هذا مشروع كتاب،سيصدر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر ضمن سلسلة»مراكشيات». يتطرق الكتاب لمسار المجموعات الغنائية من خلال السيرة الذاتية لاسم من أسماء زماننا،فنان جيل الجيلالة عبد الكريم القسبجي،مستعرضا تجربته وكثيرا من مفاصل حياته الشخصية والفنية،فالرجل متشرب للفن عمليا وتطبيقيا،مُرتوٍ حتى الثمالة بإيقاعات متنوعة ومختلفة، واقفا عند بصماته التي تركها على تاريخ المجموعات الغنائية، وعلى فرقة جيل الجيلالة بوجه أخص،بوصفه صوتا جميلا متميزا،منحها نفسا جديدا ودفقة حرارية فياضة،أكسبتها طاقة على تأكيد وجودها وفرض ذاتها أمام المجموعات الغنائية الأخرى.من هنا،يمكن القول ان الكتاب يشكل قيمة مضافة ومكسبا من حيث كونه وثيقة هامة، وثيقة فنية، وثيقة تاريخية وعصرية. يؤدي الگور طقوسه، كما تمت الإشارة إلى ذلك، في البداية بإيقاع بطيء، ومع مرور الوقت يسرع الإيقاع إلى حين بداية سطوع الشمس، ليدخل في عملية أفوسأو تافوست، حيث يتسارع الإيقاع أكثر ويدخل الشباب في موجة رقص. جمع المال، من سكان الحومة، غايته الوحيدة كانت تنظيم ما يعرف ب «النزاهة» التي تستمر لمدة 15 يوما على الأقل، في أحد جنانات مراكش الكثيرة والمنتشرة في كل الأرجاء، يومئذ قبل أن يكتسحها الإسمنت اليوم. كان الفتى عبد الكريم، ملتصقا دائما بجلاليب أفراد الگور، يجوب معهم القصبة، ينقر بجانبهم كلما أتيحت له الفرصة، ويردد معهم ما يُرددُونَه، أو ما تمكن من حفظه. سكان القصبة، كانوا ينظمون طقوس النزاهة، بجنانات أكدال، يشرف على تدبير أمورها مقدم الگوربمساعدة مجموعته، يتم خلالها شراء عجل بالمبالغ التي سبق تجميعها من أهل الحومة، يُذْبَحُ وَيأْكُلُ منه جميع رجال الحومة طيلة أيام النزاهة، كما يتم اقتناء لوازم الطبخ وأدوات النزاهة عموما. من الطقوس السائدة ليلة عاشوراء داخل الحومة، لعبة «لمشايشة»، فقبل أن ينطلق الكوربأهازيجه يجوب الحيَّ، يقام طقسُ «لمشايشة»، وهو عبارة عن مبارزة بين شابين يتم فيها استعراض القوة البدنية من خلال المبارزة بالأرجل فقط، دون استعمال اليدين، والهدف هو إسقاط الخصم من رجليه بواسطة ما يعرف في العامية ب «المقلاع»عند أهل مراكش أو «ضربو بالنص»، كما يعرف في عموم المدن المغربية، كان هذا الاستعراض يتم قبل انطلاق الكوربساعات، يشارك فيه صبية في مقتبل العمر، في انتظار المبارزة الكبرى بين أحسن «مشايشية» في الحي، وغالبا ما يكونون من فُتُواتِ المنطقة، يذكر عبد الكريم القسبجي من بينهم في تلك الحقبة سي محمد السرغيني الملقب ب مومو، الفنان المغربي والممثل المعروف والمنتج السينمائي، الذي اشتغل في عدة أفلام عالمية كبرى ضمنها فيلم الرسالة ثم سي محمد السي، الذي كان من فُتُوَاتِ مراكش، وكانت له مقهى صغيرة بالقصبة اعتبرت مَجْمَعًا لكل رجال الحي، من هذه الأجواء والطقوس كان يرتوي عبد الكريم، الذي سيصبح من زوار النزاهة،التي كانت محرمة على النساء والأطفال الذين لايصطحبهم أحد أوليائهم. يروي عبد الكريم أن سكان القصبة، كانوا يقيمون النزاهة، كما سلف الذكر، بجنانات أكدال، ومن مكر الصدف أن المنطقة تحديدا كان يطلق عليها اسم الدارالبيضاء، وكانت تتوسطها ساقية كبيرة، والدارالبيضاء، المدينة، فيما بعد هي التي ستجعل من عبد الكريم نجما داخل جيل جيلالة أيام النزاهة التي تدوم على الأقل خمسة عشر يوما، كانت فرصة مهمة للكشف عن المواهب المكنونة عند الشباب، تتخلل هذه الأيام عدة ألعاب وتسليات، بما فيها نظم الزجل والشعر و»الملاججة» الكلامية المؤثثة بالبسط والتنكيت، بالإضافة إلى الغناء والموسيقى. طيلة النهار تتوزع جماعات هنا وهناك، منهم من ينخرط في ممارسة لعبة «مالة»، منهم من يسبح في عالم الورق «كارطة»، بالإضافة إلى »ضامة»، كل هذا كان يتم ضمن استعراض فرجوي يضم ما يعرف ب »لمخاطرة» و»لمزايدة»لخلق جو من التنافس. كان هناك أيضا من يمارس المصارعة الخفيفة، وألعابا رياضية أخرى. بعد وجبة الغداء والقيلولة تُسْتَأْنَفُ هذه العروض المتنوعة إلى غاية فترة «لعكبية»، أي العصرونية،مباشرة بعد تناول الوجبة، تنطلق الألعاب والأهازيج والأغاني من فن الطقيطقات والملحون والهواري وغيرها، تؤدى صلاة المغرب جماعة، ويستأنف الغناء من جديد، ومباشرة بعد صلاة العشاء يتفرق المتنزهون، لأن معظم الحاضرين ينتظرهم عمل في الصباح، ولا يمكث منهم إلا المكلفون بالتنظيم، علما بأنه في تلك الفترة لم تكن الإنارة شائعة كما هي عليه الآن. كان عبد اللطيف ابن عم عبد الكريم، يصحب الأخير معه للنزاهة، ويقدمه للشيوخ، شيوخ الفن لأداء بعض المقاطع وعمره يتراوح بين10 و 12 سنة، حيث كان يؤدي أغاني تراثية بصوته الجميل، وكذا مقتطفات من أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش، كان الشيوخ يعجبون بصوته، ويشجعونه على ترديد المزيد من الأغاني المراكشية الشهيرة. تشرب عبد الكريم الفن المشرقي بشكل مبكر من والدته، ثم من مقهى المصرف حيث كان الوالد يأخذ عبد الكريم معه. مقهى المصرف كان موجودا قرب ضريح يوسف بن تاشفين هي مقهى ساحرة، يقول عبد الكريم، تتوسطها ساقية مياه، خريرها يغطي على صمت الرواد الجالسين وأغلبهم بالمناسبة من رواد فن «الگور» ويسابق صوت أم كلثوم، المجلجل في أركان الفضاء وجنباته، والكل ينصت إليه، من هنا بدأ عشقه للأغنية الكلاسيكية، وما زاد هذا العشق توهجا هو الطقوس الموازية، إذ كان الرجال يجلسون وكأنهم في حالة خشوع، وكأني بهم – يقول عبد الكريم – يغسلون أفكارهم، الكل شارد مع أنغام أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، حتى عن المشروبات أمامهم تراهم شاردين، في كل مرة وبعد فترة سكون طويلة، يطلع صوت من بين موائد المقهى ليتمم الجملة الموسيقية القادمة من جهاز المذياع، والعابرة من مصر إلى مقهى المصرف بدون تأشيرة.