يوسف الحلوي ما أروع ما ردد أحد العلماء المصريين بين يدي ترجمة حافظ المغرب عبد الحي الكتاني : «وما عساي أقول في رجل كلما أمسكت القلم لأكتب عنه تهيبته من غير خوف كما يتهيب المؤمن قالة الحق تحيك في قلبه، خشية أن يجور فيها لسانه، أو أن يعدل بها سامعها عن وجهٍ قَصَد إليه»، أو ليست هذه لازمة صار من واجبنا أن نستهل بها الحديث عن كل أعلام أمتنا الأفذاذ؟ فهل نفي بغرض التعريف بسادتنا وأئمتنا في بضعة أسطر وقد أثلوا من سطور المجد ما تقصر الأعمار دون الإلمام بالهين اليسير من أحرفه . ولننظر إلى سيرة العلامة عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي لنستجلي صدق هذا الزعم، فقد خلف الرجل ما يفوق مائتي كتاب في كل ميادين العلم حتى إن دراسة إرثه العلمي لتعجزُ جمعا من العلماء المتخصصين، ولا يستقيم بحال أن يقوم بها الواحد أو الاثنين، فالرجل كتب في الفلك والرياضيات والفقه والمنطق والنبات، فأين في وقتنا من يحسن كل ذلك ليقدمَ للإنسانية صورة عبد الرحمان الفاسي الرياضي والنباتي والفلكي والفقيه بصدق وأمانة لا يشوبها نقص ولا خلل. وبعد فإن الترجمة غير الدراسة وتحقيق المؤلفات، فمبلغ ما يبذله المكثر من الجهد في هذا المقام أن يصرخ في الناس هذا عالم جليل بين ظهرانيكم فاذكروه. هو أبو زيد عبد الرحمان بن عبد القادر بن علي الفاسي الفهري ترجم له مخلوف في شجرة النور الزكية والكتاني في سلوة الأنفاس والقادري في نشر المثاني والأفراني في صفوة من انتشر والتازي في جامع القرويين وغيرهم. ولد عبد الرحمان الفاسي عام 1040ه بفاس وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ومن مشايخه الذين تتلمذ لهم نذكر عبد الرحمان بن القاضي ووالده عبد القادر الفاسي والنحوي أحمد الرموزي ومحمد ميارة وغيرهم. خلف الفاسي مؤلفات نفيسة نذكر منها «العمل الفاسي» وهو منظومة نظم فيها ما جرى به عمل أهل فاس في أربعمائة وبضع وعشرين بيتا، كان قد بدأ شرحها غير أن أجله أدركه دون أن يتم ذلك فتعاقب العلماء من بعده على شرحها حتى بلغ عدد شروحها العشرات، نذكر منها «الأمليات الفاشية من شرح العمليات الفاسية» للقاضي أبي القاسم العميري التادلي، ثم شرح العلامة محمد بن أبي القاسم السجلماسي البجعدي الرباطي، ثم «تحفة أكياس الناس بشرح عمليات فاس»، ولا شك أن اهتمام العلماء بشرح المنظومة دليل على أهميتها من الناحية الفقهية ودقة مسائلها، وخاصة فيما يتعلق بجمع الناظم للأعراف المجمع عليها من قبل عدول عصره وقضاته مما يخالف المشهور أحيانا، ولكنه محكم بقوة العادة التي تصير شرعا في ما لا نص فيه. ومن أمثلة القضايا التي تطرق لها الفاسي في النظم قضية الوعد بالعقد التي يلحقها بالدخول في كافة الأحكام المترتبة عن دخول الرجل بزوجته يقول الفاسي: وفي النكاح إن بدا القبول والوعد للعقد هو الدخول وقد علق العلامة أحمد سكيرج الأنصاري على ذلك في «محاذاة نظم أبي زيد الفاسي» قائلا : جرى عمل أهل فاس بأنه إن وقع النكاح بين ولي الزوجة والزوج أو نائبها الشرعي عليه، وظهر القبول من كليهما وانقطع الوعد بينها لضرب الصداق وعقده، فإن هذا كله ينزل بمنزلة الدخول بهذه الزوجة. كما يرى الفاسي أن سماع الجيران بأن فلانا تزوج فلانة مع قبولها دليل تام على صحة الزوجية، يقول في المنظومة : وسمع الجيران مع ما يبعث فهو ثبوت ما لديه عبث والحق أن المنظومة ليست مجموعة من الأحكام الفقهية والأقضية والفتاوى وحسب بل إنها مرآة حقيقية لمجتمع فاس في زمن عبد الرحمن الفاسي، تقدم معطيات ثرية عن ذهنية المجتمع الفاسي المحافظة ومسلك القضاة آنذاك في الحفاظ على ثوابت المجتمع، فانظر كيف جعلوا تداول الجيران لخبر زواج الفتاة دليلا على ثبوت الزوجية حفاظا على شرف المرأة وصيانة لنفسيتها ودرءا لمفسدة العبث بمشاعر النساء. ألف أبو زيد في الأدب «العجب في علم الأدب» و«تآليف في صناعة الشعر» وأشعارا جمعها ولده في كتابه «اللؤلؤ والمرجان» الذي وضعه في التعريف بوالده، كما ألف في الطب «اختصار أرجوزة ابن سينا في الطب» وفي المنطق «اختصار السلك في المنطق» وفي الفلك «الانتخاب في عمل الأسطرلاب» وفي النبات «تفسير الأعشاب». ومن مؤلفاته الضائعة «التلميح والتشريح» و«تمهيد السلاسة في علم الساسة» و»تهذيب المقاصد في الطب من نصبة الموالد» و«توجيز المسهوم من آداب النجوم» وله أرجوزة علمية طويلة بعنوان «الأقنوم في مبادئ العلوم» ضمنها مبادئ المئات من العلوم المعروفة في عصره لم يغادر منها علما شرعيا ولا عقليا ولا تطبيقيا إلا تناوله ومما جاء فيها: من كل مدخل إلى العلوم ونظمه أسميه بالأقنوم جئت به في قصدها تتميما كيما يكون جامعا عظيما وذاك لما رأيت الاعتنا بما على ما قل منها ودنا وددت لو لم تخل من فنون تزيد والحديث ذو شجون إن الفاسي هنا يشير إلى أن هدفه من هذه الأرجوزة هو الاعتناء بالعلوم وجمعها، وعمله صورة صادقة لفلسفة عصره التي تُنَظرُ لتكامل العلوم، فلا مجال لوهم التخصص إذ العلومُ نسيج متكامل يصب بعضها في بعض ويخدم بعضها بعضا . ثم إن الفاسي لا يخفي تأثره بجلال الدين السيوطي حين يقول شبه النقاية ولكي أزيد علما ومنظوما لكي أفيد فنقاية العلوم المشار إليها هنا تتضمن خلاصة موجزة لأربعة عشر علما، ويبدو هنا تواضع الفاسي واضحا جليا فأرجوزته حوت خلاصة مائتين وثمانين علما وهو لا يستنكف من تشبيهها بالنقاية مع أن الفرق بينهما جسيم. ومن أمثلة اختصاره للعلوم في أرجوزته تعريفه للأدب على أنه: علم بكيفية إيجاد الكلام مع البلاغة بنثر أو نظام لا بد من دراسة الأخبار فيه وعلم سالف الأعصار وليسلك الإيجاز في محله كل مقام مفرد بقوله إذ ليس الاختصار بالمحمود في كل ما يرام من مقصود إن براعة الفاسي في المنظومات العلمية دليل على مقدرة أدبية عالية وتمكن لا شبهة فيه من العلوم التي اختارها موضوعا للنظم، وقد كان من المعتاد أن ينظم العلماء في علم الحديث أو الفقه أو الطب نظما مستقلا لكن هذه «المنظومات الموسوعية» التي تشمل هذا الكم الهائل من صنوف العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لغير خاصة العلماء ومبرزيهم. توفي عبد الرحمان الفاسي يوم 16جمادى الأولى عام 1096ه الموافق ل 20 أبريل 1685م ودفن بزاوية والده عبد القادر الفاسي في حي القلقليين التي سبق أن درس بها، وقد تبارى الشعراء من معاصريه في رثائه بعدما استيقنوا فداحة خطب الأمة في رحيله وممن رثاه العلامة أبو سالم العياشي وعبد الملك التجموعتي.