تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    مباحثات تجمع العلمي ونياغ في الرباط    أخنوش: تنمية الصحراء المغربية تجسد السيادة وترسخ الإنصاف المجالي    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الأحزاب السياسية تشيد بالمقاربة التشاركية للملك محمد السادس من أجل تفصيل وتحيين مبادرة الحكم الذاتي    رفض البوليساريو الانخراط بالمسار السياسي يعمق عزلة الطرح الانفصالي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    تلاميذ ثانوية الرواضي يحتجون ضد تدهور الأوضاع داخل المؤسسة والداخلية    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«إذا الشعب أراد الحياة».. حين تتظاهر القصيدة في الشارع
لماذا رددت الجماهير العربية بيتا واحدا للشابي و«داست» على باقي تراثها الشعري؟
نشر في المساء يوم 24 - 12 - 2012

بالرغم من تراثها الشعري الضخم، لم تجد «أمة الشعر»، حين انطلقت شرارة الثورة من سيدي بوزيد مع محمد البوعزيزي، الذي خلدت تونس مؤخرا ذكرى وفاته الأولى،
سوى بيت شعري لأبي القاسم الشابي كانت رفعته بالأمس في وجه المستعمر الذي كان قد ناء بكلكله على صدرها سنوات طوال، فهل هي سخرية الأقدار أن وجدت هذه الجماهير العربية من الماء إلى الماء نفسها ترفع نفس بيت أبي القاسم الشابي: «إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ / فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر» في وجه من حكموها بعد رحيل المستعمر الذي كانت قد توحدت ضده كل الشعوب العربية؟ أم لأن الأمس أشبه باليوم، حيث الظلم لا لغة ولا دين له؟ أم لأن حس هذا الشاعر المسكون بطموح الشباب وتحديه وصدقه في التعبير عن آمال الإنسان الكبرى وفي أن يظل حرا طليقا كريما لا يحكم مصيره أحد سواه هو ما جعل الشعوب العربية الثائرة لم تجد أقرب شعار ترفعه في وجه جلاديها سوى مطلع قصيدة «إرادة الحياة» ذات النفس الشبابي الثوري الذي يتماشى مع طموحات أجيال شبابية جديدة كانت في طليعة من يصيح عاليا «الشعب يريد إسقاط النظام» أو «ارحل».
فهل مميزات شعر الشابي هي ما جعلت الجماهير العربية تشد بقوة على بيت هذا الشاعر الرومانسي و»تدوس» على واقعية الشعراء ونثريتهم وترفع شاراتها بالنصر تستنهض الهمم وتكلم في الإنسان العربي شيئا ظل يعطله وهو «إرادة الحياة»، ولذلك عاش «أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر». فهل أخذ الشعر بهذا البيت المكانة اللائقة به وعاد فاعلا في التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي في كل بلد وكل عصر؟
في هذا الملف يقرأ مبدعون مغاربة كل من زاويته لماذا تردد بيت الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة...» في كل الثورات العربية؟ هل لأنه كان يعبر عن مطالب الجماهير العربية التي ظلت تحلم بالكرامة؟ ولماذا اختير هذا البيت الشعري من دون التراث الشعري العربي كي يكون شعار الحلم بالتغيير.
عزيز أزغاي (شاعر وفنان تشكيلي)
«إرادة الحياة» نشيد المستضعفين الخالد
أولا، تنبغي الإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين، قبل الإجابة عن سؤال هذا الملف. الملاحظة الأولى أن الشابي سبق له أن نشر نماذج من شعره في مجلة «أبوللو» لصاحبها أحمد زكي أبي شادي بالقاهرة ابتداء من سنة 1932. وبسبب نبوغ الشاعر وارتفاع شاعريته، طلب منه أبو شادي أن يخص ديوانه «الينبوع» بمقدمة، مما متن أواصر الصداقة بين الشاعرين، وجعل الشابي يفكر، بعد ذلك، في نشر ديوانه الأول بالقاهرة، وهو ما تم بالفعل، لكن بعد واحد عشرين سنة على وفاته.
أما الملاحظة الثانية فهي أن قصيدة «إرادة الحياة» موضوع هذا الملف، والمؤرخة في 15 شتنبر 1933، توجد من بين قصائد ديوان الشابي الأول «أغاني الحياة»، الذي صدر سنة 1955، عن دار الكتب الشرقيةبتونس، وتم طبعه بدار مصر للطباعة بالقاهرة (طبع في مصر وليس في تونس)، أي بعد واحد وعشرين سنة - كما أسلفنا - من وفاة الشاعر التي كانت في سنة 1934.
الغرض من استحضار الملاحظتين السالفتين يتجلى في كونهما تتضمنان إشارتين بالغتين، الأولى هي المكانة التي حازها الشابي، وقد كانت سنه لا تتجاوز الخامسة والعشرين، في مصر التي كان صوتها الشعري محمولا على أكتاف شعراء كبار أمثال: محمد سامي البارودي وأحمد شوقي وعبد الرحمان شكري وحافظ إبراهيم وغيرهم، وهو الأمر الذي اعتبر اختراقا شعريا لتلك الجبهة التي كانت تنتصر لمركزية الشرق.
أما الإشارة الثانية، فتتعلق بصدور مجموعة الشابي الأولى في مصر، أي بالمركز، مما مكنها من الانتشار على نطاق أوسع، مع ما رافق ذلك من اعتراف بقامة هذا الشاعر التونسي القادم من غرب الشرق.
وإذا ما أضفنا إلى هاتين الإشارتين قيمة الشابي الشعرية المتأصلة ونبوغه المشهود، إلى جانب موضوع القصيدة الذي يركز على استنهاض الهمم طلبا للحياة الحرة والكريمة، في محيط عربي كان ما يزال يرزح تحت نير الاستعمار، ثم برمجتها في أغلب المقررات الدراسية العربية بعيد استقلالات الدول العربية، أمكننا استيعاب الهالة الشعرية التي حازتها هذه القصيدة، ليس عربيا وحسب، بل كونيا، باعتبارها نموذجا لشعر المقاومة وشعر الحياة.
أضف إلى ذلك أن ما سمي - تجاوزا – ب«الثورات العربية» انطلقت من تونس، مسقط رأس الشاعر، وبالتالي لم يكن غريبا أن تصبح هذه القصيدة بمثابة الحطب الذي أذكى حرارة الشارع العربي داخل البلدان التي عاشت حراكا شعبيا غير مسبوق، لكونها كتبت بلغة شفافة، سهلة، واضحة وواقعية، مما جعلها في متناول الحفظ وقريبة من وجدان العامة.


عبد الفتاح الحجمري (كاتب وناقد)
البيت الشعري هو دفاع عن حرية الشعوب ضد الفساد
قول شعري أثير بعيدا عن كل إملاء إيديولوجي مسكوك أبدعه شاعر خبر هموم الناس والنفوس بعبارات في غاية البساطة والعمق والدقة والوضوح...، وهي ميزة قصيد شاهد على حقبة وتقاسيم عصر؛ قول شعري وحده قادر على ترجمة أحاسيس الأفراد ولواعج الجماعة من أجل بناء مجتمع ناهض متحرر ونابض بالحياة.
لا يكون الأدب إلا حين ينشد قلق الكينونة ويصقل نبرة الغضب إنصافا للإنسان وتحقيقا لكرامة مرجوة.
الإرادة دوما للشعب، أي لروح الجماعة لأن أساس الحياة كامن في الحرية، وهذا ما نظرت له العديد من الكتابات الفلسفية والفكرية التي رهنت الحرية بالحق وبالواجب لا بالفطرة أو الاكتساب والمشاعر الحماسية العابرة.لذلك، لا تنفصل إرادة الشعوب عن الوعي بالمصير والشعور الواقعي بقيمة المعرفة والتعلّم، بهما تصبح الحرية ضرورة للتقدم والخروج من التأخر التاريخي؛ الحرية هنا جماعية لا فردية ومنبعها إرادة الشعب،لأنها أعدل إرادة يجد فيها كل فرد صوته استجابة لندائه وتطلعا لرغباته.
إن البيت الشعري لأبي القاسم الشابي، وبصرف النظر عن السياق التاريخي الذي قيل فيه إبان حركات التحرر من الاستعمار، هو دفاع عن حرية الشعوب ضد الفساد وسوء التدبير وخيبة المدى في ظل حكم جائر فرضه المستعمر أو فرضه حكم مستبد؛ فالحرية تعبير عن الإرادة ومشاركة جماعية لحركة اجتماعية ترغب في تخطي الأزمة وتصوّر «ثقافة سياسية» بديلة بوصفها أملا منشودا يمكن العودة إليه كما تمثلته نظريات مضيئة في الفكر السياسي المعاصر لدى توماس هوبز وجان جاك روسو وكانط مثلا.
إذا الشعب يوما أراد الحياة:عبارة خالدة ومعبرة عن حركة احتجاجية ضد مستعمر، وهي في الآن ذاته عبارة معبرة عن حركة اجتماعية ... حتى إسقاط نظام.

الحبيب الدائم ربي (روائي)
إنها الرغبة العارمة في تجاوز شرط الهزائم بإرادة للحياة لا تقهر
الآن يمكن للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي أن ينام في مثواه- ذي المتربة- قرير الروح لأنه أفلح أخيرا في أن يلج بوابة العروبة- ببيتين شعريين لا غير- في عز الربيع، وهو ما لم يكن يحلم به قيد حياته الحزينة الخاطفة.. لا لأنه لم يكن يملك من القريض غيرهما ولا غير مؤهل لذلك وإنما لأن مؤهلين كثرا سواه ما أتيح لهم شرف الحياة من جديد، بعد ممات، لاعتبارات لا نملك لتفسيرها قولا فصلا. لعل من بينها تلك المصادفات التي عرّفها «كورنو» بكونها «التقاء سلسلتين مستقلتين- أو أكثر- من الأحداث». أهو مكر الشعر أم مكر التاريخ؟ لربما يكون مفتاح اللغز في عدم وجود مفتاح أصلا.
علينا أن نمتلك الشجاعة الكافية للقول بأن البيتين الشهيرين، في سمفونية الحراك العربي، لصاحب «أغاني الحياة»، ومن منظور شعري صرف، لا يحوزان قيمة إبداعية استثنائية في ذاتهما، بيد أن قوتهما، فيما نظن، قد تتأتى من خارجهما. هذا إن جاز لنا الحديث عن دواخل وخوارج في مقاربة الفعل الإبداعي. إنهما(أي البيتين)، بظننا، أقرب إلى النشيد من الشعر(وما عساه يكون الشعر في المحصّلة؟) لكنهما أيضا أقرب إلى القلب من أي شعر. وتلك هي المسألة. مادام تعريف الشعر يبقى خارج مدارات التحديد النقدي، وإلا فإلامَ يرجع السبب في انبعاث هذين البيتين من رماد الوقت بألق أكبر؟ هل لأن صاحبهما كان أصدق؟ ربما.
علينا كذلك أن نتحرر قليلا من نظرتنا «التقديسية» للشعر(وللفنون ككل) مادام الإبداع – أي إبداع- يستند في إنتاجه إلى «صناعة»، لها أصولها وضوابطها، فضلا عن هامش من الإلهام(ولو أن الإلهام مجرد دفع بالصنعة إلى منتهاها). والحال أن الشعر، بما هو واحد من القيم البشرية «المنقولة»، لا مناص له من أن يخضع لاقتصاديات التداول (الرمزي على الأقل)، أي أن ما ينطبق على السلع بوجه عام قد ينطبق عليه. وهو لهذا يخضع لقانون السوق، علما بأن هناك آليات معقدة من شأنها التحكم في حركية العرض والطلب. ولئن كان هذا شبه مفهوم فإن المحيّر حقا هو تلك القوة الخلاقة التي ما تفتأ تكتسيها بعض الأعمال الأدبية والفنية «المَشاءة»، التي لا ينال منا الزمن ولا تكترث بعادياته. ونظن أن لوسيان غولدمان وقف في منتصف الطريق أمام هذا الأمر حين اعتبر ذلك مقصورا على النصوص الفذة (الدينية والملحمية والأدبية) التي تملك «وعيا ممكنا» و»رؤية للعالم»، لأنه بدل أن يعتمد في شرحه أدوات واصفة دقيقة وظف مصطلحات غامضة لا تليق بمنظّرِ للبنيوية التكوينية وسوسيولوجياها. والواقع أن ما يعنينا هنا ليس وضع منجز أبي القاسم الشابي في ميزان النقد الأدبي، لأن قيمته الفنية لا تقبل الدحض، وقد ظلت حتى بعد مماته متنامية متصاعدة. لكننا في المقابل لا نستطيع الجزم برأي في صدد التلقف الخارق وشبه السحري لبيتيه الشهيرين من قبل شباب الثورة في تونس وباقي بلدان الربيع العربي. أكانَ للشابي أن يصدح، من جديد، كما لم يصدح من ذي قبل، لو لم تتفجر شرارة الثورة من أرض تونس أول مرة؟ لكن هل كان من الجائز أن يحل محل الشابي، كصوت للثورة وكرمز شعري، شاعر عربي آخر مهما كان، والدرس الثوري، في المشارق والمغارب، كان وسيظل تونسيا؟


عبد الدين حمروش (شاعر)
مواقف الشابي زادت في توهج البيت الشعري
في عصر الرواية، ينتصر الشعر بكل عنفوان. إنها لمفارقة أن يعلو صوت الشعر، في الوقت الذي بات يُنظر إلى زمنه، باعتباره زمنا للأفول والغياب. فجأة، وفي لحظة تاريخية فارقة، ترتفع هامة الشعر في الساحات والميادين والشوارع. أين تَخَلَّف السرد، على عكس ما توقعه منظروه؟ في هذا الموقف، ليس هناك أنسب من تحوير قول مأثور، ليصير على النحو التالي:» كذب المُنَظِّرون ولو صدقوا».
في قصائد الشابي تنبثق الحياة بأقوى صورها ومعانيها. أو لم يحمل مجموعه الشعري اسم «أغاني الحياة» تصريحا لا تلميحا؟ الحياة، بما تعنيه من حرية وانطلاق، تستحق أن تُغنَّى، حتى في أشقى لحظاتها. إن التشبث بها يستدعي خوضها ومجابهتها بكل إرادة وعزيمة. هذا هو الدرس الذي ما انفك يعلمنا إياه الشابي، من خلال جميع أغانيه المبثوثة في المجموع، وتحديدا أغنيته القوية «إرادة الحياة». لقد عُرف عن شاعرنا نزوعه الذاتي- التأملي، سيرا على منوال الشعراء الوجدانيين. غير أن قصيدته المذكورة تكاد تنحرف بمسار الشابي الشعري قاطبة، بخروجها من إسار الذات الفردية إلى رحاب الذات الجمعية. لم تكن الذات الأخيرة غير الوطن/ الأمة. هاهنا يفتح الشاعر نوافذ قصائده لتُقرأ بأكثر من معنى ودلالة.
كانت قصيدة الشابي ترافق مسيرات الثائرين في الساحات والميادين والشوارع. لقد مثلت التعبير الأمثل عن إرادة الحياة، في وجه الموت الذي أطبق على كل شيء. فاللغة السلسة، المقترنة بالمعنى البسيط، جعلت القصيدة تنطلق مدوية من حناجر أولئك الثائرين، من مختلف خلفياتهم الاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية. لقد ظلت بمثابة الخبز اليومي، الذي لم يكفوا عن التغذي عليه، في لحظات نشدانهم الحرية والديمقراطية. إن الأمر يتعلق بتعبير عن هوى شعبي، لا يمكن أن يصوغه إلا شاعر راءٍ بحجم أبي القاسم الشابي.
إضافة إلى المعنى، لا ينبغي تغييب قائله بأي حال. فلحضور الشابي، بشخصيته الشابة المبدعة، أكثر من رمزية في سياقنا. لقد كان شاعرا ثائرا بأبعاد مختلفة، سواء في رؤيته الفنية أو مواقفه السياسية. ولعل ذلك ما زاد في توهج البيت الشعري، وقد استعيدت قوته لتكون معبرة عن اللحظة الثورية الراهنة. والمفارقة أن القصيد/ النشيد، الذي كثيرا ما استُهلك لخدمة وطنية رسمية، سرعان ما سيستأنف حيويته الشعبية من جديد. لقد انتُزع من حضن بارد ليُنقل إلى حضن آخر دافئ.
إذن، ليس من الغريب أن ترتفع حناجر الشباب بشعر واحد منهم..أي الشابي الشاب. إنه صوتهم، في نشدانهم الحرية والصباح الجديد. ها هنا، يلتقي الشباب الثائر: في الحياة والفن. الشباب والثورة، يجمعانه بهم في لقاء تاريخي عجيب. والحياة ليست بمنأى عن ذلك، مادام الشاعر اختار أن تستمر حياته في شعره المُبدِع.

الزبير بن بوشتى (كاتب مسرحي)
من «إذا الشعب يوما أراد» إلى «الشعب يريد»
يبدو أن الإبداع الحق لا يمكن إلا أن يستبد بالإنسان في كل زمان ومكان. وقصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي أو على الأقل مطلعها الشهير: «إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر» تتوفر على كل مقومات الحلم الرومانسي الثوري الآخذ بالوجدان وبالقلوب.. لأنها أولا وقبل كل شيء قصيدة نابعة من رغبة الشاعر المعتل صحيا والمهدد بالموت في أي لحظة في التعلق بالحياة وتحدي كل علات مرضه التي تتهدد حياته.
ثم إن مطلع القصيدة يبدأ بإذا «شرطية» ويتبعها بكلمة مزلزلة وثائرة، هي «الشعب»، وبعد ذلك «الإرادة»، ف«الحياة»، وهي بغنائيتها كلمات تواشجت معانيها لبناء جملة رومانسية تستدعي الحلم الثوري مصيبة هدفها من القلب والوجدان فتشحذ الهمم وتوقظ الحماسة لدى الراغبين في التحدي على الوهن المتمكن من جسد الوطن العربي المعتل. ثم تتبع كل هذا ثلاث كلمات لها من قوة انفجارية ما يحيلها إلى ثورة حية تحيل الكلمة إلى فعل، هي: لابد، القيد، ينكسر.
لذلك نجد أن الشعوب العربية انبرت إلى تحوير مطلع البيت «إذا الشعب يوما أراد» بحذف «إذا» الشرطية و«يوما» التي تعني زمنا غير محدد، وتغيير زمن الإرادة من الماضي إلى الحاضر ليصير شعارا تقريريا مباشرا: «الشعب يريد».
وفي رأيي اختيار هذا البيت له سببان: السبب الأول نوستالجي باعتبار أنه البيت الذي كانت تردده الشعوب المغاربية في نضالاتها ضد المستعمر. أما السبب الثاني فيعود إلى كون الشرارة الأولى لما يسمى ب«الربيع العربي» قد انطلقت من تونس، لذلك كان حتميا أن يستعمل التونسيون الشعار النضالي الأثير على القلوب المتعطشة للتغيير ليسري هذا الشعار في الجغرافية العربية كما تسري النار في الهشيم. ثم إن تشبث الشعوب العربية بمطلع قصيدة الشابي الذي ينتمي إلى جيل النهضة العربية يؤكد على أن الواقع العربي السياسي والاقتصادي والمجتمعي لم يمسسه أي تغيير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.