الأوضاع الاجتماعية متدهورة، القدرة الشرائية متدنية، البطالة في ارتفاع متزايد، الاقتصاد يعيش نكسة غير مسبوقة بعد أن تراجع الناتج الدخلي الخام بنسب قياسية، السياسة الخارجية في تقلبات مستمرة... كل شيء ينذر بدخول سياسي ساخن بفرنسا إن على الصعيد الداخلي وأسلوب التعامل مع الملفات الاجتماعية والاقتصادية الكبري، أو على مستوى السياسة الخارجية التي حولها الرئيس ساركوزي من دبلوماسية المصالح الاستراتيجية إلى دبلوماسية الصفقات والعقود التجارية، بعد أن لعب في الكثير من زياراته الخارجية دور محرك المبيعات للشركات الفرنسية التي جلب إليها عقودا بالمليارات في الصين وبلدان المغرب العربي ودول الخليج. الدخول السياسي لا يعد باختراقات اجتماعية هامة للحكومة التي تزيد في متاعبها أجواء الظرفية الاقتصادية العالمية الصعبة المتمثلة في ارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية وحالة الركود العامة دوليا، مما يعرقل عملية تحرير النمو الاقتصادي ومعه تحسين القدرة الشرائية، وهي الملفات الأولى التي انكبت عليها الحكومة في أول اجتماع لها بعد الأرقام المعلنة عن ارتفاع التضخم وتراجع نسبة الناتج الداخلي الخام إلى 0،3. وفي خضم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وقف الفرنسيون في الأسبوع الماضي بكثير من الألم على جثامين الجنود الفرنسيين العشرة الذين لقوا حتفهم في معارك شرسة مع مقاتلى حركة طالبان والحزب الإسلامي دارت على بعد خمسين كيلومترا شرقي كابل. وتعد هذه الحادثة أكبر خسارة للقوات الفرنسية منذ نشر نحو 3000 جندي في أفغانستان في عام 2002 اغلبهم في مقاطعة كابول. وقد وصفتها بعض الصحف بأنها واحدة من أفدح الهزائم العسكرية التي لحقت بفرنسا منذ حرب استقلال الجزائر. انحياز لأمريكا وفي أول رد فعل له، جدد الرئيس الفرنسي تعهدات بلاده بالاستمرار في دعم القوات الدولية المتواجدة في أفغانستان، مؤكدا أثناء زيارة تفقدية للقوات الفرنسية هناك على أن فرنسا ملتزمة بمحاربة الإرهاب، وأن مهمتها في أفغانستان ستستمر «حتى لو كان الثمن باهظا». وقد بدا مهزوزا يوم الخميس وهو يقف بجوار نعوش الجنود العشرة، ولم يجد ما يقوله سوى الإصرار على مواصلة فرنسا مهمتها ضمن قوات حلف الناتوالتي تبذل جهدها لحرمان طالبان أو «البرابرة»، كما وصفهم، من الوصول إلى سدة الحكم في أفغانستان. ويقرأ الكثيرون في تصريحات ساركوزي أنه يبدي في دخوله السياسي الثاني تحمسا واضحا بشأن تغيير خطوط الدبلوماسية الفرنسية التي رسمها سلفه جاك شيراك، وذلك في اتجاه الانحياز الكامل للإدارة الأمريكية بشأن الملفات الدولية الساخنة سواء تعلق الأمر بأفغانستان وإيران والعراق أو بالنزاع العربي الإسرائيلي بالشرق الأوسط. وهو يسعى بذلك إلى ترميم العلاقات مع واشنطن وقد شهدت الكثير من الفتور بسبب الموقف التقليدي لفرنسا المعارض لسياستها الخارجية، بعد أن عجز عن تحريك مسار الاتحاد الأوروبي الذي أصابه الركود عقب فشل مسودة الدستور الموحد. موجة انتقادات ومعركة ساركوزي ضد ما يسميه بالإرهاب في أفغانستان، وضعته تحت وطأة واحدة من أكبر الأزمات التي تواجهه في حياته السياسية، بعد أن تعرض لموجة من الانتقادات بسبب دعمه حلف الناتو في حربه على حركة طالبان، وتراجعه عن الوعود التي كان قد قطعها إبان حملته الانتخابية العام المنصرم بإعادة الجنود إلى أرض الوطن. لكنه على العكس من ذلك وافق على إرسال سبعمائة جندي إضافي بعد طلب من الإدارة الأمريكية بتقديم مزيد من المساعدات لقوات الحلف التي تقاتل في أفغانستان. ومن المقرر أن تعقد الجمعية الوطنية (مجلس النواب)البرلمان جلسات لسماع شهادات عن الدور الفرنسي في أفغانستان في مسعى منه للرد على القلق الشعبي المتزايد بشأن الشبان الذين يستخدمون «بارودا للمدافع» في حرب عدو «لن يقهر على ما يبدو» على حد تعبير صحيفة «ليبراسيون». وسيستمع نواب لجنة الدفاع بالجمعية الوطنية (مجلس النواب) ابتداء من يوم غد /الثلاثاء/ إلى كل من وزير الخارجية بيرنارد كوشنير ووزير الدفاع إيرفي موران، المدعوان إلى تقديم التوضيحات اللازمة بشأن الكمين الذي نصب للجنود الفرنسيين، وقد بوغثوا بهجوم قوي من عدة جهات باستخدام أسلحة مختلفة، وكذا الأخطاء العسكرية الميدانية، ومدى تلاؤم التجهيزات والمعدات مع الأوضاع البيئية بأفغانستان وغير ذلك من الأسئلة التي تشغل بال الرأي العام الفرنسي الذي عبر بنسبة 55 في المئة، في استطلاع للرأي نشرت نتائجه الجمعة الماضية، عن رغبته في سحب الجنود الفرنسيين من أفغانستان. الاشتراكيون منقسمون ومن جهتهم، طلب الاشتراكيون عقد جلسة مع الوزير الأول يوم 22 شتنبر الجاري، يعقبها تصويت حول الفائدة من التواجد الفرنسي بأفغانستان. غير أن الحزب الاشتراكي الذي يشهد حاليا صراعات داخلية قوية بدأت تداعياتها تنعكس بشكل سلبي على مصداقيته، هو نفسه منقسم بشأن سحب أو إبقاء الجنود الفرنسيين في أفغانستان. فبينما اكتفى كاتبه العام بإبداء معارضته لسياسة ساركوزي الأفغانية، طالب القيادي الاشتراكي هنري إيمنويلي بسحب القوات الفرنسية من كابول، وهو موقف يرفضه بيير موسكوفيتشي، المرشح لتولي الكتابة العامة للحزب الاشتراكي. ومن تداعيات الصراع الداخلي بين قياديي الحزب، أن تدنت شعبيته بشكل لم يسبق له مثيل بعد أن اعتبر 29 في المئة من الفرنسيين فقط أن الحزب يحمل مشروعا لفرنسا، وذلك في استطلاع للرأي نشرت نتائجه أول أمس. أما نسبة الراضين عن أداء الحزب، فلا تتجاوز في أوساط المناضلين أنفسهم 46 في المئة ممن يرون أن دوره في معارضة الحكومة جيدا. ويبقى الاشتراكي دومنيك ستروس كان، مدير البنك العالمي، الشخصية المفضلة لدى المناضلين قبل سيغولين روايال، المرشحة المنهزمة في الانتخابات الرئاسية. وإلى جانب أفغانستان، اختار الرئيس ساركوزي أن يدشن دخوله السياسي أوربيا بارتداء بذلة رئيس الاتحاد الأوربي لانتزاع وقف إطلاق النار من روسيا في نزاعها مع جيورجيا، ثم الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ للمجلس الأوربي يخصص لمستقبل العلاقات مع روسيا. ومن شأن هذا الاجتماع الذي بدأت أشغاله اليوم /الاثنين/، أن يفرز خلافات جوهرية بين دول الاتحاد، حيث حيث بولونيا ودول البالتيك تدعو إلى تبني سياسة أكثر صرامة مع روسيا، بينما فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، لا ترى مصلحة في تشديد سياستها مع موسكو التي تجمعها بها شراكة متينة في أكثر من مجال. سوريا في صلب الاهتمام ويبقى الدخول السياسي الأكثر أهمية بالنسبة للرئيس ساركوزي، هو زيارته يومي الأربعاء والخميس لسوريا التي اعتبرها زيارة «محفوفة ببعض المخاطر لكنها واعدة» على حد قوله، على اعتبار أنها ستمكن في رأيه من مواصلة الحوار الضروري والمهم حول عدة ملفات إقليمية قد يتم فيها تحقيق تقدم ملموس. والمقصود بالملفات الإقليمية برأي المراقبين، تحقيق نقطتين متقدمتين، الأولى على مستوى تطور العلاقات الدبلوماسية بين سوريا ولبنان ، والثانية دخول فرنسا كشريك مع الولاياتالمتحدة في رعاية المفاوضات المستقبلية المباشرة بين سوريا وإسرائيل». وتتقاسم الآراء بشأن هذه الزيارة بين من يرى فيها إصرارا من فرنسا على استعادة مكانتها ونفوذها العريقين في منطقة حققت فيها الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية اختراقا سياسيا قويا، ومن يعتبرها محاولة من ساركوزي الظهور بمظهر الفاعل المؤثر في المعادلة اللبنانية السورية حيث لا استقرار ولا تصالح ولا استقلال لبناني يمكن أن ينجز بمعزل عن فرنسا. والأهم من ذلك، توجيه رسالة إلى أوربا والمجتمع الغربي وخصوصا الإدارة الأمريكية حول الإصرار الفرنسي لمواصلة دوره الريادي في المنطقة. ولكي يعطي شحنة إضافية لهذا الدور الذي تريده فرنسا حاسما ومؤثرا في الخارطة السياسية الشرق أوسطية يعمل ساركوزي على مغازلة سوريا تكتيكيا مع الإبقاء استراتيجيا على صداقته التقليدية لإسرائيل الشريك الحيوي بالمنطقة. وسيوقع الرئيس ساركوزي خلال زيارته لدمشق عقد تعاون بين سوريا وشركة «ايرباص» الأوروبية لشراء واستئجار طائرات إضافة إلى توقيع اتفاقيات في مجال استكشاف النفط وتوليد الطاقة الكهربائية ومجالات النقل والتأهيل والتدريب في مجال التسيير الإداري. وكان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قد قرر تجميد العلاقات مع سورية بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري في فبراير 2005 بعد أن اتهم سوريا بالتورط في جريمة الاغتيال.