في ليلة الجمعة 8 رمضان (سنة 1964)، ذهب العقيد محمد بن حمو أيت سعيد إلى عمله كالعادة، حيث كان يشتغل على تصفية ملفات الضباط وتثبيت رتبهم، فسمع في نشرة الأخبار، المبثوثة عبر المذياع، بأن المغفور له الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، قد ألغى كل الاستقبالات والمواعيد التي كانت في برنامجه الأسبوعي، استعدادا لإجراء عملية جراحية. كان العقيد محمد بن حمو أيت سعيد قد رأى في الليلة الماضية، في ما يراه النائم، أن محمد الخامس يجرفه النهر، يغرق حينا ويطفو حينا فيظهر منه طربوشه الوطني. عندما أعلن الراديو أن الملك بصدد إجراء عملية جراحية، ألقى العقيد بنحمو بمشاغله في يد نائبه السيد ادريس بن بوبكر، واستعد للسفر فورا إلى الرباط لمقابلة المغفور له محمد الخامس، قدس الله روحه. نبهه السيد ادريس بوبكر إلى أن المقابلة ستكون صعبة نظرا إلى انشغال الملك بصحته، لكن العقيد بن حمو قرر الذهاب سريعا. وعند وصوله إلى القصر الملكي في الرباط، استقبله المغفور له محمد الخامس وفرح لرؤيته رغم أنه لم يكن على موعد سابق معه. بادره القائد الملك: لقد أتيت على عجل لرؤيتك، فأنا لا أعلم من فينا الذي سيغادر هذه الدنيا الفانية قبل الآخر؛ ابتسم محمد الخامس وقدر وفاء وإخلاص وصداقة العقيد محمد بن حمو له. وسأل المغفور له محمد الخامس العقيد بن حمو: هل توصلت بشيك مني لإخراج حافلتك من شركة فولفو؟ فرد العقيد بن حمو: لم أتوصل بشيء؛ فأرسل محمد الخامس في طلب ولي عهده الحسن الثاني، فأتى مرفوقا بالشيك وقدمه إلى العقيد بن حمو. همّ العقيد بالانصراف لكن المغفور له محمد الخامس أوقفه، ثم توجه، بحضوره، إلى ولي عهده، مولاي الحسن، قائلا: أوصيك، أولا، إذا توفيت، أن يحمل نعشي بعض أعضاء المقاومة وجيش التحرير المغربي، وعلى رأسهم با حمو (هكذا كان محمد الخامس ينادي العقيد محمد بن حمو أيت سعيد)؛ ثانيا: أن تلبي حقوق ومطالب المجاهدين والمقاومين برد اعتبارهم، وصون كرامتهم، وإعلاء رتبهم، وإنصافهم، والاعتراف بروح مواطنتهم وإخلاصهم لله ولي وللعرش والوطن، والافتخار بهم وبما قدموه إلى المغرب من فخر وعز؛ ثالثا: أن تسدد الدين الذي أقرضته با حمو من شركة بوعيد، وذلك من أجل إنفاقه على جيش التحرير والمقدر بمائة مليون سنتيم. انتهت وصايا الملك لولي عهده، فانصرف بن حمو من القصر قلقا ومطمئنا في نفس الوقت. بعد يومين على هذا اللقاء، توفي محمد الخامس، قدس الله روحه، فاستدعى الملك الجديد العقيد بن حمو للحضور من أجل حمل نعش صديقه الغالي، المغفور له محمد الخامس، صحبة الأمير مولاي عبد الله ومولاي إدريس والحسن الثاني.. هكذا نفذت الوصية الأولى. أما عن تنفيذ وصية إنصاف المقاومين في رتبهم، فقد تساءل العقيد بنحمو حول ما إن كان هو من سيلقي التحية العسكرية على الكولونيل أوفقير والجنرال الكتاني، مع أن الأول كان تلميذا للمستعمر الفرنسي والثاني أتى من صفوف جيوش الاستعمار الإسباني، أم إنهما من سيلقيان التحية عليه، هو الذي كان، طوال حياته، سيفا في يد المغفور له محمد الخامس؟ رحل العقيد بن حمو وصاغ رسالة إلى المغفور له الحسن الثاني يسأله فيها أن يوضح له من سيلقي التحية على الآخر ومن المسؤول الأول والأخير عن الجيش المغربي، نظرا إلى كثرة المسؤولين غير الوطنيين في هذه الإدارة العسكرية المتمردة مرة ثانية على الإخلاص للعرش؛ فرد المغفور له الحسن الثاني على العقيد محمد بن حمو قائلا: هؤلاء الرجال أكاديميون أتوا من كراسي التعليم. وللأسف، أنتم لستم كذلك؟ غضب بن حمو كثيرا وغادر الرباط بصمت بعدما قدم استقالته إلى الملك الحسن الثاني فورا، وهو يردد: لا نظن أن الكفاح والوطنية يستوجبان القعود على كراسي المدرسة، وإنما يستوجبان حمل السلاح الذي يتطلب شجاعة كبيرة ونضالا واستماتة في الدفاع عن كرامة شعب تجرع القهر والتعذيب على يد الاستعمار الغاشم، وأغلبية الثورات في العالم تأتي من الجبال التي يعيش فيها فلاحون يشتغلون بالفؤوس والقوادم وليس بالقلم، وعلى أيديهم نحصل على كراسي الدراسة. مرت خمس سنوات على معاناة ضباط جيش التحرير المغربي في صفوف الجيش الملكي، ذاقوا فيها أنواع القهر والشتم والابتزاز وعرقلة مسيرتهم وتأخير رتبهم، لذلك رفض من تبقى من أعضاء جيش التحرير الانخراط في الجيش الملكي بعد ما رأوا ما حصل لباقي إخوانهم الوطنيين الذين سبقوهم إلى صفوفه، فما حصل جعلهم يعدلون عن المضي في نفس المسار الذي مضى فيه إخوانهم في الكفاح ولم يلووا فيه سوى على خيبة الأمل، فقد نصب لهم فخ حين قيل لهم إن إدماجهم في صفوف القوات المسلحة سيمنح المغرب وحدة وقوة، ذلك أن الأمر انقلب إلى عكسه ونتج عن عملية الاندماج انفصال هؤلاء الوطنيين وكسر جيش التحرير وكرس كراهية كبيرة بين المغاربة. للأسف، بقي الجيش منفصلا وظل يعاني من عدة مشاكل إلى يومنا هذا، وتشردت عائلات أفراده وضاعت أموالهم وحقوقهم. وفي نفس هذه الفترة، اضطهد المقاوم والمناضل الوطني شيخ العرب إلى أن اعتقل وأعدم من طرف الخائن أوفقير الذي حصل على رتبة جنرال من المغفور له الحسن الثاني. تلا ذلك تعليق عمل البرلمان، وهو أمر خطير مكن أوفقير من أن يفعل في المغاربة ما يحلو له وأن يسير المغرب كيفما يشاء، لذلك حصلت في المغرب ابتداء من سنة 1960 عدة أزمات سياسية عويصة، لازالت تجلياتها بادية على الوطن إلى اليوم، من ذلك الإطاحة بحكومة المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم، رحمه الله، الذي انتزع من منصبه كرئيس للحكومة، وهو الحدث الفظيع الذي اضطر الملك محمد الخامس إلى ترؤس الحكومة المغربية بنفسه. وبعدما أصبح الحسن الثاني ملكا للمغرب، ذهب العقيد محمد بن حمو إلى الرباط لمقابلته، وفي حواره معه، حذر العقيد الملك من تآمر أوفقير والدليمي عليه. كان الملك الجديد، حينها، يعلم جيدا بأن بن حمو رجل خبير في الاستعلامات، كما راكم خبرة في حرب العصابات التي تلقى تداريبها خلال الحرب العالمية الثانية في كل من ألمانيا وفرنسا، لذلك أنصت له الملك جيدا دون أن يعلق على كلامه. ثم غادر بن حمو القصر الملكي في الرباط متوجها إلى بيته بالدار البيضاء. وفي تلك الليلة على الساعة الرابعة فجرا، دق باب بن حمو الجنرال أوفقير والعميد بالقاسم من الأمن الوطني، ومعهما مجموعة من ضباط الجيش الملكي.. علم بن حمو فورا من حراسه بباب المنزل أن زواره يسعون إلى اغتياله، فتسلق جدار بيته، ورغم أنه سقط وتكسرت ساقه اليمنى، فقد جرها جرا حتى وصل إلي، ومن بيتي لجأ إلى بيت صديقه المرحوم الحاج بلعيد الكائن بالحبوس بالدار البيضاء، ليقرر مغادرة المغرب نحو الجزائر رفقة زوجته نعيمة أيت أمغار وولديه الحسن والحسين. وفي مدينة تلمسان، استقبلهم هواري بومدين الذي كان رئيس المكتب السياسي لجبهة التحرير الجزائرية، كما استقبلتهم الحكومة الجزائرية برئاسة الرئيس احمد بنبلة. وقد أقام بنحمو وعائلته، بعدما أن استضافهم بومدين في منزله لمدة شهر، في بيت بمدينة تلمسان خمس سنوات قبل أن يتم ترحيلهم إلى مدينة عيون ترك التي تبعد عن وهران ب15 كلم. وخلال تلك السنوات، حرصت الحكومة الجزائرية على حماية بن حمو من كل المؤامرات التي تعقبت آثاره في أرض الجزائر. وتروي لنا زوجة العقيد محمد بن حمو، كيف أنها استقبلت في بيتها مبعوثا من زوجها يأمرها بألا تغادر البيت لأن أوفقير بعث سبعة رجال من الأمن الوطني المغربي، متنكرين في ملابس عادية، بغرض خطفها حتى يتسنى لهم ابتزازه. وقد علم بن حمو بأمر دخولهم إلى التراب الجزائري من طرف المخابرات الجزائرية، فتمت حماية زوجته بشراسة. في تلك الظروف القاسية، أتى هواري بومدين، الذي كان حينها وزيرا للدفاع، وطلب من العقيد محمد بن حمو الإشراف على تدريب الجيش الجزائري على استعمال السلاح، فرفض بن حمو ذلك رفضا قاطعا واعتذر إلى الوزير، الذي سيصبح بعد مدة رئيسا للدولة الجزائرية، مبررا ذلك بأنه أتى لاجئا ومهاجرا وليس مساعدا لأية دولة، لأن الجزائر باستضافة بنحمو كانت تحاول أن ترد إليه جزءا مما قدمه إليها من مساعدات عندما كانت جاثمة تحت نير الاستعمار، وهو الأمر الذي لم تنسه الجزائر المستقلة لبنحمو، ليجد الأخير نفسه وأسرته وضباطه من جيش التحرير المغربي تحت الحراسة الإجبارية، مدة سنتين، بقاعدة عسكرية في مدينة تبعد عن وهران ببضعة كيلومترات، لقد جعل بومدين بن حمو ورفاقه في السلاح لا يعرفون معنى للحرية، وقد فضل بنحمو التنازل عن حريته بدل التنازل عن مبادئه وتدريب جيش دولة على خلاف مع وطنه المغرب. وقد حرم بنحمو من جراء هذا الموقف من زوجته وأولاده، ولم يحصل إلا على ثلاثة لقاءات عائلية طيلة سنتين، ولم ترفع الإقامة الإجبارية عن بنحمو ومن معه إلا بعدما انقلب بومدين على بنبلة وأصبح ثاني رئيس للجزائر.