يؤرخ الناس لحياتهم هنا بالحروب والانتفاضات وتصبح فترت اللاحرب واللاسلم هدنة مؤقَّتة لاستعادة ذكريات المواجهات السابقة والتخمين في الآتي منها. حوادث السفن التي حاولت كسرَ الحصار والمجزرة التي ارتكبتْها القوات الإسرائيلية في عرض البحر الأبيض بدت، في لحظة، وكأنها تُعجِّل بانفجار المواجهة المرتقََبة واسعة النطاق، على الرغم من «حالة الهدوء» المسيطرة حاليا. في إسرائيل، حيث انحسر دور اليسار والمنظمات الداعية إلى السلام، وضع الناخب الإسرائيلي قدَره في أيدي واحدة من أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرُّفا في تاريخ الدولة اليهودية، إنْ لم تكن بالفعل أكثر تطرفا وتلمس رغبة شبهَ قوية لدى الرأي العام في الانتقام من طرفٍ ما، لاستعادة بعض الكبرياء المفقود في المواجهات السابقة، خاصة المواجهة مع حزب الله وحتى المواجهة مع سفينة «مرمرة» التي أظهرت جنودا مذعورين في وجه نشطاء عزَّل. في رام الله، هناك إحباط شبه كامل من جهود السلام، رغم تردد المبعوث الأمريكي جورج ميتشل المتواصل على المقاطعة لنقل المفاوضات من وضع غير مباشر إلى المباشر، وسط عدم اكتراث شبه كامل انتقل حتى إلى وسائل الإعلام. كانت خيبة الأمل بداية -وبشكل واضح- من باراك أوباما، الذي رقص الناس هنا فرحة بنصره واستبشروا خيرا بخطابه في القاهرة، قبل أن يدوس على تلك الأحلام، بعد لقائه الأخير بناتانياهو. وإلى أن يحل موعد المواجهة الحتمية القادمة، يشغل الناس أوقات فراغهم بالتنكيت على السلطة وعلى حماس، على حد سواء، وباقتسام الولاء بين فريقي «برشلونة» و«ريال مدريد» الإسبانيين، بطريقة لم أرَ مثيلا لها خارج إسبانيا سوى في الشمال المغربي. وحين جاء كأس العالم، أصبح الولاء وتشجيع الفرق، حسب بُعد دولها من إسرائيل، مما فسّر غياب العلم الأمريكي من على السطوح والسيارات، على خلاف باقي أعلام الدول الأخرى المشاركة في النهائيات. في مدينة بيت لحم، نظمت السلطة، بالتعاون مع واشنطن والرباعية، مؤتمرا استثماريا ضخما كان دليلا إضافيا على كون فكرة بناء الدولة قبل أن تكون هناك دولة أصلا موضع سخرية وتجاهل معظم الفلسطينيين.. على هامش المؤتمر، كان لي لقاء بمبعوث الرباعية، طوني بلير، أحد كبار المُبشِّرين بنجاعة بناء المؤسات قبل الحصول على الدولة، وكان واضحا من إجاباته أن المنطقة التي تؤرخ لحياتها بالمواجهات مُقْبلة بالفعل على مواجهات أخرى، قبل أن تتحقق أحلام بناء الدولة ومؤساتها. كان طوني بلير، على الرغم من عودة وعيه -ولو جزئيا- بعد غزو العراق، يريد لبس مسوح رجل السلام لكنه لم يتجاوز في خطابه النقط الرئيسية في خطاب الحكومة الإسرائيلية اليمينية. تحدث رئيس الوزراء البريطاني السابق عن دوره الجديد كمبعوث للرباعية وعن ضرورة إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، دون إشارة -ولو من باب النفاق الإعلامي- إلى أكثر من 10 آلاف سجين فلسطيني، بمن فيهم أطفال ونساء، يقبعون في السجون الإسرائيلية.. كما دافع المسؤول الدولي عن كون بنيامين ناتانياهو سياسيا إسرائيليا جاء إلى الحكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، لكن تجاهل أن آلية الانتخابات نفسها هي التي أتت بحماس التي يعاقب الآن مليون فلسطيني بحصار غير مسبوق لأنهم صدقوا نصائح واشنطن ولندن بإجراء انتخابات حرة ونزيهة. فاخر بلير بالمن اليومي الذي يشعر به الإنسان الفلسطيني في رام الله وأريحا ونابلس وبيت لحم، حاليا، بسبب «حكمة» نظرية «البيضة قبل الدجاجة».. لكنه أغفل الحديث عن كون كل «ذلك الأمن» ينسحب أمام دخول أول دورية إسرائيلية إلى تلك المناطق وعن كون سيارات الشرطة الفلسطينية تغطي الأنوار الموجودة على سطحها بمجرد عبورها إلى مناطق تخضع للسيطرة الإسرائيلية. كما أن ذلك الأمن لم يكن غاية في حد ذاته فحسب، بل كان وسيلة أيضا تفرض على إسرائيل القيام بخطوات بناء ثقة، لكن حكومة ناتانياهو واصلت سرقة الأرض وتهويد القدس وإبعاد سكانها وتدمير المنازل وحتى المقابر، في الوقت الذي تتحدث عن «السلام الصعب» مع الفلسطينيين!.. لذلك لم يكن مستغرَبا أن ينتقل الحديث، بسرعة، في مقاهي ومطاعم القدس أو رام الله من أخبار الكرة ونهائيات كأس العالم إلى الحرب القادمة، وهل ستبدأ من طهران أم من بيروت أم غزة أم من رام الله؟!..