعاني منها في أداء مهامه.
وقد بدأ شينيي بالاستقرار في مدينة أسفي، غير أنه عانى فيها من الغربة كثيرا. ومع أن مرسى المدينة كانت كما يقول جد جميلة إلا أنه كان من الصعب الرسو فيها في معظم الأوقات. أما الضواحي فقد كانت كئيبة وقاحلة، لأنها كانت عبارة عن أراضي شاسعة ولكنها تفتقر إلى الماء والزراعة. وأما السكان فقد لاحظ عليهم الفظاظة وشدة التمسك بالخرافات والعوائد البالية بالنسبة لشخص أوروبي. فقد كان المسيحيون في أسفي مضطرين إلى الخضوع لتلك العادة المهينة التي تقضي بترجلهم عن جيادهم للدخول إلى المدينة، كما كان على اليهود أن يسيروا بأرجل حافية. وقد رفض شينيي القبول بهذا الأمر وهو يتباهى بكونه أول مَن تمرد على ذلك «الاستعباد المضحك».
بعد مضي بضعة شهور على إقامته في أسفي، سيعرض شينيي على الفرنسيين إمكان نقل القنصلية إلى مدينة سلا بدعوى أنها أكثر ملاءمة لتطوير مصالح التجارة، (94) وابتداء من 1768 سيستقر فعلا عند مصب نهر أبي رقراق.
غير أن مقر سكنى شينيي لم يكن تحديدا في سلا كما فهم بعضهم، استنادا إلى الصور المغلوطة التي التقطت لما يُظن أنه منزله السلاوي، ومن هنا ينبغي الاحتياط من الشهادات الشفوية التي يدلي بها السكان المحليون. وفي الحقيقة فقد كان يقطن بمدينة الرباط في سكنى تقع في زقاق لا منفذ له من شارع القناصل الذي يطل على ضفة أبي رقراق. غير أن الرباط كانت في ذلك الحين تحتفظ باسم سلا الجديدة، تمييزا لها عن سلا القديمة التي كانت تقوم في الضفة الشمالية لأبي رقراق. والحال أن المدينتين كانتا تتشكلان من نفس الساكنة، وكانت إحداهما تمثل ضاحية للأخرى، وفي ضاحية الرباط كان يقيم الأوروبيون. وشينيي نفسه يقدم تدقيقا في الموضوع حين يشير إلى موقع سكناه حين يذكر أنه عندما يكون مدعوا إلى سلا القديمة يتوجب عليه أن يجتاز النهر.
ويبدو أن قنصلنا قد باشر أداء مهامه بكل إخلاص في سلا، تدلنا على ذلك رسائله التي كانت تشير إلى جهوده في تطوير وتوسيع التجارة الفرنسية بالمدينة. بيد أن السلطان كان ذا مزاج متعكر، ففي يوم يسمح بتصدير الحبوب، وفي اليوم الآخر يقوم بمنعه، مما كان يجعل التجار في حيرة دائمة ويعرّض معاملاتهم للخسارة. ولم يكن شينيي يخشى من الإدلاء بملاحظاته للملك لما فيه المصلحة العامة، ولكن تدخلاته لم تكن مرحبا بها إذ لم يكن يقام اعتبار لكلمة القنصل. وقد كان هذا الأخير يتألم لهذا الأمر كثيرا. وهو يتذكر ذلك ويشير إليه في كتابه الذي نعثر فيه على أفكار مناهضة لهذا الاستبداد والعواقب المؤسفة التي يؤدي إليها.
(95)
ومع أنه كان يبذل كل ما في وسعه لتحسين الوضع، فإن شينيي كان يلاقي الإخفاق على الدوام لأن نزوات السلطان كانت تقوّض كل جهوده. ومن جهة أخرى كان يعاني من مصاعب مالية بسبب عدم انتظام توصّله براتبه. وبعد أن أخذ منه الملل المتعاظم كل مأخذ ها هو يلتمس إعفاءه من منصبه. غير أنه لن ينال سوى إجازة للذهاب إلى فرنسا، وحتى هذه الإجازة اتخذت مظهرَ مهمة لأنه سيطالب بمرافقة مبعوث للسلطان مكلف بتبليغ التهنئة بمناسبة جلوس الملك لويس السادس عشر على العرش.
وبعد انقضاء هذه الإجازة سيعود شينيي إلى سلا مزودا هذه المرة بصفة أعلى من رتبة القنصل، حيث جرى تعيينه «قائما بأعمال الملك» لدى سلطان المغرب. وفي الحقيقة لم يكن الأمر يتعلق بترقية بالمعنى المألوف للكلمة، ولكن بنوع من الالتفاف على قرار سيدي محمد الذي كان قد أعلن بأنه لن يقوم باستقبال القناصل العاديين، ومن هنا كان من الضروري القيام بترقية ممثلنا الرسمي.
بعد مدة قليلة من عودته إلى سلا (نحن في سنة 1775)، سيقرر شينيي الذهاب لمقابلة السلطان الذي كان يقيم حينئذ بمدينة مكناس. ومن الصفحات التي خصصها في كتابه للمغرب،يبدو أنه قد احتفظ من هذه الزيارة بذكرى طيبة عن هذه المدينة وحسن استقبال ساكنتها. على أنه إذا كانت مكناس قد راقت لرحالتنا، فإنه قد تكدر من استقبال السلطان بصفته قائما بالأعمال. فقد كان استقبال سيدي محمد يفتقر إلى اللياقة. وربما كان السبب في ذلك أن الشريف كان يتصور أن ممثلنا لا يستجيب كفاية للمتطلبات الشخصية التي كان ينتظرها منه. وهذا ما سيتأكد بعد ذلك عندما سيبعث السلطان مندوبا للويس السادس عشر طالبا منه، ضمن طلبات أخرى، أن يعين لدى جنابه قنصلا أكثر حرصا على تلبية رغباته. وفي أعقاب هذه السفارة التي لم تحظ بالقبول، سيقوم شينيي بزيارة لسيدي محمد محملا برسالة من الملك، غير أن السلطان سيسيء مجددا استقباله وسيصرفه بطريقة خالية من اللطف ومن دون أن يطلع على الرسالة. وهنا سيتوصل شينيي من السلطان بأمر الذهاب إلى مدينة طنجة حيث قرر أن تكون إقامته. ومع أن شينيي شعر بالاشمئزاز فإنه خضع للأوامر الشريفية، ولكنه طالب مقابل ذلك بالعودة إلى بلاده. وسيمكث في طنجة عاما آخر، وللرد على إهانة السلطان لن يعوض سوى بممثل من رتبة نائب قنصل.
ولما كان شينيي قد بلغ الستين من عمره، فإنه قد أخلد للتقاعد وجاء للعيش في باريس حيث تنتظره عائلته. وكان خلال مقامه في المغرب، عدا الرسائل التي حررها، قد جمع مادة مؤلف تاريخي كبير حول المغرب. وانشغل بترتيب ملاحظاته وذكرياته. وهذا الكتاب سينشر سنة 1787 تحت عنوان «أبحاث تاريخية حول المغاربة وتاريخ إمبراطورية المغرب». وسيصادف هذا الكتاب بعد نشره بعض النجاح،وسيترجم إلى اللغة الإنجليزية. ويعترف الجميع بأن مادة هذا الكتاب جديدة استطاع هذا المؤلف أن يبرز أهميتها. ويبقى علينا، ونحن نقوم بتحليلها بإيجاز، أن نؤشر على ما يستوقفنا منها.
يتضمن المؤلف الذي كتبه لويس دو شينيي ثلاثة مجلدات، فيما يلي تفصيلاتها الأساسية:المجلد الأول مكرس لموريطانيا القديمة، انطلاقا من الأزمنة الغابرة إلى مجيء العرب واستقرارهم في بلاد المغرب. أما المجلد الثاني فيتناول سيادة ملوك المغرب على إسبانيا، ثم طردهم من شبه الجزيرة. أما المجلد الأخير فموضوعه الخاص هو التاريخ المحلي للإمبراطورية المغربية تحت الدول المختلفة، إلى قيام دولة الشرفاء التي كانت تحكم البلاد خلال إقامة شينيي. ويتضمن هذا الجزء (97)أيضا وصفا للبلاد مع ملاحظات حول الإدارة وعوائد الساكنة المغربية. وانطلاقا من استعراض مواد هذا الكتاب يبدو من السهل التمييز فيه بين قسمين كبيرين: أولا محاولة لتشكيل تاريخ المغرب، ثم لوحة عن المغرب خلال القرن الثامن عشر.
وعلينا أن نقرّ منذ البداية بأن المجلدين الأولين لا يتضمنان أية فائدة تذكر بالنسبة لنا اليوم. ذلك أن المؤلف لم يكن يتوفر لا على الوثائق ولا على المنهج الضروري لمواجهة مشروع بهذا الاتساع. وفضلا عن ذلك فإن ما سجله فيها من التاريخ المغربي ينصب على الدول التي تعاقبت عليه أكثر مما يؤرخ للبلاد نفسها. ولذلك تبدو المعلومات التي ساقها في هذه الأجزاء متقادمة وعارية من الأهمية. وفي مقابل ذلك يحتفظ المجلد الثالث بقيمته: ومن ذلك أولا أنه يشكل مصدرا أساسيا لكل ما يتعلق بحكم السلطان سيدي محمد (وقد كان شينيي بالفعل في موقع له بالحديث عن هذا العهد)، ثم إنه في المقام الثاني يرسم صورة للمغرب جد مهمة عن هذه المرحلة، ذلك أن قنصلنا يروي فيها، بنبرة شخصية أحيانا، كل ما شاهده خلال مقامه وعبر أسفاره المتعددة داخل البلاد.
وبالرغم من بعض الجفاء في الأسلوب، فقد أمكنه أن ينظر إلى ما حوله نظرة ثاقبة وأن ينجح في التعبير بكامل الوضوح عن رؤيته. وبما أن شينيي كان كلاسيكيا، فقد كان يصف في جمل بسيطة كل ما تقع عليه عينه من مشاهد طبيعية أو عمرانية. فهو مثلا يصف موقع مدينة فاس كالآتي: «تقوم المدينة في سافلة واد صغير تحيط بها مجموعة من التلال مما يعطيها مظهر حفرة مسطحة.» ويصف موغادور (الصويرة) قائلا: «كانت أزقتها مصطفة في نظام تام، وليس هناك مدينة في هذه المملكة شيدت بمثل هذه الدقة والانتظام.» ويصف مراكش بقوله: «تقع المدينة في سهل منبسط مزروع بأشجار النخيل، وتحيط بها جبال الأطلس التي تعطيها مظهرا جذابا.» وكما نرى فهو يقتصر على ما هو أساسي. وقد تبدو اليوم هذه الأوصاف فاترة إلى حد ما، خاصة عندما نقارنها بتلك الأوصاف المسهبة التي برع فيها مَن جاء بعده من الرحالين، (98) غير أن جمل شينيي البسيطة هي التي قام هؤلاء بالنسج على منوالها. ومن دون شك أن كتابة شينيي تفتقر إلى بعض النضارة، حيث تقتصر على رسم الأشكال دون الألوان. وسيكون علينا أن ننتظر حلول رحالي القرن التاسع عشر لننعم بالمشاهد الزاهية، ذلك أن أهل القرن الثامن عشر لم يكونوا قد تمكنوا بعدُ من براعة التصوير.
وإذا كان شينيي يغفل عن الألوان فإنه على الأقل كان يركز على الجزئيات التي تميز المشاهد. ففي مكناس يتحدث عن البساتين المغروسة بأشجار الزيتون التي تسقيها جداول الماء الوفير، وعن الهضاب المزروعة التي تملأ الضواحي، ويذكر أن خضرها وفواكهها ذات مذاق سائغ، وهو يجعل خصوبة الأرض سببا في دماثة السكان وحسن وفادتهم. وهو يصور بدقة فائقة أجواء مراكش المدينة المهملة ذات الأحياء المتباعدة عن بعضها البعض والبيوت المقفرة أو المتسخة التي صارت ملجأ للعقارب والثعابين والذباب. وعند حديثه عن فاس يأخذ على ليون الإفريقي وصفه مفرط الحماس الذي سينقله عنه بحسن نية كثير من المؤلفين من دون أن يتجشموا زيارة تلك البقاع بأنفسهم. «لا تتوفر هذه المدينة التي قمت بزيارتها سوى على أثر واحد جدير بالاهتمام هو مسجد القرويين (يخطئ في رسم الاسم)، ولا تكتسي بيوتها من الخارج أي مظهر جميل، أما الأزقة فسيئة التبليط وشديدة الضيق بحيث لا يستطيع أن يعبرها فارسان متواجهان في كثير من الأماكن، ودكاكينها سيئة الزخرفة ليست أكبر من حوانيت صغيرة لا تتسع لجلوس أكثر من مغربي مديني يقبع محاطا برزمه التي يعلن عنها للزبناء.» وهنا نلاحظ بأن أسلوب شينيي واضح وواثق، وبغير حاجة إلى مزيد من الإطناب.
وهكذا فطريقة شينيي في الكتابة لم تكن تختلف عن الأسلوب المتبع في عصره. كما أننا نعثر لديه على بعض الأفكار العزيزة إلى قلب فلاسفة القرن الثامن عشر. وهناك أمثلة عديدة عن مذاهبهم (99) تظهر في كتابه. ومن ذلك هذا المشهد الرعوي الذي يذكّر بنظرية العصر الذهبي، ونظرته إلى «المتوحش الطيب». يتحدث مؤلفنا عن الحياة القروية في المغرب: «يعيش المغاربة الذين يقيمون في البادية حياة غاية في البساطة، أشبه ما تكون بحياة الإنسان في عهوده الأولى. وتعمل التربية والمناخ وصرامة الدولة على التقليص من حاجات السكان الذين تمدّهم أراضيهم بحليب وصوف قطعانهم، وكل ما يحتاجونه من مأكل وملبس». ثم يحدثنا بعد ذلك عن «حرارة استقبال رؤساء القبائل لضيوفهم من الأجانب في خيامهم، ويهيئون لهم قضبان الخراف المشوية التي يقدمونها في صحون من خشب. وقد أتيح لي أكثر من مرة أن أدعى لمثل هذه الولائم التي تحظى عندي بساطتها بكل الاحترام، وتجعلني أحلم بأنني في خيمة أحد شيوخ القبائل البدائية».
وبعد هذا المقطع الذي يحيلنا على الحياة البرية الغابرة، ها هو شينيي يحدثنا عن الأسد مستعيرا لسان أحد فلاسفة عصره قائلا: «هذا الحيوان النبيل والمتوحش الذي جعل منه القدماء ملكا للحيوانات لا يعترض طريق البشر..ربما لأنه يعيش طليقا، ذلك أن هذه الحيوانات تكون أقل شراسة في إفريقيا عنها في أوروبا حيث تكون معروضة للمشاهدة في أقفاص مغلقة.»
إن علينا أن نضع أنفسنا زمنيا في الموقع الذي يوجد فيه المؤلف إذا ما أردنا أن نوفيه حقه. وهكذا سنفهم على نحو أفضل جملا كثيرة الورود لدى شينيي من قبيل: «إن حكومة مستبدة لا تعمل سوى وفق ما يمليه عليها مزاجها، فهي تأمر وتقرر وتجزم من دون أن تستشير في ذلك أحدا». لقد كانت رياح الفكر الفلسفي الليبرالي قد هبّت على شينيي مثلما هبت على ابنه الذي عبّر عنها في كثير من أشعاره.
غير أن مؤلفنا يواصل كذلك القيام بمهامه كقنصل تشغله المسائل الاقتصادية. وهو لا يقتصر في كتابه على تقديم صورة بسيطة أو تصويرا موجزا عن أقاليم المغرب ومدنه، وإنما يضيف إلى ذلك ملاحظاته عن حركة الملاحة في الشواطئ عندما يتحدث عن المراسي، وعن الإنتاج الزراعي حينما يتحدث عن الأقاليم، كما يدلي باقتراحاته حول أنواع التجارة الممكن إقامتها في تلك المناطق. وتبدو تلك الآراء التي كان يبديها متميزة بالدقة والحصافة. ومن المهم بالنسبة لنا اليوم أن نقف عند بعض تلك الملاحظات التي كان يخص بها بعض المناطق وكأنه يتنبأ فيها بما ستصير إليه من تنمية، وفي أقل الأحوال ما تحبل به من ثروات مستترة. وأكثر من مرة كانت الأحداث تؤكد تلك التوقعات التي أشار إليها قنصلنا قبل مائة وخمسين سنة.
ومن ذلك أن شينيي عندما طلب نقله من مدينة أسفي إلى الرباط/سلا كان على وعي مبكر بالأهمية الاقتصادية التي ستؤول إليها المنطقة بفضل موقعها. يكتب في هذا الصدد «تقع الرباط على الجهة الجنوبية لنهر سلا، وهاتان المدينتان تجاور إحداهما الأخرى بحيث لا يجوز الفصل بينهما. وفي الماضي كانت هناك العديد من المنشآت التجارية في الرباط، ولكن مصاعب الإبحار على هذا النهر، والعوائق الناجمة عن قرارات الملك الاعتباطية، كل ذلك نفّر الأوروبيين من العمل بها. ومع ذلك فالرباط تظل المدينة الأنسب للتجارة البحرية بحكم قربها من أوروبا وبفضل الكميات الوافرة من الصوف والجلد والشمع التي تتوفر عليها. كما أن موقعها في وسط المملكة يجعلها قادرة على أن تستقبل بسهولة أكبر الواردات الآتية من أوروبا.» ونحن نعرف أنه منذ بداية عهد الحماية (101) سيختار ليوطي الرباط لتكون عاصمة للمغرب الجديد.
وعند حديثه عن سهل الشاوية، الذي يسميه شينيي تامسنا، انبهر بحقول القمح الشاسعة «حيث تحتوي السنبلة الواحدة في المعتاد على سبعين حبة» وقد تحققت توقعاته بصدد خصوبة هذه الأراضي. وفي نفس هذه المنطقة سوف يتنبأ بقيمة ذلك المرفأ الصغير المسمى أنفا (الدار البيضاء اليوم) الذي سيصير منفذا للإقليم على البحر.وهو يسجل أنه «على بُعد أربعة فراسخ إلى الجنوب من فضالة، توجد أنفا التي تسمى أيضا بالدار البيضاء. وهي عبارة عن أطلال لمدينة كانت في الماضي مستعمرة برتغالية. وهذه المدينة التي يقطنها بعض المغاربة في أكواخ، تعتبر مرسى جيدة وتوجد على سهل واسع مؤهل لإنتاج مزروعات بالغة الوفرة.»
«وإذا كانت فراسة شينيي صائبة بشأن الرباط والدار البيضاء، فإنه لا يتوقف عند هذين المثالين في كتابه. ففي الطريق بين فاس ومكناس وهو يشاهد تلك التلال المقفرة والحقول الجرداء نجده يأسف لكون «هذه الأراضي الغنية والخصبة تُترك عارية من المزروعات»، بينما بوسعها أن تنتج محصولات غزيرة. وغير بعيد عن هذا المكان يلاحظ بأن «الأرض التي تمتد جهة الغرب كثيرة الحجارة وسهلة الفلاحة، وستكون صالحة لزراعة الكروم أكثر منها لزراعة الحبوب.» وبصدد هاتين النقطتين الأخيرتين كذلك سيؤكد المستقبل صحة تكهنات شينيي.
إننا نلاحظ على أحكامه، كما على أوصافه، نفس الرصانة والاتزان الموروثين عن العصر الكلاسيكي. فهو يتأمل الأشياء بهدوء، ويدوّن ملاحظاته في أسلوب بسيط ولكن لا تخطئه الدقة أو يكتنفه التحذلق. وإذا كان تصويره للمغرب يتضمن بعض مظاهر النقص فإن ما قام به يعتبر أفضل ما يمكن أن تخطّه يراع (102) رحالة من القرن الثامن عشر، غير أنه بفضل الذكاء والفضول الذي كان يتميز به سيجعل من هذا القسم من مؤلفه مصدرا مثيرا لاهتمامنا.
لقد نُشر كتاب لويس دو شينيي سنة 1787. وبذلك يمكن اعتباره آخر مؤلف حول المغرب ظهر في القرن الثامن عشر، كما كانت بعثة الكونت برونيون آخر سفارة ديبلوماسية إلى المملكة الشريفة على عهد النظام القديم. وبعد فترة من الصمت استغرقت حقبة الثورة الفرنسية وحكم نابوليون الأول (9)، سنشهد تدشين مرحلة جديدة في تاريخ الغرائبية المغربية. ويتعلق الأمر بالمرحلة المعاصرة التي تبدأ مع احتلالنا للجارة الجزائر. ولكن قبل أن نباشر الحديث عن هذه المرحلة يبقى في جعبتنا بعض ما نختتم به كلامنا عن القرن الثامن عشر.
من بين بنود المعاهدة التي وقعها برونيون يوجد بند يقضي بإطلاق سراح آخر الأسرى الفرنسيين المعتقلين في المغرب. ومع أن شروط هذا الإفراج كانت باهظة فإنه انطلاقا من هذا التاريخ لن يعود هناك ذكر للقرصنة أو الأسر. ومع ذلك، فخلال تصفحنا للببيوغرافيا المغربية سنتمكن من العثور، بعد وقت قصير من صدور كتاب شينيي، على عنوانين أو ثلاثة عناوين لمؤلفات مثيرة لبعض الالتباس. يتعلق الأمر بمؤلفات كل من فولي وبريسون وصونيي (10). غير أن حكايات الغرق والأسر هاته إنما حصلت على الخصوص (103) في أقصى الجنوب أو في الصحراء نفسها، وفضلا عن ذلك فهي تدور حول وقائع معزولة، وحالات خاصة، أي ليست لها أية صلة تذكر بالقرصنة أو حوادث الأسر التي عرفناها سابقا. وكان أصحابها قد تعرضوا لحوادث في عرض البحر، ولم يكونوا قطعا ضحايا القرصنة المغربية. إنها حوادث غرق لسفن وأسر لمسافرين من طرف مغاربة رحل من الصحراء. إن هذه الكتب تخص إفريقيا الغربية أكثر مما تتعلق بالمغرب بحصر المعنى. ذلك أن عهد القرصنة وأسر المسيحيين كان قد ولى بغير رجعة.
وبعد هذا التاريخ أيضا، ستتوقف رحلات الفرنسيين إلى المغرب. وعلى أي حال فلم نعد نجد لها أثرا في النطاق الأدبي. وكان النائب السابق بروصوني، الذي توارى عن الأنظار خلال الثورة، قد عيّن بعد ذلك قنصلا في موغادور، قد قام برحلة استكشافية في البلاد لحساب أحد المعاهد بين 1797 و1801 جاب فيها المغرب من جنوبه إلى شماله. وقد شاركه في العديد من أبحاثه القس دوران، الذي كان عالم نبات وجمّاعة للأعشاب. ولكن لا أحد منهما ترك شيئا مكتوبا عن رحلته. وهكذا يتأكد أن كتاب شينيي كان هو آخر عمل يظهر حول المغرب في هذا القرن.
ويمكننا أن نجازف بالقول، بأنه بغضّ النظر عن بعض حكايات الأسر والافتداء التي نشرت في بداية هذا القرن، والتي تتصل بمرحلة القرصنة، فإن كتاب شينيي يعد من المؤلفات النادرة التي كتبت عن المغرب خلال القرن الثامن عشر. ومن حقنا أن نستغرب كيف أنه، خلال كل هذه الحقبة المولعة بالغرائبية، لم يجتذب المغرب فضول كتابنا. والحق أن هذه المرحلة قد شهدت تحول الاهتمام الغرائبي نحو المشرق، أي باتجاه تركيا وبلاد فارس والصين. وهناك بعض الأسباب التاريخية التي تفسر لنا هذه الميل الجماعي نحو الشرق خلال القرن الثامن عشر. وهي نفس الأسباب (104) التي ستجعلهم يزهدون في الرحلة إلى المغرب. لقد سبق أن قلنا بأن المغرب لم يظهر في المجال الأدبي سوى بتأثير من الاهتمام به سياسيا. ففي فترة السلم هاته التي عرفتها علاقتنا مع هذا البلد سيتوقف بصورة كاملة تقريبا كل إنتاج مكتوب متعلق به. وسيكون علينا أن ننتظر حلول القرن التاسع عشر، بل الثلث الثاني منه، لكي تبرز من جديد الرحلات الفرنسية إلى المغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.