كلما اختلى بنفسه في شقته بإحدى عمارات بنجدية بالدارالبيضاء، يحمل مغارة فريواطو على ظهره ويطير بها نحو السماء، فعلى مقربة من تلك المغارة، وضعته والدته في إحدى ليالي 1945? لقد كان أحمد بوزفور- قبل أن تأسره حارات الدارالبيضاء- قروياً حزيناً يشق عمره كالمحراث الصغير بين القصص? ورغم تلك النار المندفعة كماء الجداول حول الرئتين وأمام مصب القلب، ورغم البئر المقلوبة والعطش وزهرة والجدران، فإن رائحة العنب والتلال الجرداء ماتزال متخمرة في كتاباته? يمشي في شوارع الدارالبيضاء كمل لو كان في نزهة على الشاطئ? غالبا ما تصادفه في المساء متخفيا وراء نظارتيه الطبيتين، يمشي لصق الحائط وتحت إبطه جريدة أو كتاب؛ وتحت معطفه، لو كنت تدري، أوراق مطوية بعناية? وحين تهش له يبتسم ورأسه ممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات? وحين تحدثه يستمع أكثر مما يتكلم? وحين تطفئ في وجهه بارقة أمل، لا يصرخ في وجهك: «عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش»، بل يكتفي بالنظر إلى ما وراء الأبواب المغلقة?? ويحرضك برفق على طرق الأبواب وإشعال الشموع بدل لعن الظلام! هو الآن، بعد إحالته على التقاعد سنة 2005، مازال منشغلا بمطبخه الداخلي? يكتب ويكتب ويمزق ويخرق ويلاقي الأصدقاء في مقهى تطل على حديقة مردوخ، ويشتاق إلى طلبته بكلية الآداب عين الشق، وإلى الشعراء الصعاليك، وإلى كل تلك القلوب التي غمرته بسماء زرقاء من الحب والاحترام? لم يسبق لأحمد بوزفور أن ارتدى بزة رسمية أو ربطة عنق، ولم يسبق لحذائه أن كان لامعا، ولا لثيابه أن كانت مربوطة بالإسمنت. فقد جمع في جمجمته بين حرية الغجري وأنفة البدوي وأناقة الجنتلمان. وحين جفت العروق وثبت الأجر، نادم تشيخوف وموباسان وكافكا وعزيز نيسين ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله وزكريا تامر ومحمد خضير وعبد المجيد جحفة ومصطفى جباري ومحمد رقيد وبوجمعة أشفري وإدريس الخوري، ومازال ينادم التنين في الصيف، لأنه لم يألف قط الجدران ليسند جذعه إليها، ولم يألف الإقامة في عصر الجبن والذعر? لأحمد بوزفور، بعد أربعين سنة من الخمَّارات والسجون والمنافي، خمس مجموعات قصصية: (النظر في الوجه العزيز- الغابر الظاهر - صياد النعام- ققنس، قالت نملة)، ودراستين نقديتين (تأبط شعرا - الزرافة المشتعلة) ومقالات لا تحصى مازالت تحتاج لمن يصطادها من بطون الصحف والمجلات والدوريات، ليعتقلها في كتاب. وله قبل هذا وذاك، حياة بألوان العالم كلها، ولم يسبق له أن ادعى أمام أحد أنه كان يكتب كصاحب تيار أو مدرسة. والآن، وذراعه في الشيخوخه وسريره في الزمهرير، مازال بوزفور يتشبت بملاءة زهرة ويحن إلى ذلك الطفل المبلل بالمطر.. إلى ثدي الأم المملوء بالشاي والزيت والحليب.. إلى جرة العسل.. إلى الخبز المحمص، وبرد الطفولة ومطر الشتاء.. إلى التواءات الطريق الجبلية.. إلى ثلج تازة.. إلى المواقع والأسماء والأحراش وماذا يشرب الأطفال والمؤامرة والجبل الأقرع والمغارة والآتي.. «لا تسكت. إبك. لا تبك الأمس ولا تبك اليوم. إبك الآتي. فالآتي تيه. والآتي لا دمعة في عينيه. والآتي لن يلقى أحدا يبكيه. والآتي مهجور من أبويه. والآتي... والآتي... والآتي..».