«ليس بالإمكان إنهاء مفاوضات من دون البدء بها»، هذه هي الحكمة الغالية التي قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلته أمس الأول (يقصد الاثنين) مع تلفزيون «بي بي سي» العربي. الحكمة الأخرى التي كان يفترض فيه أن يضيفها بلا تردد هي «وإذا ما بدأنا في هذه المفاوضات فلن ننتهي منها أبدا». المقابلة مهمة مع ذلك لأنه أوضح فيها ربما للمرة الأولى علنا وبشكل دقيق ما الذي يعنيه بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية. قال إن الأمر لا يطرح بالمعنى الديني، «وهذا يعني أن غير اليهود يستطيعون العيش في إسرائيل الدولة الديمقراطية»، وذلك لتبديد مخاوف التهجير القسري الجماعي لهؤلاء. وأضاف أنه «رغم أن اليهود يشكلون أغلبية سكان إسرائيل، فإن الأقلية من غير اليهود تتمتع بكامل حقوقها المدنية، وإسرائيل هي المكان الوحيد في كامل الشرق الأوسط الذي يمكن القول عنه إن العرب يتمتعون فيه بحقوقهم المدنية كاملة وبالمساواة»، وأن ما يعنيه بدولة يهودية هو أن يكون بمقدور اليهود في العالم بأسره الذهاب إلى إسرائيل تماما، كما ستعني الدولة الفلسطينية أن يتمكن الفلسطينيون في أي مكان في العالم من الذهاب إلى فلسطين. استبعاد البعد الديني الهدف منه درء أي مسؤولية في ما يمكن أن يتحول إليه الصراع من طابع ديني مخيف، كما حذر منه الرئيس محمود عباس في خطابه المتميز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي قال فيه إن الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة لن يحدث أبدا. لماذا؟ لأن التعريف الذي قدمه نتنياهو - والذي قد يبدو لأي واحد غير متابع بشكل دقيق بأنه منطقي ومتوازن - يعني أن أي يهودي على وجه البسيطة بإمكانه أن يتوجه فورا إلى دولة إسرائيل ويحصل فيها على الإقامة والمواطنة حتى لو كان من مواليد القطب الجنوبي منذ الأزل، في حين يحرم من التوجه إلى منزله وقريته ومدينته أي فلسطيني طرد من فلسطين حتى لو جاء بكل وثائق ومستندات العالم جميعا التي تثبت أن هذا بيته أبا عن جد منذ الأزل، وأنه لم يمض على طرده من هناك سوى ستة عقود. أي منطق هذا؟ إنه إن لم يكن دينيا فهو عنصري بلا جدال وهذا ألعن. واقع الحال اليوم أن اليهودي مرحب به في دولة إسرائيل في أي وقت، أما الفلسطيني فلا، سواء في هذه الدولة أو في مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. ما سيحصل بعد الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة الذي يطمع فيه نتنياهو أن تقر القيادة الفلسطينية بأن من حق اليهود في كل أنحاء العالم أن يذهبوا ويستقروا في أي مدينة من مدن فلسطين التاريخية، في حين يمنع ذلك على أي فلسطيني حتى ولو كان يبعد بضعة كيلومترات لا غير عن بيته وقريته التي طرد منها. هذا المنع لن يصبح قائما بفعل قوة القهر وقهر القوة الإسرائيليين، بل بموجب اعتراف القيادة الفلسطينية التي تكون وقتها لم تكتف بمصادرة الحلم المتوارث عبر الأجيال وإنما أيضا ألغت كل القرارات الدولية التي اعترفت للفلسطينيين بهذا الحق. وأين يتم هذا الإلغاء؟ في تسوية تقول إنها تستند إلى قرارات الشرعية الدولية. ببساطة، إسرائيل تقوم حاليا بكل ما سبق وليست في حاجة إلى الاعتراف الفلسطيني لكي تواصله، فإسرائيل لا تكتفي هنا باعتراف الفلسطينيين بأن دولتهم المنشودة لن تقوم إلا على 22 في المائة من أراضي فلسطين المسلوبة، وإنما عليهم أن يطردوا من الذاكرة ومن الحلم أيضا أنه يمكنهم يوما ما أن يطمعوا، ولو بصفة شخصية غير جماعية، في أن يعود بعضهم إلى مرتع صباه، ولو كزيارة سياحية بالمناسبة! حسنا فعل الرئيس الفلسطيني إذ كان قاطعا في رفض يهودية الدولة الإسرائيلية، وكما قال بعض المسؤولين الفلسطينيين فإن القيادة اعترفت بإسرائيل منذ 1993 ولا معنى لاعتراف ثان. بإمكان الإسرائيليين أن يعرّفوا دولتهم كما يحلو لهم حتى لو اختاروا لها اسما طويلا مملا على طريقة جماهيرية القذافي، المهم ألا يطلبوا من الفلسطينيين المستحيل: أن يقبلوا بالذبح ويتبرعوا هم قبله بالبسملة!