لا حديث للصحافة والمعارضة الفرنسية هذه الأيام سوى عن العشاء الفاخر لزعماء ورؤساء الدول بمناسبة مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط سنة 2008، والذي كلف دافعي الضرائب الفرنسيين ثمنا باهظا قدر بحوالي 1.010.256 أوروها، أي خمسة آلاف أورو «للراس». ولعل النقطة التي أفاضت الكأس وجعلت المعارضة الاشتراكية تخرج عن طورها هي تركيب «دوش» خاص بالرئيس الفرنسي خلال المؤتمر بغلاف مالي قدره 24 ألف أورو. يحدث هذا في بلد ينتمي إلى نادي الدول الغنية، بلد صناعي يعتبر اقتصاده من أقوى الاقتصادات في العالم. ومع ذلك وبسبب الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم، بدأنا نسمع أصواتا في فرنسا تهاجم الحكومة بمجرد ما تسجل عليها تبذيرا صغيرا للمال العام. في المغرب، لدينا مؤسسات لا أحد يعرف لأي شيء تصلح، رغم أن ميزانية الدولة تصرف عليها الملايير كل سنة من أموال دافعي الضرائب. إحدى هذه المؤسسات هي المعهد العالي للإدارة بالرباط، والذي مرت على افتتاحه حوالي ست سنوات. ولعلكم تذكرون كيف أن الحسن الثاني كان يتابع سنة 1996 أحد البرامج الحوارية على القناة الثانية أيام العز، فأثارته القدرة الكبيرة للضيف خالد الناصري على الارتجال ومقارعة الحجج. ولم يفطن إلى أن ما كان يقوم به الناصري في ذلك البرنامج ليس سوى «تعمار الشوارج». فاستدعاه وطلب منه خلق مؤسسة لتكوين النخبة التي ستسير الإدارة المغربية، أطلق عليها الحسن الثاني «المعهد العالي للإدارة». ومنذ توصل الناصري بظهير تعيينه بتاريخ 20 يونيو 1996، وهو يتوصل براتبه الشهري دون أن يظهر للمعهد أثر. يعني أنه ظل موظفا شبحا طيلة سبع سنوات. وقد كان ضروريا انتظار سنة 2003 لكي يخرج المعهد إلى الوجود في ظل حكومة جطو الذي جاء بوفد وزاري هام لاستقبال الفوج الأول من الموظفين الذين دخلوا فصول المعهد. المعهد، الذي ترصد له ميزانية سنوية من أموال دافعي الضرائب، لا يكاد يستفيد منه أحد. بالعكس، فالذي يقع هو أن الأطباء والدكاترة والمتصرفين والموظفين الكبار الذين يغامرون بالتخلي عن مناصبهم ويأتون لاجتياز الاختبارات الصعبة لولوج المعهد، يجدون أنفسهم، بعد سنتين من التكوين الشاق على أيدي خبراء محليين وأجانب، مجبرين على العودة إلى وظائفهم الأصلية التي أتوا منها. وهذه هي «اللقطة الخايبة فالفيلم». فهؤلاء الأطر عندما يعودون إلى قواعدهم يجدون صعوبات كبيرة في الاندماج في محيطهم المهني، خصوصا أولئك الذين يجدون أنفسهم مجبرين على الاشتغال تحت إمرة رؤساء آخرين بعدما كانوا في الأول يشغلون منصب رؤساء أقسام أو مصالح. يعني أنهم يصبحون «لا ديدي لا حب الملوك». فلا هم تخرجوا من المعهد سفراء ولا مدراء مؤسسات عمومية أو مدراء مركزيين بالوزارات أو ولاة أو كتاب عامين للولايات، كما غرروا بهم في البداية، ولا هم عادوا إلى سابق مسؤولياتهم التي غامروا بها من أجل دخول «المعهد العالي للإدارة». في فرنسا، نجحت المدرسة الوطنية للإدارة بباريس، التي أراد الحسن الثاني بتأسيسه للمعهد العالي للإدارة تقليدها، في تكوين سياسيين وإداريين يحتلون اليوم مقدمة الساحة الإعلامية والسياسية، أسماء من عيار «جاك شيراك» و«ألان جوبي» و«سيغولين روايال» و«دومينيك دوفيلبان» و«فرانسوا هولاند»، وغيرهم كثير. أما عندنا في المغرب، فعدا إطارين محظوظين تم توظيفهما بظهير، لم ينجح المعهد، إلى حدود اليوم، سوى في «تخريج» مائة إطار ضمن أربعة أفواج وإرجاعهم إلى وظائفهم الأصلية، دون أن تستفيد الدولة والإدارة من التكوين العالي الذي تلقوه طيلة سنتين. ورغم أن الفوج الرابع تخرج منذ يناير الماضي، فإن خريجيه لم يتوصلوا إلى اليوم بشواهدهم. فيبدو أن عباس الفاسي والناصري مدير المعهد خائفان من أن تسمعهم جمعية خريجي المعهد «خل ودنيهم»، كما صنعت خلال حفل تخرج فوج 2008، عندما طالب رئيس الجمعية الوزيرين بتوضيح الوضعية الشاذة التي يعيشها المعهد، فبدأ الناصري ينظر إلى عباس الفاسي «بنص عين» وكأنه يقول له «الهضرة عليك أ الحادر عينيك». قبل أن يأكل الوزيران حلوى حفل التخرج ويمضيا إلى شؤونهما ويتركا المعهد مفتوحا على المجهول. الوحيد الذي ربما يستفيد من المعهد هو خالد الناصري نفسه الذي يقول الموقع الإلكتروني للمعهد إنه لازال مديره إلى اليوم. فالناصري الذي سبق له أن ساهم مع إدريس البصري وآخرين في الثمانينيات بمقال في كتاب «30 سنة من الحياة الدستورية بالمغرب»، يظهر أنه لم يقرأ الفصل الذي ينص على عدم الجمع بين وظيفتين عموميتين في وقت واحد. والله أعلم إن كان الناصري يترأس إدارة هذا المعهد «باطل»، أي «فابور»، أو يتقاضى تحفيزات شهرية عن هذه المسؤولية بالإضافة إلى راتبه كوزير. «شي ربعة كيلو زيد عليها ستة ديال الوزارة هيا كمالة عشرة». اللهم لا حسد. فيبدو أن سعادة الوزير لا يحب كثيرا الخوض في الحديث حول موضوع «المعهد العالي للإدارة». والدليل على ذلك أنه عندما أعد حلقة من برنامج «ميزانكور» مع صديقه القديم حميد برادة، الذي «يتخلص» من «دوزيم» عن كل حلقة يعدها جالسا في الأستوديو بحوالي خمسة ملايين سنتيم دون الحديث عن تذاكر الطائرة المجانية والحجز في فندق من صنف خمس نجوم (الشيء الذي دفع بعض ألسنة السوء إلى تسمية برنامجه الشهري «ميزي أونكور» عوض «ميزانكور»)، تحدث عن كل شيء في حياته المهنية إلا عن إدارته للمعهد العالي للإدارة. فالرجل تنكر، طيلة ساعة من وقت البرنامج المخصص لسيرته الذاتية، لحوالي 13 سنة من حياته المهنية. وربما كان معه حق، فما هي المنجزات التي سيتحدث عنها الناصري للمشاهدين طيلة إدارته لهذا المعهد الذي أراده الحسن الثاني مشتلا لتكوين النخبة، فإذا به يتحول إلى محارة فارغة تكلف خزينة الدولة ميزانية سنوية كان الأجدر استغلالها في ما هو أهم. هذه، إذن، مؤسسة عمومية لا أحد يفهم سر بقائها إذا كانت الدولة في غير ما حاجة إلى خريجيها. فحتى الميداوي، رئيس مجلس الحسابات، الذي يحفظ عن ظهر قلب مدونة المحاكم المالية، خصوصا فصليها 172 و174، اللذين ينصان على ضرورة تخصيص ربع المناصب المالية في المجلس كل سنة لخريجي المعهد المتفوقين، يبدو أنه غير مهتم بمصير خريجي المعهد. لذلك فالأنسب، بالنسبة إلى موارد الدولة وحفظا للمستقبل المهني للموظفين، سيكون هو إغلاق هذا المعهد وكفى الله المغاربة شر «التخرج فالحيط»، وإلا فالحل الأمثل لبقاء هذا المعهد هو الاستفادة من مؤهلات خريجيه انسجاما مع الفلسفة التي أنشئ من أجلها. وبالإضافة إلى الملايير التي تضيع بسبب هذا المعهد، هناك ملايير أخرى تصرفها خزينة الدولة سنويا لمؤسسة لا يكاد يعرف عنها المغاربة الشيء الكثير، وهي مؤسسة «التعاون الوطني» المكلفة بتوزيع المنح على الخيريات والمراكز الاجتماعية ودور العجزة والجمعيات. ولعل القلة القليلة من المغاربة تعرف أن ميزانية هذه المؤسسة تصل سنويا إلى حوالي ثمانين مليار سنتيم. أخذت منها، على سبيل المثال، سنة 2004 جمعية «آفاق» التي تديرها زوجة الهاروشي عندما كان وزيرا حوالي 55 مليون سنتيم كدعم. وبالإضافة إلى جمعية «آفاق»، نعثر على جمعيات أخرى كثيرة مقربة من حزب الاستقلال تستفيد من منح «التعاون الوطني» لتمويل «حملاتها الاجتماعية» التي ليست في الحقيقة سوى واجهة للحملات الانتخابية طويلة الأمد التي يلجأ إليها بعض وزراء ومستشاري ونواب حزب الاستقلال في أحيائهم ومدنهم. ولا بد أن اللجنة التي جاءت من مفتشية الضرائب لكي تحقق في ملفات مؤسسة «التعاون الوطني»، قد استرعى انتباهها «سخاء» هذه المؤسسة مع جمعيات بعينها دون أخرى. كما قد يكون استرعى انتباهها الحضور الطاغي للعائلة الاستقلالية داخل إدارة هذه المؤسسة. فمنذ وصول عباس الفاسي وعائلته الفهرية إلى الحكومة أصبحنا نعثر على الاستقلاليين في مندوبيات وزارة الصحة وفي وزارة النقل والتجهيز وسائر المؤسسات العمومية التي توجد بها «ريحة الشحمة فالشاقور». وهذا هو «التعاون الوطني ديال بصح وإلا فلا».