قانون جديد يرفع تعويضات ضحايا حوادث السير.. تسجيل 4025 وفاة في 2024 بسبب الحوادث    حادث قطار سياحي بلشبونة... إصابة مواطنة مغربية وحالتها مستقرة    لفتيت يعقد جلسات استماع لقادة الأحزاب حول مذكراتها لإصلاح القوانين الانتخابية    الصناعة التحويلية: أرباب المقاولات يتوقعون ارتفاع الإنتاج خلال الفصل الثالث من 2025 (مندوبية التخطيط)    بدء أعمال الدورة ال164 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري بمشاركة المغرب    الأمير مولاي الحسن يدشن ملعب مولاي عبد الله بالرباط في حلته الجديدة    السلطات تسمح لناصر الزفزافي بحضور جنازة والده في الحسيمة    مغربي ضمن 11 مصابا أجنبيا في حادث القطار السياحي بلشبونة البرتغالية    الحكومة تصادق على إدراج المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي في مؤسسات التعليم العالي    المحاكم الوطنية تصدر 118 عقوبة بديلة منذ دخول القانون حيز التنفيذ    بوريطة يجري مباحثات مع وزير الخارجية المصرى على هامش مجلس الجامعة العربية    التفكير النقدي في الفلسفة كأداة للابتكار والتطوير المستمر    غاستون باشلار: لهيب شمعة    الدخول المدرسي.. عودة التلاميذ إلى المدارس تعيد الزخم للمكتبات    مونديال 2026 ( الجولة 7 -المجموعة 5) ..في مواجهة منتخب النيجر ،أسود الأطلس يسعون لتأكيد مسارهم الصحيح    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    نقابة موظفي التعليم العالي تندد ب"خروقات" خلال الإضراب الوطني وتعلن عن خطوات احتجاجية جديدة    تداولات الافتتاح بورصة الدار البيضاء    الفيفا تطلق المرحلة الأولى من بيع تذاكر مونديال 2026    الزفزافي يغادر السجن مؤقتًا لتشييع والده    مدرب ديجون السابق يشيد بنضج أكرد    جلول: الزفزافي الأب كان ضميرا حيا في مواجهة الظلم والجور وجاب الساحات دفاعا عن حريتنا    صيادلة المغرب يحتجون على "اختناق القطاع" وسط جدل أسعار الأدوية المرتفعة    ريال بيتيس يضم سفيان أمرابط على سبيل الإعارة    المغرب يوسع أسواق التوت العليق إلى 26 دولة    الإصابة تبعد أشرف داري عن معسكر الأسود            سنتان ونصف حبسا نافذا لمتهمة بالإساءة للذات الإلهية    الصين ترد على واشنطن: مكافحة المخدرات أولوية وطنية ولسنا مصدر الفوضى العالمية    لحماية الأطفال .. "روبلكس" تعطل ميزة المحادثات في الإمارات    مجزرة جديدة إثر قصف خيام نازحين    إلزام شركة "غوغل" بدفع 425 مليون دولار لتعويض مستخدميها عن جمع بياناتهم    بلجيكا تتجه نحو الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء قبل نهاية 2025    دراسة: ثلاثة أرباع واد سبو في سيدي علال التازي تُصنف ضمن "التلوث المرتفع جدا"    الذهب يستقر قرب أعلى مستوياته وسط توقعات خفض الفائدة الأمريكية    المنتخب البرتغالي مرشح لمواجهة المكسيك في إعادة افتتاح ملعب "أزتيكا" (وسائل إعلام مكسيكية)    29 قتيلا في غرق قارب بنيجيريا    الاستثمار الدولي... وضع صاف مدين ب 693,1 مليار درهم في 2024    الجديدة.. مطلب ملح لفتح شارع L وفك الخناق عن محاور حيوية بالمدينة    استعدادات تنظيم النسخة الرابعة من الملتقى الجهوي للمقاولة بالحسيمة    "ميتا" تطلق إصدارا جديدا من "إنستغرام" لأجهزة "آيباد"    الدرك الملكي بأزلا يوقف مشتبها في سرقته لمحتويات سيارة إسعاف    "آبل" تتيح نموذجي ذكاء اصطناعي مجانا    ذكرى المولد النبوي .. نور محمد صلى الله عليه وسلم يُنير طريق الأمة في زمن العتمة            دولة أوروبية تحظر بيع مشروبات الطاقة للأطفال دون 16 عاما    جمعية ساحة الفنانين تطلق مخططها الاستعجالي لإنقاذ مايمكن إنقاذه    هدية غير متوقعة من عابر سبيل    دراسة تكشف أهمية لقاح فيروس الجهاز التنفسي المخلوي لكبار السن    شرب كمية كافية من السوائل يساعد على تخفيف التوتر    أمينوكس سعيد بالحفاوة الجماهيرية في مهرجان السويسي بالرباط    وجبات خفيفة بعد الرياضة تعزز تعافي العضلات.. الخيارات البسيطة أكثر فعالية    الإخوان المسلمون والحلم بالخلافة    الأوقاف تعلن موعد أداء مصاريف الحج للائحة الانتظار من 15 إلى 19 شتنبر    ليالي العام الهجري    جديد العلم في رحلة البحث عن الحق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غاستون باشلار: لهيب شمعة
نشر في لكم يوم 04 - 09 - 2025

بين صفحات هذا الكتاب الصغير المنصبِّ على تأمُّل شارد بسيط، بين صفحات هذا الكتاب الصغير المنصبِّ على تأمُّل شارد بسيط،دون عبء مرجعية معرفية معيَّنة،أو احتجازٍ ضمن إطار وحدة منهج بحثيٍّ،بل سعيتُ على امتداد فصول مقتضبة،الحديث عن مدى التجدُّد الذي يحسُّه حالم إبّان تأمُّله شعلة وحيدا.
تستدعي الشُّعلة،من بين كلِّ أشياء العالم تأمُّلا شاردا،ثمَّ هي واحدة ضمن أكبر متعهِّدِي الصُّور.ترغمنا الشّعلة على الخيال.ما إن نحلم أمام شعلة،فما نراه لاقيمة له حيال ما نتخيَّله.تحمل الشُّعلة قيمة مجازاتها وصورها وجهة ميادين تأمّلية متنوِّعة للغاية.
فلنتناولها مثل موضوع أفعال تعبِّر عن الحياة وسنرى حينها بأنَّها تمنح هذا الفعل حيوية إضافية.
الفيلسوف المنقاد خلف عموميات يؤكِّد ذلك بهدوء عقائدي :"تعكس،مايسمَّى حياة إبداعية وفق مختلف أشكالها وكائناتها،نفس الفكر الوحيد،شعلة منفردة !"(1).لكن عمومية من هذا القبيل تمضي بسرعة نحو الهدف.
لذلك يلزمنا بالأحرى تلمُّس وظيفة تحريض خيال الشُّعل المتخيَّلة،في إطار تعدُّدية وتفاصيل الصُّور.يجب بالتالي إدراج فعل الالتهاب ضمن معجم التحليل النّفسي.لأنَّه يحكم مجالا بأكمله على مستوى عالم التعبير.تؤجِّج صور اللغة الملتهِبَة النَّفسية،وتمنح نبرة إثارة توجب على فلسفة للشِّعري صقلها.
عند تناول لهيب شعلة كموضوع للتأمُّل الشَّارد،تصبح فعلا أكثر المجازات فتورا صورا.بينما تمثِّل غالبا هذه المجازات نزوح الأفكار،نحو إرادة التحدُّث بشكل أفضل، والإخبار بكيفية مغايرة عن الصُّورة،صورة حقيقية،تشكِّل حياة أولى للخيال،بحيث تغادر العالم الواقعي صوب عالم متخيَّل وخياليٍّ.
نلامس بفضل هذه الصّورة المتخيَّلة تأمُّلا شاردا في صيغته المطلقة أي التأمُّل الشَّارد الشِّعري.بالموازاة،مثلما حاولتُ البرهنة على ذلك في كتابي الأخير- لكن هل ينتهي كتاب من الإفصاح عن جلِّ حيثيات قناعة صاحبه؟- أعرف الكائن الحالم المنتج للتأمُّلات الشَّاردة.إنَّ كائنا حالما سعيدا بالحلم،نشيطا مع تأمُّله الشَّارد،يمسك بحقيقة الوجود،وكذا مصير الكائن الإنساني.
تنطوي صور الشُّعلة،ضمن مختلف الصُّور- الساذجة مثل أكثرها تعقيدا،الحكيمة كالمجنونة –على إشارة شعرية.يعتبر كلّ حالم بالشُّعلة شاعرا بالقوَّة ثمّ كلّ تأمّل شارد أمام الشُّعلة بمثابة تأمُّل مذهل.يختبر كل حالم أمام الشُّعلة حالة تأمُّلٍ شارد أ وَّلِيٍّ.
يتأصَّل هذا الإعجاب الأوَّلِيّ بين طيات ماضٍ بعيد.أمتلكُ حيال الشُّعلة انجذابا طبيعيا، بل أجرؤ على القول :انجذابا فطريا.تحدِّد الشُّعلة تفخيما للذَّة الرؤية،النّظر نحو أبعد مما نراه باستمرار.الشُّعلة تحريض على النّظر.
تدعوني الشُّعلة كي أرى للمرَّة الأولى مكمن آلاف الذِّكريات،وأحلم من خلالها بمجمل شخصية ذاكرة شائخة جدا مع ذلك أحلم بها مثل الجميع،وأتذكَّرها مثلما يتذكَّر الجميع،بالتالي يعيش الحالم تبعا لإحدى قوانين التأمُّل الشَّارد الأكثر ثباتا إزاء الشُّعلة،عند ماض ليس فقط ماضيه،بل ماضي أولى نيران العالم.
هكذا،يفضي تأمُّل الشُّعلة نحو تأبيد تأمُّل شارد أوَّلي.يفصلنا عن العالم ويتمدَّد بعالم الحالم.تمتلك الشُّعلة وحدها حضورا كبيرا،نحلم بجوارها،بعيدا للغاية:"ننغمس في تأمُّلات شاردة".الشعلة هنا،رفيعة وسقيمة،تقاوم من أجل الإبقاء على وجودها،وينزع الحالم كي يحلم هناك،منسلخا عن وجوده الذاتي كي يحلم بالعالم على نحو مفرط للغاية.
تجسِّد الشُّعلة لدى إنسان وحيد،عالما برمَّته.بالتالي،إذا خاطب الحالم الشُّعلة،فإنَّه يناجي ذاته،ثم أضحى شاعرا.يتمدَّد الحالم بالعالم،ومصير العالم،حين تأمُّله في مصير العالم،بتأمُّله مصير الشُّعلة،فإنَّه ينمو أيضا باللغة مادام هناك تعبير عن جمال العالم.
حسب مفهوم ينزع كليّا نحو الجمال ويجعله معيار كلِّ شيء(2)،تتضخَّم وتتمدَّد النَّفسية بدورها،ذلك أنَّ تأمُّل الشُّعلة يمنح نفسية الحالم غذاء على المستوى العمودي،طعاما عموديا،مادَّة غذائية هوائية،تنحو صوب وجهة معاكسة لكل"الأغذية الأرضيّة"،أكثر مبدأ فعَّال قصد إعطاء دلالة حيويّة إلى التَّحديدات الشعرية،التي سأعود إليها بين صفحات قسم خاص بهدف تبيان النَّصيحة التي تقدِّمها كل شعلة : الالتهاب عاليا،دائما في الأعالي حتى تتيقَّن من أنَّك تمنح النُّور.
يقتضي سبيل بلوغ هذا"السمو النَّفسي"،تضخيم مختلف الانطباعات وحقنها بالمادَّة الشعرية.تكفي الحمولة الشعرية،حسب اعتقادي،من أجل إضفاء وحدة على التأمُّلات الشَّاردة التي جمعتُها تحت إشارة لهيب شمعة.بوسع هذه الدراسة المونوغرافية تضمُّن عنوان فرعيٍّ :قصيدة اَللَّهَبُ.بالتالي،في خضمِّ إرادة تتوخَّى هنا فقط تعقُّب آثار تأمُّلات شاردة،وأفصل هذه الدراسة عن كتاب أكثر عمومية أتطلَّع نحو إصداره تحت عنوان : شعرية النَّار.
عندما أحدِّد حاليا دراساتي،ضمن إطار نموذج وحيد،فإنِّي أتطلَّع نحو بلوغ جمالية حسيّة،لن تكون حصيلة سجالات فيلسوف،أو عَقْلَنَتْها أفكار عامَّة سهلة.وحدها شعلة لهيب،يمكنها تجسيد كينونة مختلف صورها،وأيضا جلّ أطيافها.
استثمرت الصور الأدبية موضوع الشُّعلة،بكيفية بسيطة للغاية بحيث يتحقَّق التطلُّع نحو إمكانية تحديد تواصل الخيالات.أمكن للسوريالية،بفضل الصور الأدبية للشُّعلة،أن تحظى بضمانة معينة على مستوى امتلاكها لأصل واقعي !تتلاقى صور الشُّعلة الأكثر إدهاشا وتصبح صورا حقيقية،جراء امتياز واضح.
مفارقة أبحاثي حول الخيال الأدبي :العثور على الحقيقة بواسطة الكلام،رسمها بالكلمات،مع جانب من جوانب الحظّ قصد السَّيطرة عليها هنا.تترجم الصُّور حين تكلُّمها الإثارة الرائعة التي يتلقَّاها خيالنا من أبسط الشُّعل.
أريد أيضا تقديم توضيح فيما يتعلَّق بتناقض ثانٍ.بناء على إرادة أن نحيا الصُّور الأدبية بإعطائها مجمل راهنيتها،ثم طموح أكبر بخصوص التَّأكيد في الوقت ذاته على قوَّة القصيدة وفعاليتها بالنسبة للحياة المعاصرة،ألا تمثِّل ضمن هذا السياق،مسألة حشد عدَّة تأمُّلات شاردة عند أثر شمعة،تناقضا بلا جدوى؟هكذا يسير العالم سريعا،والعصر يتعجَّل، فليس الزمان قط فوانيس صغيرة وشمعدانات،من ثمَّة لاترتبط بأشياء عتيقة سوى أحلام بالية.
الجواب بسيط نحو هذه الاعتراضات : لاتتجدَّد الأحلام والتأمّلات الشاردة وفق ذات إيقاع سرعة أفعالنا.تأمّلاتنا الشّاردة عادات نفسية حقيقية متأصِّلة بقوّة،بحيث لاتزعجها الحياة الفعَّالة قط.تكمن فائدة بالنسبة للمحلِّل النَّفسي،قصد العثور ثانية على مختلف سُبُل الأُلفة الأكثر قِدَما.تهتدي بنا التأمّلات الشّاردة حول ضوء خافت إلى ركن الأُلفة.يبدو أنَّ دواخلنا تضمر زوايا مظلمة لاتتحمَّل غير ضوء متذبذب.
يعشق قلب مرهف الحساسية قيما هَشَّة،و يتماهى مع التي تصارع،حيال نور خافت يقاوم الظُّلمات.هكذا تحافظ مختلف تأمُّلاتنا الشَّاردة حول ضوء صغير على حقيقة نفسية ضمن إطار الحياة الرَّاهنة.تمتلك تأمُّلاتنا الشَّاردة دلالة،بل أؤكِّد بأنَّها صاحبة وظيفة.بالتالي، يمكنها إثراء كلِّ مقاربة نفسية للاَّوعي بجهاز كامل من الصُّور قصد محاورة الكائن الحالم بهدوء،بكيفية طبيعية،دون استفزاز الإحساس بالغموض.
بين طيّات تأمُّل شارد انصبّ على ضوء خافت،يشعر الحالم بأنَّه داخل بيته،فلاوعي الحالم موطنه.يتلمَّس الحالم – توأم كائننا،ضوء/عتمة الكائن المفكِّر- عبر تأمُّله الشَّارد ضوءا صغيرا، وطمأنينة الكائن.
نكتشف هذه الحقيقة النَّفسية،حين الانقياد خلف تأمُّلات شاردة لضوء صغير: اللاوعي المطمئِن دون كابوس،المتوازن مع تأمُّله الشَّارد،يعكس بشكل دقيق جدا ضوء/عتمة النَّفسية،أو بشكل أفضل،نفسية ضوء/عتمة.تعلِّمنا صور ضوء صغير كي نعشق هذا الضَّوء/العتمة برؤية حميمة.الحالم الذي يريد اكتشاف ذاته باعتباره كائنا حالما بعيدا عن تجليَّات الفكر،يتوخَّى حالم من هذا القبيل،بمجرَّد عشقه تأمُّله الشّارد،صياغة جمالية هذا الضوء/العتمة النَّفسي.
يفهم الحالم غريزيا أمام مصباح بأنَّ صور ضوء خافت بمثابة أضواء ليلية حميمة، يتلاشى وميضها حينما يشتغل الفكر ويغدو الوعي مشرقا جدا،لكن عندما يستكين الفكر إلى الاستراحة،تبادر الصُّور كي تسهر على الأمر.
يمتلك إدراك ضوء/عتمة الوعي حضورا دائما،يترقَّب الكائن صحوته،يقظة كائن.معطى استوعبه جان والWahl،ثم أفصح عنه من خلال مقطع شعريٍّ واحد :
أوه،ضوء خافت،أيُّها المنبع، أيُّها الفجر النَّاعم(3)
أقترح إذن تحويل القيم الجمالية ل ضوء/عتمة الرسَّامين إلى مجال القيم الجمالية للنَّفسية.إذا نجحتُ،فإنِّي سأكتشف جزئيا ضمن مفهوم اللاوعي،عن المضمَحِلِّ والتَّحقيري. تطرح ظلال اللاوعي كقيمة في كثير من الأحيان عالما من الومضات حيث يمتلك التأمُّل الشارد آلاف المسرَّات!استشعرت جورج ساند هذا الانتقال من عالم اللوحة الفنية إلى مجال علم النَّفس.
هكذا،كتبت في إشارة هامشية وردت أسفل صفحة روايتها"كونسويلو"،وهي تستحضر ضوء/عتمة :
"تساءلتُ باستمرار عن مرتكز هذا الجمال،ومدى قدرتي على إمكانية وصفه،وكيفية تمرير سِرِّهِ إلى روح أخرى.ماذا !دون لون،أو شكل،أو تنظيم،أوضوء،هل بوسع الأشياء الخارجية إخباري،ثم تتكلَّم عن ذلك أمام الأنظار والفكر؟وحده رَسَّام يمكنه إجابتي:نعم،أستوعب ذلك.سيتذكَّر رامبرانت والفيلسوف المتأمِّل :هذه الغرفة الكبيرة التي توارت تحت كنف الظِلِّ،سلالمها لامتناهية،تستدير بأيِّ طريقة؛هذه الومضات الهائلة للوحة،كلّ هذا المشهد المتردِّد و الجليِّ في نفس الوقت،ينتشر هذا اللون القويّ حول موضوع،رَسَمَه باختصار،بنيّ فاتح وكذا بنيّ غامق،هذا السِّحر ل ضوء/عتمة،وكذا لعبة لون يعتدّ بأشياء بلا أهمية تذكر،كرسيّ ،إبريق،مزهريّة نحاس؛ثم تغدو مهمَّة للغاية أشياء لم تكن تستدعي مجرَّد النَّظر إليها،وبدرجة أقل أن يتمّ رسمها،وفي غاية الجمال على طريقتها،بحيث لايمكن قط إزاحة العيون عنها،إنَّها موجودة وجديرة بالوجود"(4).
لقد تأمّلت جورج ساند الإشكالية و طرحتها:كيف لانستطيع أن نرسم هذا الضوء/العتمة،بهذا الخصوص يكمن تميُّز الفنَّانين الكبار،لكن كيف السبيل إلى"وصفه"؟ كتابته؟أريد الذَّهاب أبعد من ذلك :كيف يمكن إدراج هذا الضوء/العتمة بين ثنايا النَّفسية،تحديدا عند الحدود بين نفسية بنيٍّ فاتح وكذا نفسية بنيٍّ غامق؟
بالفعل،هي إشكالية تقلقني منذ عشرين سنة بحيث أنجزت كتبا حول التأمُّل الشَّارد،لكنِّي عجزتُ عن بلورة أفضل تعبير مثلما فعلت جورج ساند في إشارتها المقتضبة.
عموما،هذا الضوء/العتمة النِّفسي،عبارة عن تأمُّل شارد هادئ،مهدِّئ،مخلِصٍ لمركزه،دون الاكتفاء بمحتواه،بل يتجاوزه باستمرار قليلا،ويتشبَّع ضوءا من عتمته.يرى بوضوح ذاته ثم يحلم.لايجازف بكل ضوئه،فليس بألعوبة له،أو ضحيَّة للحلم المبهم الذي يحضر ليلا،ويجعل أصحابه ضمن وضعية التَّبعية خلف ماتسلبه النَّفسية،وفق أسلوب قُطَّاع الطُّرق و المطارَدَة وسط غابات النَّوم اللَّيلي والتي تعتبر كوابيس مثيرة.
يفضي بنا الجانب الشِّعري لتأمُّل شارد وجهة هذه النَّفسية الذَّهبية التي تحافظ على الوعي في حالة يقظة.تتشكَّل التأمُّلات الشَّاردة أمام شمعة في صيغة لوحات.نستمرُّ مع الشُّعلة ضمن نطاق هذا الوعي بتأمُّل شارد يبقينا مستيقظين.نغفو أمام النار،لكن لايحدث معنا نفس الأمر بجوار لهيب شمعة.
حاولت بين صفحات كتاب حديث الإصدار،تحديد تباين جذري بين التأمُّل الشَّارد والحلم الليلي.تسود مع الأخير،إضاءة عجيبة.غير أنَّ كل شيء في غمرة إضاءة خاطئة،نراها باستمرار جليَّة للغاية.الألغاز نفسها، رُسِمَت بخطوط بارزة.المشاهد واضحة جدا يبلور من خلالها الحلم اللَّيلي بسهولة أدبا،وليس قط شعرا.
يجد كل الأدب الخرافي مع الحلم اللّيلي خُطَاطات يشتغل عليها أنيموس الكاتب ثم يعتمد المحلِّل النفسي على هذا الأنيموس كي يدرس صور الحلم.بالنسبة إليه،الصورة ثنائية، تدلُّ باستمرار على شيء آخر،إنَّه تعبير كاريكاتوري نفسي.يلزم بذل مجهود قصد العثور على الكائن الحقيقيِّ خلف الكاريكاتور.السعي،التَّفكير ثم التَّفكير دون توقُّف.
ينبغي بالتأكيد على المحلِّل النفسي،قصد الاستمتاع بالصُّور،ثم عشق الصُّور في ذاتها،أن يستوعب تربية شعرية على هامش أيِّ معرفة.بالتالي،أحلام أقلّ على مستوى الأنيموس يعني أحلام أكثر فيما يتعلق بالأنيما. ذكاء أقلّ بخصوص تحليل نفسي بين- ذاتي هي حساسية أكثر فيما يتعلَّق بعلم النَّفس الحميمي.
بناء على وجهة النَّظر التي سأتبنَّاها بين دفَّتي هذا الكتاب الصغير،تتحاشى المأساة تلك التأمُّلات الشاردة الحميمة،ولن يتَّجه اهتمامي نحو العجائبي الذي صاغته مفاهيم مستوحاة من تجربة الكوابيس.
على الأقلّ،حينما أصادف صورة شعلة متفرِّدة للغاية يمكنني جعلها صورة ذاتية،ثمّ إدراجها ضمن ضوء/عتمة تأمُّلي الشَّارد الشَّخصي،سأتجنَّب التَّعليقات المسهبة.أتوخَّى لحظة الكتابة عن الشَّمعة،نيل عذوبة النَّفس.ينبغي أن تضمر ثأرا يبتغي تفعيله قصد تخيُّل جهنَّم.تنطوي كائنات كابوس على عُقْدة شُعَل جهنَّم لاأريد تغذيتها سواء من قريب أو بعيد.
باختصار،فيما يتعلَّق باستقصاء نفسيٍّ،تقدِّم دراسة وجود حالم لتأمُّلات شاردة من خلال صور ضوء صغير،وصور إنسانية قديمة جدا،ضمانة على مستوى التَّجانس.هناك قرابة بين المصباح اللَّيلي السَّاهر ثم الرُّوح المتأمِّلة.الزَّمان بطيء لكليهما. يتجلَّى مع الرُّؤيا نفس الأناة وكذا الوَهَجِ.هكذا يتعمَّق الزمن؛فتتلاقى الصُّور والذِّكريات.يوحِّد حالم الشُّعلة بين مايراه ومارآه.يدرك انصهار الخيال والذَّاكرة،فينفتح على مختلف مغامرات التأمُّل الشَّارد؛ يقبل مساعدة الحالمين الكبار،ويلج عالم الشُّعراء.منذئذ،يصبح تأمُّل شارد متكامل جدا مبدؤه، ذات وَفْرَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ .
بهدف إضفاء شيء من التَّرتيب على هذا التعدُّد،سأقدِّم تعليقا سريعا بخصوص أقسام هذه الدِّراسة البسيطة،وأحيانا متباينة للغاية.
يواصل الفصل الأول طرح معطيات المقدِّمة.ينبغي الاعتراف بحجم المقاومة التي أبديتُها،أمام إغواء تحويل هذه الصفحات حول الشُّعل إلى كتاب معرفِيٍّ.حينها يصبح طويلا، لكنَّه سهلا.يكفي أن أجعل منه تاريخا بخصوص نظريات الضَّوء.استُعيدت الإشكالية،عبر القرون.لكن بعض العقول الكبيرة التي اشتغلت على فيزياء النَّار،لم تتمكَّن قط من إعطاء أعمالها موضوعية العلم.لقد استمرَّ تاريخ الاحتراق غاية أنطوان لافوازييه،تاريخ رؤى ماقبل علمية.ينهل اختبار تك النظريات من تحليل نفسيٍّ للمعرفة الموضوعية.يجدر بهذا التَّحليل النفسي محو الصور قصد ضبط ترتيب الأفكار(5).
الفصل الثاني مساهمة في دراسة العزلة،وكذا أنطولوجيا الكائن المنعزِل.الشُّعلة المنفردة شهادة عن عزلة توحِّد بين الشُّعلة والحالم.بفضل الشُّعلة،تنأى عزلة الحالم عن الفراغ.صارت ملموسة،بفضل الضوء الخافت.تظهر الشُّعلة عزلة الحالم،تضيء الجبين المفكِّر.الشُّعلة هي نجمة الصفحة البيضاء.
جمعت بعض نصوص الشُّعراء،قصد تأويل هذه العزلة.احتفلتُ بهذه النُّصوص شخصيا بيسر وأنا واثق إلى حدّ ما بكونها ستحظى بضيافة القارئ.بالتالي،كنتُ مقتنعا بالصُّور.أعتقد بأنَّ لهيب شمعة لدى الكثيرين من الحالمين،يمثِّل صورة للعزلة.
إن تردَّدتُ بخصوص تجنُّب كل انحراف صوب البحث عن حقائق علمية زائفة،فقد استرعت انتباهي غالبا شذرات أفكار،وأفكار لاتقدِّم دليلا،بل إقرارات سريعة،تمدُّ التأمُّل الشَّارد باندفاعات دون نظير.إذن- إذا لم يكن العلم- فالفلسفة من تحلم.قرأتُ وأعدتُ قراءة نوفاليس Novalis حيث استلهمت دروسا كبيرة قصد تأمُّل عمودية الشُّعلة.
حينما درستُ تقنية الحلم اليقظ بين صفحات إحدى أولى أعمالي حول الخيال(6)، فقد أدركتُ نداء حلم التَّحليق المنبعثِ من فضاء الشَّفق،يحمل الضوء في القمم.شرحتُ إبَّانها تقنية التحليل النفسي للحلم اليقظ التي أرسى معالمها روبرت دوزويل.
يتعلق الأمر تحديدا بالعمل على الإيحاء بصور سعيدة،قصد التَّخفيف عن كاهل الكائن المثقل بأخطائه،المستكين إلى ضجر عيشه.يغدو المرشِدُ في نظر المريض،مع صيرورة الصور،مرشد تحوُّل.يقترح المرشِدُ ارتقاء متخيّلا،يلزم توضيحه من خلال صور مرتَّبة،تمتلك كل واحدة ميزة الصُّعود.يغذِّي المرشِدُ حُلُمِية الحالم،بأن يعرض خلال اللحظة المناسبة صورا،من أجل تشغيل وإعادة توجيه النَّفسية المتسامية،التي لاتكون مفيدة سوى في حالة ارتقائها نحو الأعلى،باستمرار صوب الأعلى.
يجدر بصور هذا التحليل النفسي من خلال الارتفاع أن تكون منهجيا مرتفعة جدا حتى يحصل اليقين بأنَّ المريض،في غمرة حياة مجازية،قد غادر العالم السفلي.
وحدها الشعلة المنزوية،تجسِّد للحالم المتأمّل،مرشدا للتَّعالي ونموذجا للعمودية.
ستساعدني نصوص شعرية كثيرة على تقييم هذا النُّزوع العمودي صحبة الضوء،الذي يحياه مستلهم ل نوفاليس في إطار تأمُّل شعلة مستقيمة.
بعد فحص رؤى أحلام الفيلسوف،عدتُ في الفصل الرابع إلى القضايا المألوفة لديَّ، أقصد قضايا الخيال الأدبي.لايكفي متن كتاب ضخم،بغية دراسة الشُّعلة باقتفاء أثر مختلف المجازات التي يوحيها الأدب.يمكن طرح السُّؤال بخصوص إمكانية اقتران صورة الشُّعلة مع كلِّ صورة ساطعة قليلا،وكلِّ صورة تتوخَّى التَّوهُّج.إذن،تتمّ كتابة عمل يتعلَّق بجمالية أدبية عامَّة بتوجيه مختلف الصُّور التي تقبل النموّ،وربطها بشعلة متخيّلة.سيكون رائعا،تدبيج صفحات تكشف عن حيثيات الخيال باعتباره شعلة نفسية.يتطلَّب ذلك،عمرا بأكمله.
عندما أتحدَّث عن الأشجار،الأزهار،أمكنني الحديث عن الطريقة التي جعلها الشعراء حيَّة،ممتلئة حياة شعرية بواسطة صورة الشُّعل.
من الشَّمعة إلى المصباح،انتصار لحكمة الشُّعلة.حاليا شعلة المصباح منضبطة،بفضل حنكة الإنسان.إنَّها كليا بصدد أداء مهمّتها،البسيطة والجليلة،باعتبارها واهبة للنُّور.
سعيت إلى إنهاء هذه الدراسة،بتأمُّلِ الشُّعلة المُؤَنْسَنَة. ينبغي إنجاز كتاب بأكمله قصد الانتقال حقّا من الأصل الكوني للشُّعلة إلى الأصل الكوني للضوء.إمكانية حدوث تقصير أثناء التطرُّق إلى موضوع بهذه الأهمية،أرغمني عبر هذه المونوغرافيا،كي أظلَّ ضمن إطار تجانس التأمُّلات الشَّاردة حول ضوء خافت،ثم الحلم أكثر وفق ألفة التحام المصباح و الثُرَيَّا،ثنائي أساسيّ داخل كل بيوت الأزمنة الماضية،منزل نعود إليه باستمرار كي نحلم ونستعيد الذكريات.
لقد وجدتُ منقِذا كبيرا بخصوص التأمُّل الشَّارد مع كتابات أستاذ تبيَّن رؤى الذاكرة.بين طيَّات عدَّة روايات لهنري بوسكو،فالمصباح بمثابة شخص،وفق كل دلالات الكلمة.يلعب المصباح دورا نفسيا في علاقة مع علم نفس المنزل وكذا كائنات العائلة.
عندما يخلق غائب كبير فراغا داخل منزل،يحضر مصباح هنري بوسكو من ماض معيَّن كي يدعم بشغف حاضر مصباح معزول. يضفي مصباح بوسكو الحياة على مختلف ذكريات الحياة الأسروية ثم ذكريات طفولة،كل طفولة.
يكتب الكاتب لنفسه ولنا.المصباح فكر يسهر على غرفته،بل كلّ الغرف. إنَّه مركز مسكن وكل مسكن.يستحيل تصوُّر منزل بلا مصباح ولا أيضا مصباح بلا منزل.
أتاح إذن تدبُّر الوجود العائلي للمصباح كي أستعيد تأمُّلاتنا الشَّاردة حول شعرية أمكنة حميمة.أصادف ثانية مختلف الموضوعات التي اشتغلتُ عليها في كتابي :شعرية المكان.
نلج ليلا رفقة مصباح إلى ملاذ تأمُّلنا الشَّارد بين زوايا بيوت الزَّمن الماضي،بيوت توارت لكننا نقطنها بثبات عبر أحلام رؤانا.أينما ساد مصباح عمَّت الذكريات.
أخيرا،قصد إضفاء سمة شخصية شيئا ما بخصوص أطروحات هذا الكتاب الذي يستحضر تأمُّلات شاردة تحدَّث عنها آخرون،فقد اعتقدت بإمكانية إضافة،خاتمة نسجتها سطور معينة رصدتً من خلالها أشكال عزلة العمل،مسامرات الزَّمان،والتي بعيدا عن الاسترخاء خلف تأمُّلات شاردة سهلة،فقد اشتغلت بمثابرة،معتقدا بأنَّ توظيف الفكر ينمِّي الذِّهن.
هامش:
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :la flamme d' une chandelle(1961).PP :12-33
(1)يوهان هردر،ورد ضمن كتاب ألبير بيغان :"الروح الرومانسية والحلم"،مارسيليا،دفاتر الجنوب، ص113 .
(2)المقصود هنا عبارة غاستون باشلار : pancalisante
(3)جان وال : أشعار الموقف،منشورات الملتقى، ص 33
(4) كونسويلو :ميشيل ليفي،1861،ص،264- 265
(5)غاستون باشلار :تشكُّل الفكر العلمي مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية.
(6)الهواء وأحلام الرؤى،منشورات كورتي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.