تركيا.. أزيد من 64 مليون مسافر عبروا مطارات البلاد خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025    حريق مهول يلتهم محلاً لمواد التجميل في طنجة (فيديو)    كأس إفريقيا لكرة القدم لأقل من 20 سنة.. المنتخب المغربي يتأهل لنصف النهائي ويحجز بطاقة العبور للمونديال    مندوبية السجون توضح بخصوص زيارة الزفزافي لوالده    الجزائر بين توتر السيادة ومأزق الاصطفاف الفرنسي مع المغرب أو حين تستغل الأعراف الدبلوماسية كسلاح سياسي.    كارلو أنشيلوتي مدربا لمنتخب البرازيل حتى مونديال 2026    تعيين وكيل عام جديد لدى محكمة النقض رئيسا للنيابة العامة وثلاثة أعضاء بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية    وهبي: يمكننا تحقيق أشياء عظيمة والمهم هو بلوغ نهائي كأس إفريقيا    نصف نهائي ناري لكأس إفريقيا ينتظر أشبال الأطلس    فريق الرجاء يكتسح شباب المحمدية    مجلس وزاري برئاسة الملك.. إصلاحات عسكرية وتعيينات استراتيجية ومشاريع إنمائية    هشام بلاوي.. مسارٌ حافل يقوده إلى رئاسة النيابة العامة بالمغرب    تعيين محمد عكوري مديراً عاماً للمجموعة الصحية الترابية بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة    العدالة البلجيكية تضرب بقوة.. "بلاك" خلف القضبان و"الجزائري" في قبضة المغرب    تعزيز التعاون الثنائي محور انعقاد الدورة الاولى للجنة المشتركة بين المغرب وجمهورية بوروندي    تزامنا مع عرض مسرحية صينية بالرباط.. السفير الصيني بالمغرب يشيد بمستوى العلاقات الثقافية بين بكين والرباط    إخراج السجناء لزيارة أقاربهم المرضى أو لحضور مراسم دفن أقاربهم المتوفين.. مندوبية السجون توضح    حادث عرضي يخضع بنكيران للراحة    المبادرة بطنجة تقود مسيرة حاشدة ضد سياسة التجويع بغزة    حماس تفرج عن الرهينة عيدان ألكسندر    مناورات "الأسد الإفريقي" تنطلق بأكادير لتجويد قدرات الحروب الحديثة    معتقل حراك الريف نبيل أحمجيق يحصل على الماستر بميزة "حسن جدا"    التامك: الرقمنة مدخل لتأهيل الفضاءات السجنية والتصدي للجرائم المتطورة    "العصبة المغربية": وصل الإيداع حق    الجوق السمفوني الملكي يمتع جمهور مدينة الدار البيضاء    السعدي: التكوين المهني السبيل الوحيد لإنقاذ الحرف المهددة بالانقراض    المغرب يتوقع ارتفاع صادراته لمصر إلى 5 مليارات درهم بحلول 2027    رسميا: أنشليوتي يقود منتخب البرازيل    الحكومة تقر بغلاء أسعار العقار بالمغرب وتؤكد أن برنامج دعم السكن حقق أهدافه    الخزينة العامة للمملكة تكشف المداخيل الجمركية    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    15 فيلما مطولا تتنافس في الدورة 25 لمهرجان خريبكة الدولي للسينما الإفريقية    سلطات دار أقوباع تمنع تجار الفخار من احتلال الملك العمومي    أحزاب المعارضة بالبرلمان تقترب من إسقاط حكومة أخنوش وهذا مضمون الملتمس    بابا ليو الرابع عشر يطالب بإنهاء العنف في غزة وإيجاد تسوية سلمية في أوكرانيا    الفنان سعيد الشرادي يحيي حفلا فنيا بمدينة مراكش    حكيمي أفضل لاعب إفريقي في فرنسا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مبيعات الإسمنت تجاوزت 4.52 مليون طن عند نهاية أبريل الماضي    القضاء يمنع مصطفى لخصم من مغادرة التراب الوطني بعد متابعته بتهمة تبديد المال العام    نداء العيون-الساقية الحمراء: الدعوة لتأسيس نهضة فكرية وتنموية في إفريقيا    أمريكا والصين تتفقان على خفض الرسوم الجمركية وتهدئة التوتر التجاري    حزب العمال الكردستاني يعلن حل نفسه وإنهاء الصراع المسلح مع تركيا    ترامب يشيد بالحصول على طائرة رئاسية فاخرة من قطر    ماذا نعرف عن أسباب وأعراض متلازمة مخرج الصدر؟    هذه هي حقيقة توقف مجازر الدار البيضاء في عيد الأضحى    الجيش الملكي يتأهل لعصبة الأبطال الإفريقية    ندوة علمية بالحسيمة تسلط الضوء على التراث الثقافي بإبقوين ورهانات التنمية السياحية    "ريمالد" تنشر لعثماني عن الحكومة    المغرب والصين: تعاون استراتيجي يثمر في التصنيع والطاقة الخضراء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طارق البشرى يكتب عن: الدولة والدين فى الوطن العربى

موضوع هذه الورقة هو النظر فى مسألة الدين والدولة فى الوطن العربى، عن حالة مصر بعد ثورة 25 يناير سنة 2011، من حيث مكانة الدين وأثره فى النظام المصرى، وفى إطار ما هو مدرك من صعود التيار السياسى الإسلامى إلى السلطة.
والسؤال الذى ينبغى أن يطرح فى البداية هو: التفكر فيما إذا كانت الأوضاع السياسية قد أنتجت بعد الثورة نظامها السياسى، أم أنه نظام لا يزال فى طور التخليق والإيجاد؟
والحاصل أن هذا السؤال المبدئى لم تتحدد إيجابته بعد أو بعبارة أدق لم تكتمل إجابته بعد، لأن النظام المصرى بعد الثورة لم تكتمل ملامحه وتوازناته بعد، وإن كان يسير فى هذا الطريق، وهو يتحدد عبر عملية الصراع السياسى الذى يجرى الآن بين تيارات مختلفة وقوى سياسية متباينة، ونحن فى مجرى الثورة، وحلقات أحداثها لا تزال موصولة، وأقصى ما نستطيع استخلاصه الآن هو أن نتبين حقيقة الأوضاع الجارية والقوى السياسية التى تتعامل مع بعضها البعض بالصراع أحيانا وبالجدال والمحاورة أحيانا أخرى، وهى القوى التى نتجت عن الوضع الثورى خلال العام ونصف العام المنصرمين منذ 25 يناير 2011.
عقب نجاح ثورات الربيع العربي، و صعود نجم التيار الاسلامي، حضرت العلاقة بين الدين والدولة في الوطن العربي بقوة،و في خضم المعارك السياسية التي لا تنتهي بين القوى والاحزاب والحركات السياسية المصرية، يغوص المفكر والفقيه الدستوري المستشار طارق البشري في» حالة مصر ما بعد الثورة» شارحا لنظام لا تزال ملامحه تتشكل، من خلال ورقة قدمها فى الندوة التى عقدها مركز دراسات الوحدة العربية عن «الدين والدولة فى الوطن العربى» التى عقدت خلال الفترة من 15 17 أكتوبر فى تونس، والتي تنشرها «الشروق»على حلقات
(4)
الحاصل أن الحركة الشعبية التى فجرت ثورة 25 يناير كانت صاحبة السهم الأول فى إسقاط نظام حسنى مبارك، بدأت يوم الثورة ونمت من حيث الحشود الشعبية على نحو بالغ السرعة، فوصلت إلى ما يقدر ببضعة عشر مليونا فى المدن الرئيسية والأقاليم، بما أظهر للعيان استحقاقها للوصف الثورى، تماسكا وانتظاما وحشودا وتصميما وتناميا فى كثافتها وفى مطالبها عن إسقاط النظام.
إلا أنها لم يكن لديها القيادات التنظيمية المؤسسية التى يمكن أن تحيل الحراك الثورى إلى قوة منظمة يتولد عنها ما يمكن أن يتولى السلطة أو يحل محل النخبة الحاكمة المزاحة. والأحزاب المعترف بها رسميا ضعيفة لم تعرف لها مساهمة كبيرة فى أشكال الثورة ولا فى تحريك معتبر للثائرين ولا تنظيم فعال لهم. وقد أشعل فتيل الثورة جماعات شبابية محدودة العدد، وكان الاندفاع التلقائى هو المَعين وهو ما تحولت به شرارة الإشعال إلى لهب أرق النظام السياسى القائم، وإن تحول الشرارة من إمكان إشعال سيجارة إلى استطاعة إشعال حريق مدمر لأبنية ومنشآت يتوقف على حجم الوقود المتاح، وكاد ألا يكون له وجود تنظيمى مؤثر إلا جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه وجود وإن رجح الآخرين إلا أنه لم يكن بالحجم ولا بالقدرة التى تجعله يتحكم فى مسار الحركة الثورية.
وكان ثمة قيادات فكرية وثقافية ثورية مشهود لها بالوطنية والمكافحة، بخاصة خلال السنوات الست السابقة منذ سنة 2005، وساهمت مساهمة ذات شأن وغير مشكوك فى أثرها المعتبر، وساهمت فى تهيئة الحالة الثورية التى انفجرت شعبيتها الكاسحة من 25 يناير حتى 10 فبراير، إلا أن هذه القيادات لم تكن ذات روابط تنظيمية قادرة على التحريك الشعبى المنظم بقرارات تتخذ وتعليمات حركية تتبع وأهداف تنفذ، فهى لم تكون قادرة على بلوغ الثورة هدفها وهى إحلال حكم جديد محل الحكم المزاح.
وكان ثمة حركات احتجاج شعبى وتحركات اجتماعية حاشدة، عرفها عمال المصالح فى الكثير من أقاليم مصر ومدنها وموظفى إدارات ومصالح وطوائف اجتماعية، وذلك مدة السنوات الست أو السبع السابقة، وهى يقدر عددها بالمئات من حركات التجمع والاحتجاج والاعتصام، وكانت تتراوح مطالبها من المطالب الاقتصادية المتعلقة بالأجور والعمالة، وبين المطالب المتعلقة بالحريات والإفراج عن المعتقلين، وبين المطالب الفئوية الخاصة بالمساواة، وكل ذلك نمت به ثقافة التجمع والخروج والاحتجاج حتى صارت منتشرة.
وقد أرهص ذلك للحدث الكبير، ولكن كل هذه الحركات عندما حدثت كل منها إنما حدثت بشكل متناثر ومعزول بعضها عن بعض، ولم تستطع الأحزاب القائمة أن ترتبط بها وأن تشملها بروابط تنظيمية تمكن من تحول هذا الحراك الاقتصادى الاجتماعى إلى حراك سياسى لتنظيمات سياسية محدودة ولتتأهل به للحلول محل النظام الساقط فى السلطة.
لذلك فإن هذه الثورة الجماهيرية الحاشدة التى فاجأت القاصى والدانى وفاجأت صانعيها أنفسهم بحجمها الهائل وبتناميها المطرد وبتحديها إرادة حسنى مبارك ووعيها المصمم على هدف الإطاحة به وبنظامه، وبذكائها الجماعى فى اكتشاف كل محاولات التضليل وزيف الوعود غير الحقيقية، وبقدرتها على تصعيد الموقف السياسى والتمسك بأهدافها، وبحسها السلمى ومحافظتها على السلمية فى مواجهة عنف السلطة التى مارست ضدها القتل والتجريح، وبتمييزها بين العدو والصديق أثناء الحراك الثورى، بكل ذلك فهى لم تكن ذات قيادة مشتركة تعبر عنها وتتحدث باسمها، سواء من تنظيم واحد أو من عدد متحالف من التنظيمات.
ولعل ذلك كان من توفيق الله سبحانه لهذه الحركة فى مرحلتها الأولى، لأن عدم تبلور القيادة فى أشخاص معينين وفى زعامات وتشكيلات معروفة وسبق التعامل معها، وعدم وجود من يملك من هؤلاء اتخاذ القرار المسموع بالنسبة للجماهير، إن ذلك ساهم فى شل قدرة الحكومة على أن تتصل بمن تتشخص فيهم الحركة والثورة، للتعامل معهم بالقمع أو بالعزل عن القواعد أو بالتضليل بالشائعات أو إثارة الفتن بين بعضهم البعض.
وقد عُرف أن الحكومة بمستويات عالية تصل إلى رئيس المخابرات العامة الذى عين وقتها نائبا لرئيس الجمهورية حاول الاتصال والحديث ببعض من ظن أنهم ممثلو الحركة الثورية ولم تنجح مساعيه، وكان أحد أسباب ذلك أنه لم يكن لفرد أو لعدة أفراد ولا لجماعة معينة أن تدعى أنها تملك السيطرة على الحشود الثائرة أو التأثير الفعال فى حركتها.
ويبدو أن ما ساهم فى إنجاح الثورة فى إزاحة نظام الحكم القائم رغم غياب القيادات والتنظيمات القادرة على السيطرة على حركة الجماهير هو هذه القدرة التى لدى الشعوب فى أن تندرج فى الأزمات فى حالة شعورية واحدة ينجم عنها موقف واحد أو مواقف متجانسة ،سيما إذا كانت لا تعرف فروقا ثقافية عامة آتية من الاختلافات الطائفية أو القبلية أو الاقليمية.
لكن كل هذا شىء، أما الشىء الآخر فهو ما يتعلق بما يأتى بعد إنجاز ما اجتمع الناس عليه من إسقاط النظام السياسى والنظر فيمن يحل محله وما هى السياسات التى يتعين اتخاذها، كما أن السلطة السياسية فى الدولة هى تشكيل مؤسسى يجمع إرادات وينظمها ويصدر قرارات ويدفع أفعالا من خلال جماعات بشرية منظمة، وثمة قنوات لتجميع المعلومات وتشكيلات لدراسة الواقع الجارى ونظم قانونية أو عرفية لدراستها ثم إصدار القرارات بشأنها، وتوزيع مهام العمل والتنفيذ والثورة الشعبية بغيتها فى النهاية سلطة الدولة والإمساك بمؤسسة الحكم، ولا يستقيم تحقيق هذا الأمر مع وجود فراغ مؤسسى، لأن جهاز الدولة لا يحتمل الفراغ التنظيمى ولابد لمن يمسك به أن يكون له كيان تنظيمى، وهذا بالضبط ما لم يكن الفعل الثورى الحاصل يملك منه تنظيمات تمثل مجتمعة أو منفردة هذا الشمول الشعبى الحادث، وإن أقوى التنظيمات الشعبية الموجودة وقتها لم يكن يملك من الحجم التنظيمى الفعال ما يجعلها قادرة على ذلك.
لذلك تقدم الجيش لملء هذا الفراغ، والجيش مؤسسة نظامية تخضع لشرعية الدولة القائمة ولقراراتها، وهى فى التحليل النهائى تمثل عمود الارتكاز النهائى لأية دولة، وحركة الجيش الحاصلة أثناء الثورة كانت فى بدايتها حركة شرعية بالنسبة لنظام حسنى مبارك، فإن حكومة مبارك هى من استدعى القوات المسلحة للنزول فى الشوارع لمواجهة الحركة الثورية بعد أن عجزت الشرطة عن هذه المواجهة، وبعد أن نزلت القوات المسلحة إلى الشوارع وسيطرت على المدن الرئيسية بقرار شرعى صادر لها من رئيس الجمهورية حسنى مبارك، لكنها لم تنفذ المهمة المطلوبة منها، وامتنعت عن مواجهة الجماهير بالعنف، ولا يوجد فى الثقافة المصرية الشعبية ما يذكر أن القوات المسلحة المصرية واجهت جماهير المصريين بالعنف، ونتج عن ذلك أن الجماهير الثائرة السلمية استقبلت المصفحات بمشاعر الود منذ نزولها للشوارع، ولم يكن انضمام القوات المسلحة إلى الحركة الشعبية يستدعى تحركا مضادا لشرعية الدولة القائمة لأنها هى من استدعت هذه القوات للحركة، إنما كان هذا الانضمام يأتى بموجب قرار من قيادة الجيش المتحرك بالانضمام إلى الثورة. وهذا ما حدث فى 10 فبراير عندما اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام وفى غياب قائده الأعلى حسنى مبارك وأصدر البيان رقم واحد عن حرصه على الشعب المصرى ومكتسباته، وفي اليوم التالى أعلن تنحى حسنى مبارك عن الرئاسة فى 11 فبراير.
وسدت القوات المسلحة الفراغ الحادث فى الحركة الثورية من الناحية التنظيمية، لأنه أعلن تحقيق فعل الإزاحة للنظام وسيطر على الحركة بوصفه المؤسسى، وصار شريكا فى الثورة لأنه وفر بتشكله المؤسسى ما كانت القوى الثورية تفتقده وقتها.
(5)
سبقت الإشارة إلى أن ثمة قاعدتين سياسيتين شبه مطردتين، وهما: أن من يحقق الإطاحة بالنظام القديم هو من يكون مرشحا للحكم من بعده، وإن العبرة فى ذلك بالقوى السياسية المنظمة التى تكون لها تشكيلات قادرة على إصدار القرارات وعلى الفعل التنفيذى لها، وبهذين الأساسين يمكن النظر فى أحداث ما بعد الإطاحة بنظام مبارك، لان المشهد السياسى الذى تتابعت حلقاته من بعد الإطاحة يدور حول تبين ما هى القوة أو القوى السياسية التى ستتولى الحكم منفردة أو بالمشاركة.
القوة المنظمة الأولى هى قوة جهاز الدولة المصرى، ويتعين الإشارة إلى أن هذا الجهاز كانت له مشاركاته فيما عرفت مصر من ثورات فى تاريخها المعاصر، وأولها ثورة المصريين بين 1800 و1805، وكانت مشاركة بين الحركة الشعبية تحت قيادة أزهريين وتجاريين وبين فصائل من القوة العسكرية متمثلة فى محمد على. ثم ثورة 1881 1882 التى قامت مشاركة بين القوات المسلحة برئاسة أحمد عرابى وبين جماهير مصرية عبر عنها ما عرف بالحزب الوطنى وقتها، وثورة 1919 لم تشارك فيها المؤسسة العسكرية لأن كتلتها الأساسية كانت موجودة فى السودان منذ أعوام 1896 1899، وبقيت هناك حتى خروج الجيش المصرى من السودان بإقصاء من الانجليز فى سنة 1924، ولكن جهاز الدولة المصرى المدنى شارك فى هذه الثورة بإضراب شامل له أفقد الانجليز القدرة على السيطرة على حكومة البلاد فسارعوا بالاعتراف باستقلالها فى 1922م. ثم ثورة 25 يناير الأخيرة التى بدأت بفعل شعبى ثورى ثم حسمت وقائعها حركة القوات المسلحة فى 10 فبراير، وهى ثورة هدفها الأساسى بناء التشكيلات الديمقراطية الحقيقية النزيهة المعبرة عن الشعب المصرى، فهى شعبية فى بدء اشتعالها وفى هدفها وشاركت فيها القوات المسلحة معبرة عن جهاز الدولة المصرى.
وجهاز الدولة فيما نعرف يقوم بنوعين من المؤسسات حسب أصل تشكيله الحديث، نوع يتصل بالشأن السياسى من حيث تقدير المواقف واتخاذ القرارات، ويتمثل أساسا فى رئاسة الجمهورية والوزراء وفى المجال النيابية. والنوع الثانى يقوم فى الأساس بوظائف مهنية بعيدة نسبيا عن التصدى المباشر للعمل السياسى، وهما فى الأساس القوات المسلحة والقضاء، وقد قام حسنى مبارك ونظامه بإضعاف أجهزة الدولة المتعلقة بغير حفظ أمن النظام الذى يرأسه وعمل على تفكيها، لأنها كانت جميعها قد بُنيت فى عهد جمال عبدالناصر على أساس شمولية إدارتها للمجتمع المصرى بالنسبة لإدارة الاقتصاد والخدمات والمرافق وغيرها.
وكان حرص نظام مبارك على تغيير هذه الوظائف ونقلها إلى النشاط الخاص لصالح النخبة الحاكمة الطفيلية، كان مقتضاه تفكيك روابط أجهزة الدولة، كما أن مقتضى السيطرة الفردية للحاكم على الدولة توجب على الرئيس الفرد أن يفكك كل ما هو دونه من مؤسسات العمل حتى لا تكون عنصر ضغط على إرادته الطليقة ولتكون أسلس قيادا له. وذلك فيما عدا طبعا أجهزة الأمن التى تصير تحت إشرافه المباشر هو والنخبة المرتبطة به.
لذلك صارت مؤسسات الدولة السياسية مفككة وضعيفة، والمؤسسات غير السياسية بعيدة عن النشاط السياسى، وكان أحد وسائل التعامل معها هو شغلها بمشروعات وأعمال بعيدة عن تخصصها المهنى الوظيفى، فلما انهارت دولة حسنى مبارك وأطيح معها بالمؤسسات السياسية، سواء الرئاسة أو الوزارة أو المجال النيابية، بقيت المؤسسات غير السياسية أصلا وهى الجيش والقضاء، وفى خلال أزمة الحكم التى تولدت مع الحراك الثورى تحول الجيش بقيادته المهنية التقليدية إلى العمل السياسى سدا للفراغ السياسى الحاصل كما سبقت الإشارة، وبدأنا نلمح فى القضاء نزوعا إلى التحرك السياسى من خلال الدعاوى المرفوعة أمامه.
ويلاحظ أن قيادة القوات المسلحة التى تحركت فى هذا الشأن السياسى كانت قيادة مهنية بحتة لم تتمرس فى أساليب العمل السياسى ولم تتراكم لديها خبرات سابقة فيه، لأنه كان ممنوعا عليها بحزم وصرامة الاشتباك فى العمل السياسى ولو بإبداء الآراء فيه، وكانت تتكون من قيادات عسكرية صرفت حياتها كلها فى العمل المهني بعيدا عن الخوض فى الشأن السياسى، وبلغت فى مهنتها أقصى ما يصل إليه الطموح المهنى من رتب وظيفية وفى آخر العمر المهنى، وألقيت عليهم المهمة السياسية مع الثورة بغير خبرة ولا وقت لاكتساب الخبرات فى مرحلة عمرية يصعب فيها أن يخوض الإنسان فى التجربة والخطأ ليتعلم ما لم يسبق له الاتصال به من معارض، ومن هنا نلحظ ضعف الأداء السياسى الواضح لهذه المؤسسة عندما استلمت السلطة بغير إعداد مسبق حلا لأزمة وطنية حلت.
(6)
أما القوة المنظمة الثانية فهى جماعة الإخوان المسلمين، وهى تمثل القوى المنظمة الأساسية فى النشاط السياسى الأهلى غير الحكومى، لما لها من أبنية تنظيمية تعتبر الأقوى فى مجال النشاط الأهلى فى مصر، من حيث العدد ودرجة الانضباط التنظيمى والاتساق الثقافى السائد بين صفوفها، وقد ساهمت الجماعة فى العمل الشعبى الذى شكل الجسم الأساسى للثورة الشعبية، وهى إن لم تكن من أطلق شرارات الثورة والدعوة بالتحريك لها، إلا أنها كانت بعد ذلك ذات حراك شعبى دار بدرجة من الانضباط ينبئ عنها سلوك يجمع بين إنكار الذات بعدم الإشارة إلى نشاطهم منسوبا للجماعة مع الاستعداد لتقديم التضحيات، فكان تشكلهم التنظيمى خلالها يفوق أى تشكل تنظيمى لأية قوة حزبية مفردة أو جماعة سياسية أخرى.
ولكن جماعة الإخوان المسلمين فى ثورة 25 يناير، لم تكن كما كان الوفد مثلا فى ثورة 1919م كانت قوة سياسية فعالة بما لا يقارن معها فصيل سياسى أهلى آخر، ولكنها ليست قوة حاكمة، أى ليس لها من درجة القوة ما يمكنها من أن تقود الثورة أو يكون لها القرار الحاسم فى مسيرتها وفى تزكية أى من المواقف السياسية التى تجد. هى ليست مثل وفد 1919 فى مصر، ولا مثل حزب المؤتمر فى الهند أو حزب الكومنتانج أو الحزب الشيوعى فى الصين بالنسبة للثورة التى حدثت فى كل من هذين البلدين. فهى ليست قائدة وليست ذات أغلبية حاكمة، وإن كانت ذات أغلبية مؤثرة لابد أن يعمل حسابها، وهى إن استطاعت من بعد أن تصل إلى الحكم فلابد أن يكون ذلك بمشاركة غيرها لضمان استقرار هذا الوصول.
وفى هذا الصدد ينبغي استدعاء الخبرة التاريخية لمصر، وإدراك ما يعتبر من الخصائص من هذه الخبرة. فإن وفد 1919 بوصفه تنظيما شعبيا أهليا استطاع أن يكسب من مقاعد مجلس النواب فى الانتخابات الأولى التى جرت بعد الثورة بأربع سنوات فى نهاية 1923، وفقا لدستور ونظام انتخابات أعده أعداء الوفد وقتها سواء الملك أو الأحرار الدستوريين، استطاع الوفد أن يكسب أكثر من 90٪ من مقاعد هذا المجلس. ومع ذلك لم تستمر حكومة الوفد فى الحكم أكثر من عشرة شهور استقالت بعهدا وحل مجلس النواب، وخلال ثلاثين سنة من عمر هذا الدستور فى مصر حتى 1952، جرت عشرة انتخابات منها ستة انتخابات نزيهة حصل الوفد على الأغلبية فيها جميعا بما لا يقل عن 70٪ التى حصل عليها فى 1950، ومع ذلك لم يتح له الحكم طول الثلاثين سنة إلا نحو سبع سنين وشهور ولا تزيد أقصى مدة متصلة قضاها فى كل مرة عن سنتين.
وهذا مثال أرجو به أن أوضح أن مراكز القوى السياسية فى المجتمع ليست فقط تتمثل فى الأغلبية الشعبية ولا فى التنظيم الحزبى الشعبى الواسع المنضبط، وإن القوة السياسية الفعالة المؤثرة، قد تكون مرتكزة على الأجهزة الدولة وتستمد عنفوانها منها، وقد تكون متمركزة فى وسائل الإعلام وأجهزته، بما يهيئ لها تأثيرا كبيرا على صياغة الرأى العام وإبراز مسائل سياسية يفيدها إثارتها أكثر من غيرها مع تشكيل وجها النظر لدى الأغلبية غير المعنية بالشئون السياسية وبما يرتب ردود فعل تلقائية سابقة التجهيز، وقد تكون هذه القوة السياسية متمركزة فى رجال الأعمال بما لديهم من تأثير على جمهور مرتبط بأعمالهم، فضلا عما يوجهون إليه من فوائض دخولهم ما يدعم أنشطة مؤثرة فى العمل السياسى.
عن »الشروق» المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.