من الفلاحة إلى التشغيل، ومن الوظيفة العمومية إلى صندوق المقاصة، ومن الصحة والتعليم إلى السكن... يبدو أن كل ورش تلمسه الحكومة يتحول إلى دائرة أخرى من التعثر. الإصلاحات المُعلنة تولد مُثقلة بالوعود، لكنها تصل إلى الميدان ضعيفة، بلا رؤية، بلا أثر، وتزيد الأوضاع تدهورًا بدل أن تعالجها. فهل يتعلق الأمر بسوء تدبير أم بنموذج حكم فقد القدرة على تحويل السياسات إلى نتائج حقيقية؟ فعلى مدى أربع سنوات، لم تتوقف الحكومة عن إطلاق برامج ومخططات مرفوقة ببهرجة إعلامية كبيرة ووعود بأنها ستشكل نقلة نوعية في حياة المواطن : إصلاحات جبائية، خطط في مجال الفلاحة، مبادرات في قطاع التعليم، أوراش للحماية الاجتماعية، مشاريع للاستثمار، سياسات دعم، وإعلانات متتالية عن "إصلاح" الوظيفة العمومية. لكن مقابل هذا السيل من المبادرات، يسجّل المغرب أسوأ مؤشراته الاجتماعية والاقتصادية: بطالة ترتفع، فقر يتسع، خدمات تنهار، واستثمار يتراجع، وثقة تختفي. فأين يكمن الخلل؟ لماذا لا تُترجم المشاريع الكبرى إلى أثر اجتماعي؟ ولماذا تفشل كل هذه البرامج في بناء دولة اجتماعية حقيقية؟ وهل يتعلق الأمر بغياب رؤية، أم بخلل في التنفيذ، أم لأن السياسة الحكومية صُمّمت دون فهم حقيقي لاحتياجات المواطن؟ بعد أربع سنوات من التسيير، تكشف مؤشرات البلاد أن الحكومة الحالية أظهرت مهارتها في مجال واحد: تسويق الوعود. إصلاح الوظيفة العمومية، إصلاح الصحة، إصلاح التعليم، إصلاح الفلاحة والتقاعد... عناوين كبرى رُفعت في كل مناسبة، لكنها لم تتحول إلى نتائج ملموسة. بينما يزداد الواقع قسوة: فوارق مجالية تتسع، فرص الشغل تتراجع، تكاليف المعيشة ترتفع، وثقة المواطنين تهبط إلى أدنى مستوياتها. الأزمة لم تعد أزمة أرقام فقط، بل أزمة منهج سياسي اختار أن يحكم بالخطاب لا بالفعل، وأن يستبدل الإصلاح الحقيقي ببلاغات متتالية تُخفي هشاشة عميقة في الاقتصاد والخدمات الاجتماعية. تشير المعطيات الوطنية إلى أزمة اجتماعية ممتدة: الفقر متعدد الأبعاد بلغ 11.7%، والهشاشة وصلت إلى 38%، فيما فقد الاقتصاد أكثر من 554 ألف منصب شغل في القطاع الفلاحي خلال عامين فقط، ولم تستطع باقي القطاعات خلق سوى 126 ألف منصب. في المدن، تجاوزت بطالة الشباب 38.4%، وبطالة النساء 21.6%، وحاملي الشهادات العليا 19%، ما يعكس انهيارًا خطيرا في دينامية الإدماج الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، تتعرض الأسر لضغط معيشي غير مسبوق. فقد بلغت مديونية الأسر 427 مليار درهم, وارتفعت تكاليف السكن والماء والكهرباء والمواد الأساسية بنسبة تتراوح بين 15% و32%، بما يفوق بكثير الرواية الرسمية. أما في المدرسة العمومية، فقد وصل الاكتظاظ إلى 48 تلميذًا في القسم، مع خصاص يبلغ 30 ألف أستاذ، وارتفاع خطير في الهدر المدرسي الذي بلغ 334 ألف تلميذ في سنة واحدة. القطاع الصحي ليس أفضل حالًا، إذ يعاني من ضعف بنيوي يجعل 63% من الأسر تتجه للقطاع الخاص، فيما تصل نسبة الإنفاق الشخصي على الصحة إلى 54%، في واحدة من أعلى النسب في المنطقة. هذا الوضع يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن الحديث عن "دولة اجتماعية" بينما الخدمات الأساسية تنهار، والتفاوتات تعمّق هشاشة الفئات الأكثر احتياجًا؟ يُخصص المغرب أكثر من 30% من الناتج الداخلي الخام للاستثمار، ومع ذلك تظل المردودية من بين الأضعف عالميًا، حيث تتطلب كل نقطة نمو سبع نقاط استثمار، وهو مؤشر صادم يوضح غياب الفعالية والنجاعة. أما صندوق الاستثمار الذي كان يفترض أن يقود نقلة اقتصادية، فلم يعبّئ سوى 19 مليار درهم من أصل 45 مليارًا موعودة، ما يكشف غياب رؤية واضحة لتوجيه الموارد. 53% من الضرائب المباشرة يتحملها الأجراء، بينما لا تساهم الشركات إلا ب 22%، رغم الأرباح المرتفعة التي تحققها قطاعات عديدة. ويُقدر التهرب الضريبي بما بين 8 و12 مليار درهم سنويًا، ما يحرم الدولة من موارد حيوية كان يمكن أن تعالج جزءًا من أزمات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. أما على مستوى الأمن الاقتصادي، فالوضع لا يقل خطورة: مخزون الطاقة لا يغطي إلا 26 يوما، مخزون القمح يكفي لثلاثة أشهر فقط، السدود لا تتجاوز 24%,، والاستثمار الأجنبي تراجع ب 13%، وهو ما يعكس أزمة ثقة عميقة تجاه مناخ الأعمال وقدرة الحكومة على ضمان الاستقرار والتوجيه الاقتصادي. خلاصة: من العجز البنيوي إلى أفق البديل... المغرب بحاجة إلى تغيير النموذج لا تغيير الخطاب. إن الصورة التي ترسمها المؤشرات ليست مجرد تجميع لأرقام متفرقة، بل ملامح أزمة كاملة: اقتصاد متباطئ، منظومات اجتماعية تترنح، وخيارات حكومية فقدت القدرة على تحويل الإمكانات إلى نتائج. وفي الوقت الذي تحقق فيه دول مجاورة قفزات نوعية- مثل إسبانيا التي سجلت نموًا ب 2.9% متجاوزة متوسط الاتحاد الأوروبي- يظل المغرب رهينة لسياسات ظرفية بلا رؤية أو تخطيط بعيد المدى. وما يزيد المفارقة حدة هو أن الأمر الوحيد الذي نجحت فيه الحكومة نجاحًا كاملًا هو الإصلاحات الضريبية: إصلاحات لم تدعم الاستثمار، ولم تخفف العبء عن الأسر، بل أثقلت كاهل المواطنين، وأضعفت قدرتهم الشرائية، ورفعت الضغط على الفئات المتوسطة والفقيرة. فما جدوى أن تتكدس الملايير في خزينة الدولة إذا لم يلمس المواطن أي أثر إيجابي على الصحة والتعليم والسكن والعمل؟ وما معنى فائض جبائي لا يترجم إلى تحسين حياة الناس؟ المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في غياب مشروع وطني يعيد ترتيب الأولويات ويبني دولة اجتماعية منتجة. المغرب يحتاج إلى بديل ديمقراطي تقدمي يربط الاستثمار بالتشغيل، يضع التعليم والصحة في قلب الدولة الاجتماعية، يواجه الريع بصرامة، ويعيد توزيع العبء الضريبي بعدالة. بديل يعيد الثقة بين الدولة والمواطن، ويمنح السياسة معناها الحقيقي: خدمة المجتمع لا إدارة الأزمات. المغرب لا يحتاج إلى مزيد من الوعود... بل يحتاج إلى بداية جديدة، إلى فاعلين سياسيين يتوفرون على رؤية وعلى مشروع مجتمعي لا تعوزهم الإرادة في أجرأة القرارات التي من شأنها تحسين ظروف عيش الساكنة، ولا في وضع حد لظاهرة تضارب المصالح التي أصبحت سمة ملازمة للحكومة الحالية، والتي تحول دون تحقق العديد من الأهداف المعلنة عند اتخاذ مجموعة من القرارات التي بدل من أن تصب في صالح المواطن، تزيد من معاناته. إن المغرب يحتاج أيضا إلى رجال يركزون على الفعل بدل ترديد سرديات هدفها الوحيد تبرير الفشل في الاستجابة لحاجيات وانتظارات المواطنات والمواطنين.