ينتظرها كعادته قرب الباب في منتهى الصبر، يعرف أنها قادمة إليه بعد أن تصل مسامعها دقات باب بيتها المهترئ. يسمع حثيثها وهي تقطع دهليزا طويلا يفصل بين غرفتها المعتاد وباب المنزل، ولسانها حالها لا ينفك يردد آهات خفيفة مشفوعة بعبارة»الله يارب». ينفتح الباب في ثقل ، يطل منه وجه لا تكاد تظهر عليه إلا سمات التعاسة واللغوب، فقد حفرت عليه السنون أخاديد لن يمحوها إلا الموت الذي بدا متربصا بها كل حين. وتحت يدها المرتعشة يقف عكازها في صمود، يسند يدها في شفقة ويتابع ارتعاشاته يمنة ويسرة، ويقيها من الوقوع على الأرض. تُتمتم باسمه ويجيب بنعم. يسلم عليها ويقدم لها قفة بها بعض لوازم الحياة، تأخذها في ارتعاش وتضعها بجانب بابها، تفتح الباب عن آخره وتحاول الجلوس، يساعدها هو حتى تصل الأرض في ثبات، تعدل من قرفصتها، ويجلس هو الآخر جنبها،تتحسس ذراعه بيدها، وتبدأ حكاياتها. لم يكن يدرك في أول مرة قرر فيها زيارة هذه العجوز المنسية في هامش بلدتهم ومساعدتها، أنها قد تستأثر بقلبه إلى هذا الحد، فقد وجد فيها ما كان يحتاج إليه منذ أمد بعيد. كانت حكاياتها بلسما لجرح غائر في نفسه، كلما حدثه عن تاريخ البلدة وأحوالهاوأهلها السابقين وخيراتها، عن الرجال الشجعان الذين غدر بهم الزمنا فخلفوا أرامل وأيتام، كانت ذاكرة نابضة بتاريخ منسي، بل كانت التاريخ نفسه. هي الأخرى لم تكن تدرك أنها تؤنس غربته بقدر ما يؤنس وحشتها ووحدتها كل مساء، كلُّ ما كانت تظنه أنه شاب ورث الشهامة والمروءة، فصار يحسن إليها ويساعدها، فوجدت فيه أنيسا لوحشتها ورفيقا تبوح له كل مساء بسر من أسرارها التي قد انتهت صلاحية سريتها، وتزيل بذلك ركام الألم والحزن الذي ملأ ذاكرتها الهشة، حتى صارت تحس بخفة روحها وانفتاح أساريرها مع مرور الأيام منذ بدأ مجالستها. عاد نحو منزله وهو يفكر في طريقة أخرى يساعد بها هذه العجوز المنسية في هذا المكان المهجور وينقذها من طي النسيان، بدل أن يقدم لها ما لا يغنيها من قسوة الحياة ومرارة الوحدة، فلم يصل إلى مخرج. فقرر أن يبدأ بالكتابة عنها وتدوين ما ظلت تحكيه له كل مساء، فربما قد يكون في ذلك بعض من رد الاعتبار لها ولأمثالها المنسيين في زحمة هذا الكون، وإفراغ مخازن ذاكرتها النابضة بكل الأسرار الثمينة، وبعثها للحياة مرة أخرى. لكن ما بال الحياة تتربص بنا كل حين، تتركنا حتى نتمسك بشيء ما فتأخذه أخذا، وكلما فتحنا نافذة نطل منها على ذواتنا تغلقها في وجوهنا بقسوة، فتحرمنا من كل ما يبعث فينا أملا جديدا، ويدفعنا للاستمرار في التمسك به، حتى ولو كان ذلك مجرد مجالسة امرأة عجوز تخلى عنها الزمن، ردد ذلك في حزن شديد، وهو راجع من تشييع جثمان أنيسته، ويسأل نفسه: ترى أين سيجد مثلها؟، إنها مهمة صعبة أن يجول كل البيوت المهجورة بحثا عن منسية أخرى تؤنس وحشته، ويرافقها هو في طريق موتها.