الذكرى ال 46 لاسترجاع إقليم وادي الذهب.. ملحمة بطولية في مسيرة استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    فهم باش تخدم.. مهندسة شابة طموحة تروي رحلتها بين مقاعد الدراسة وآفاق الاقتصاد الفلاحي (فيديو)    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء شبه مستقر    دول أوروبية تتوعد النظام الإيراني بإعادة تفعيل آلية العقوبات    فرنسا.. توقيف مراقب جوي بعد قوله "فلسطين حرة" لطاقم طائرة إسرائيلية    تراجع الدولار مع ترقب خفض أسعار الفائدة الأمريكية في شتنبر    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    القوات المسلحة تحقق في تعنيف أحد المهاجرين    رحيل الأديب المصري صنع الله إبراهيم        بوتين يشيد بالقوات الكورية الشمالية    فوضى "الجيليات الصفراء" ببني ملال    مؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة تنجح في أول عملية زراعة كِلية مع عدم توافق فصائل الدم    أربع مدن مغربية على رأس قائمة أكثر مناطق العالم حرارة    اعتقال شخص بعد إطلاق نار داخل مطار سيدني    تسكت تتألق في أمسية "رابافريكا"    تقرير: المغرب في المركز السادس إقليميا بعدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر في 2024    الجبهة المغربية لدعم فلسطين: سيون أسيدون وُجد فاقدا للوعي داخل منزله وعليه آثار إصابات على رأسه وكتفه "غير طبيعية"    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل لثمن النهاية    منير القادري يتخلى عن مشيخة الزاوية البودشيشية لفائدة أخيه معاذ القادري    غزة: صندوق الثروة السيادية النرويجي يسحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية        أنفوغرافيك | 25.84 مليون درهم.. لتمويل 40 مهرجان وتظاهرة سينمائية    حملة أمنية بوزان تطيح بمروجي مخدرات وتوقف مطلوبين للعدالة    موجة حر تصل إلى 47 درجة مع الشركي من غد الأربعاء إلى السبت المقبل    ليلة ملتهبة بتطوان وشفشاون.. حرائق غابوية متواصلة وصعوبة في السيطرة بفعل الرياح القوية    توجيه الدعوة ل 26 لاعبا من المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 20 سنة للمشاركة في وديتي مصر    المقاصة.. انخفاض النفقات الصادرة بنسبة 19,2 في المائة عند متم يوليوز الماضي    المحلي يواصل التحضيرات للقاء زامبيا    "الكاف" يوجّه إنذارا لكينيا بسبب خروقات أمنية في بطولة "الشان"    إسبانيا تُلغي قرار بلدية خوميا بحظر الاحتفالات الإسلامية في الأماكن العامة    "فيفا" تطلق أكبر برنامج تطوعي في تاريخ كأس العالم استعدادًا لنسخة 2026    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. الجناج الدولي غريليش ينتقل من سيتي إلى إيفرتون على سبيل الإعارة    افتتاح متجر يرفر 350 منصب شغل بمرتيل    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بارتفاع طفيف    اطلاق فعاليات الأبواب المفتوحة لفائدة الجالية المغربية بالخارج    الحجابة الملكية تسلم هبة للأمغاريين    سجن عراقي يقلق عائلات في المغرب    الجماهير تصوت على حكيمي وبونو        صحفي هولندي يرجح انتقال زياش إلى أياكس أو تفينتي    احتجاجات متواصلة في المدن المغربية تنديدا باستهداف الصحافيين في غزة وتجويع القطاع    ما ‬هكذا ‬تورد ‬الإبل ‬يا ‬حكام ‬قصر ‬المرادية ...‬    ارتفاع أسعار النفط بعد تمديد الولايات المتحدة والصين هدنة الرسوم الجمركية    الدوزي يلهب الحماس في "راب أفريكا"    الرباط تحتضن أولى نسخ "سهرة الجالية" احتفاءً بأبناء المهجر (صور)    مهرجان "راب أفريكا" يجمع بين المتعة والابتكار على ضفة أبي رقراق    حين يلتقي الحنين بالفن.. "سهرة الجالية" تجمع الوطن بأبنائه    دراسة: الأطعمة عالية المعالجة صديقة للسمنة    عوامل تزيد التعب لدى المتعافين من السرطان    دراسة: استعمال الشاشات لوقت طويل قد يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب لدى الأطفال والمراهقين    دراسة: الفستق مفيد لصحة الأمعاء ومستويات السكر في الدم    دراسة تحذر.. البريغابالين قد يضاعف خطر فشل القلب لدى كبار السن    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زينب بنت إسحاق النفزاوية
أعلام مغاربة من التاريخ
نشر في المساء يوم 29 - 08 - 2012


يوسف الحلوي
في أوج معارك المرابطين التي قادها عبد الله بن ياسين لتوحيد المغرب الأقصى، وهو الزمن الذي لا يلمع فيه غير نجم الفرسان عادة وأرباب الكريهة وأولي العزم في تجييش الجيوش وصناعة الحرب، لمع اسم زينب النفزاوية كما يلمع النجم في كبد السماء، والناس ميالون في حال السلم إلى اللهو والطرب فليس غريبا أن يتناقلوا أخبار القيان والكواعب الحسان، وكذلك كان في زمن زينب نساء من بر عدوة الأندلس، يستملن القلوب بالغناء
والشعر والرقص مما ورثنه عن زرياب الشهير وعددنه مبلغ ما تتبارى فيه النساء، فهذه ولادة بنت المستكفي سليلة بيت الخلافة تتخذ من مجلسها منتدى يتبارى فيه الشعراء وقِبلة يرتادها وجوه القوم وكبار رجال الدولة من أجل الظفر بجسدها، وتطرز على ثيابها غاية ما تبلغه أمانيها:
أما إني لأصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
وهي بذلك تصور واقع نخبة عصرها كأصدق ما يكون التصوير.
تناقل الرواة أخبار ولادة وذاع صيتها لأن أخبارها عادة لا تخلو مما يلهب خيال المتعطشين لأحاديث العشق والغرام، وأما زينب فدونت اسمها في تاريخ مداده دماءُ الكماة المتحاربين لا قوافي الشعراء المتصابين، ولحمة فقراته صليل السيوف وقراع الأسنة والحراب لا رنات العيدان وأنغام الرباب، وفرق ما بين زينب وولادة كفرق ما بين أحوال الأندلس وأحوال عدوة المغرب الأقصى في ذلك الزمن، فتلك أمة كانت تمتطي عبث ولادة وتهوي نحو منحدر الضياع بمحض إرادتها، وتلك أخرى كانت تتلمس سبل الريادة والمجد بكفاح زينب ومثيلاتها، حتى كان من أمر تَينك المرأتين ما كان من أمر الأمتين، ذهب سحر ولادة ومعه سحر مجالسها ورددت أرجاء الأندلس أمجاد يوسف بن تاشفين الذي سيذكر التاريخ أنه لم يعدل يوما عن رأي زينب الحصيف إلى رأي غيرها.
هي زينب بنت إسحاق الهواري المعروفة بالنفزاوية نسبة إلى نفزة من بلاد البربر حيث نشأت وترعرعت، والدها تاجر أهله من القيروان، خفي عن المؤرخين تاريخ مولدها واشتهر بينهم فضلها يقول ابن خلدون: «وكانت من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمان بن وطاس شيخ وريكة، فلما قتل المرابطون لقوط بن يوسف المغراوي خلفه أبو بكر بن عمر على امرأته».
نفهم من حديث ابن خلدون أن زينب تزوجت قبل أبي بكر بن عمر بأميرين اثنين ويفيدنا ابن عذاري صاحب «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» أن زينب كانت ذات همة عالية وأنها كانت معروفة في قبائل المصامدة حين يقول: «قد شاع ذكرها وأمرها في قبائل المصامدة وغيرها، فكان يخطبها أشياخهم وأمراؤهم فتمتنع لهم وتقول: «لا يتزوجني إلا من يحكم المغرب كله»، فكانوا يرمونها بالحمق... وكانت لها أخبار مستطرفة غريبة.. فبعض يقولون إن الجن يملكها وبعض يقولون هي ساحرة». إن زينب على هذا امرأة طموحة يقبل عليها الأمراء فتصدهم ولا تقبل إلا أفاضلهم، ولأن ابن عذاري يجمع الغث والسمين خلاف ابن خلدون فهو ينقل ارتسامات الناس في زمنها كما تقتضي الأمانة دون تغيير، وبالنظر إلى انتشار الجهل بين تلك القبائل قبل أن يظهر أمر المرابطين فمن المقبول أن يُنعت كل صاحب طموح بما نعتوا به زينب. إن إقبال الأمراء على زينب دليل على رجاحة عقلها وما اختارها أبو بكر بن عمر زوجة له إلا لوقوفه على خلالها الكريمة وهو الرجل الورع التقي الذي ارتضاه المرابطون إماما لهم، ونقف على شيء من هذه الصفات في رواية ابن عذاري، فبعد زواج أبي بكر من النفزاوية في شهر ذي القعدة عام ستين وأربعمائة وهبته أموالا طائلة ليصلح بها شؤون إمارته، يقول صاحب المعجب : «فعجب من ذلك أبو بكر بن عمر كل العجب لما عاين من الذخائر والذهب والفضة، فقالت له زوجه زينب هذا كله مالك ومتاعك أعطاك الله إياه على يدي فصرفته الآن عليك... وكانت هذه المرأة موسومة بالجمال والمال وكان لها محاسن وخصال محمودة... فقيل والله أعلم إن الجن كانت تخدمها».
إن زينب تهب مالها طائعة مختارة في سبيل الغاية النبيلة التي نذرت نفسها لخدمتها منذ البداية وهي الزواج من رجل يلتئم شمل المغاربة على يديه أو بتعبيرها «رجل يحكم المغرب كله» وتكون هي من بعد ذلك مستشارته وملاذه في النائبات وأما ما نقله ابن عذاري من مصدر مالها فمحمول على تعلق الناس بالخوارق في ذلك الزمن وهو نفسه يشكك في رواية العامة، والأقرب للعقل أنها كانت تحت أميرين قبل أبي بكر فلا يبعد أنها اطلعت على أسرارهما فدلت أبا بكر على مكان ثروتهما أو أن مالهما انتقل إليها بالإرث فأنفقته في صالح أمتها كما يجدر بامرأة في مثل عقلها وحكمتها.
أشارت زينب على أبي بكر ببناء مراكش فشرع في ذلك ولم يتمه إلى أن كان ما هو معلوم من بنائها على يد يوسف وكانت زينب يومها زوجا له.. وأما قصة زواجها من أمير المسلمين فدليل آخر على تحليها بأخلاق لا نظير لها بين النساء، إذ أن الأمير أبا بكر حين عزم على الرحيل إلى الصحراء بعدما سمع من اضطراب أحوالها وكانت مدة إقامته عند زينب لا تتجاوز ثلاثة أشهر طلقها مبررا فراقه لها بعدم قدرتها على التأقلم مع حياة الصحراء القاسية، جاء في الاستقصا لصاحبه الناصري: «وقال لها عند فراقه إياها يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب»، فامتثلت زينب لأمره بعد أن وضعت ثروتها بين يديه غير مبالية بزوال الإمارة والمال معا وهي تدرك أن زواج يوسف بها منوط برغبة يوسف وحده لا بأمر أبي بكر لكنها أذعنت دون تذمر وكان ردها كما في المعجب «الرأي السديد ما تراه» ثم إن أبا بكر دعا يوسف ونصحه بالزواج منها وقال: «تزوجها فإنها امرأة مسعودة» وتكفينا هذه الإشارة من رجل مرابطي صالح لنحكم بصلاح المرأة وورعها، غير أن زينب لم تكن جميلة وورعة فحسب فهي كما وصفها الناصري «حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور». فبعيد زواجها من أمير المسلمين تجلت عبقريتها في الإدارة والتخطيط وصارت وزير صدق في دولة يوسف يفزع إليها للمشورة فتشير عليه حتى حقق غايته وغايتها وغاية الأمة جمعاء في توحيد المغرب، يقول ابن عذاري: «وأعطته الأموال الغزيرة فأركب الرجال الكثيرة وجمعت له القبائل أموالا عظيمة، فجند الأجناد وأخذ في جمع الجيوش من البربر والاحتشاد... بنفسه وبتدبير زوجه زينب في كل يوم مع أمسه حتى سلك أهل المغرب في قانون الضغط فتأتى من ملكه ما لم يتأت».
وإن يوسف ليذكر فضل زينب أمام الملأ من الناس ويثني عليها ثناء حسنا، فكان إذا اجتمع بأبناء عمومته يقول «إنما فتح الله البلاد برأيها».
ومن الطرائف التي يسوقها الناصري في معرض الحديث عن رجاحة عقل زينب أن ثلاثة نفر اجتمعوا فتمنى أحدهم ألف دينار يتّجِر بها، وتمنى الثاني عملا يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الثالث زينب فبلغت مقالتهم أسماع أمير المسلمين، فأحضرهم بين يديه وحقق أمنياتهم ثم بعث بالثالث إلى زينب فحبسته ثلاثة أيام بخيمة لا يذوق إلا طعاما واحدا ثم سألته عن مأكله فقال هو طعام واحد فقالت فكذلك النساء ثم أمرت له بكسوة ومال وصرفته.
وقد تعددت الروايات التي نقلت خلاف أبي بكر ويوسف حول السلطة ودور زينب في حسم الخلاف لصالح يوسف، وهي إن أجمعت على حسن تدبير زينب فهي روايات مظنونة لسببين اثنين، أولهما أن أبا بكر لما عزم على السفر إلى الصحراء أخبر زينب أنه سيستخلف يوسف على المغرب فلا مسوغ لعدوله عن قراره بعدما رأى نجاحات أمير المسلمين الباهرة، وثاني الأمرين أن وفاة زينب سبقت عودة أبي بكر إلى المغرب إذ أن وفاتها كانت عام 464ه كما ذكر ابن زرع صاحب روض القرطاس بينما كان رجوع أبي بكر من الصحراء بعد ذلك بعام.
تركت زينب بعد وفاتها تميما والفضل والمعز بالله وكان تميم هذا من القادة العسكريين البارعين، وقد اختار يوسف لولاية عهده عليا من ولد زوجه «قمر» مما يفند الزعم القائل باستبدادها بأمور الحكم فلو كانت كذلك لكانت ولاية العهد في ولدها، ولكنها كانت امرأة فاضلة تبذل الغالي والنفيس في سبيل أمتها، لا تنتظر جزاء ولا شكورا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.