الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    الوداد يعود بانتصار ثمين من آسفي    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البكالوريا المغربية وخطر التضخم الكاذب
نشر في الرأي المغربية يوم 01 - 08 - 2016

تجاوزت نسبة النجاح في امتحانات البكالوريا خلال هذه السنة ،% 55 .
ولا شك أن من ينظر إلى هذا الرقم مجردا عن السياق ، تنبسط سريرته ، وربما يندفع الى حد الحاقه بنسب ايجابية ، ينافح بعضنا عن تحققها في مجالات أخرى .
بيد أن من قال بأن الحواس وحدها تخدع لم يتفوه سوى بجزء من الحقيقة ، ذلك أن الأرقام كدوال واقعية بدورها تخدع ، ولنا في نسب النموالاقتصادي عبرة ، فعندما يجري الحديث عن ارتفاع في نسبة النمو الاقتصادي ، قد لا يكون الرقم في ذاته محل جدل ، لكن من الواضح أن أثر هذا الرقم قلما يلمس على مستوى العدالة التوزيعية ، وكأن هناك فصاما بين منطق الإنتاج ومنطق توزيع الخيرات وفق مبدأي المساواة والإنصاف .
وقياسا على مثالنا السابق نبادر إلى القول بأن ارتفاع نسبة الناجحين ، لا يدل على توقف المسار الانحداري للنظام التعليمي بل استفحال أزمته . وكأن هناك علاقة عكسية أشبه بالمفارقة بين واقع تعليمي مأزوم ومخرجاته التي تحاول الإيحاء بنقيض ذلك .
في سنة 1976 كانت نسبة النجاح في امتحانات البكالوريا 37,7% ، وهي نفس الفترة الزمنية التي كان فيها النظام التعليمي المغربي في وضع لابأس به على وجه الإجمال ، ووضع جيد إذا ما قورن بمالات الوضع بعد ذلك وخاصة في العقد الأخير .
لم تكن النسب هي دليل نجاح النظام التعليمي ، بل قيمة الشهادة المحصل عليها فهي دال ، مدلوله هو الجد والاجتهاد و التمكن .
كان يمكن اعتبار هذه الشهادة ، مؤشرا على تملك التلميذ لرأسمال ثقافي معتبر ، يسهل عليه استثماره وتحويله إلى رأسمال مادي ، حيث تعتبر (بنوع من النمذجة المثالية) الكفاءة ، والوعي الثقافي طريق نحو التسلق الاجتماعي و التخلص من الوصم الطبقي و المجالي و الاثني …
إنني بحكم ممارستي داخل القطاع المعني بحديثنا هذا ، وبفضل تواصلي المستمر مع زملاء كثر في مناطق شتى من البلاد ، أرجح أربعة عوامل يمكن اعتبارها بمثابة فرضيات متكاملة من شأنها تفسير هذا الارتفاع في نسبة النجاح .
الفرضية الأولى والتي تؤيدها ما لا حصر له من الوقائع تتجلى في تحول الغش من جريمة وفعل منبوذ ، إلى عنصر أساسي ضمن منظومة القيم لشريحة جد واسعة من التلاميذ ، فبعد أن كان الغش يفرض على ممارسه نوعا من التستر و التحايل ، صار التطبيع التدريجي و التواطؤ الضمني أو الصريح لطاقم المراقبة و الإشراف عاملا مشجعا على المجاهرة به ، بل ومدعاة للتفاخر أحيانا مقابل تبخيس قيم الجد والاجتهاد و النزاهة ، و السخرية من حامليها و العاملين بها .
لا شك أن هذا التطبيع هو جزء من منظومة فساد عميقة و شاملة ظهرت ونمت بل وصنعت على أعين السلطة ، وبمبادرة و تشجيع منها ، وما زاد في إنجاحها و التمكين لها بشكل حاسم استقالة عدد كبير من الأسر عن القيام بمهامها في التنشئة الأخلاقية والتربية على القيم المتعلقة بالصدق و النزاهة و الاجتهاد ، وتغليب الصالح العام . فهل نستغرب أن تكون المدرسة بمنجاة من هذا السرطان بعد أن تغلغل في السياسة و الاقتصاد و الأسرة و الإعلام و الرياضة …؟
وهو السؤال الذي يحيلنا على الفرضية الثانية ، التي تتمثل في التواطؤ ، تواطؤ نلمسه ، في سعي مدراء كثير من المؤسسات إلى رفع نسب النجاح داخل مؤسساتهم ، بصرف النظر عن وسائل تحقيق هذا المبتغى حفاظا على منصبه ، أو سعيا نحو إقراره فيه ، أو مزايدة في نوع من التنافس غير الشريف مع مؤسسات أخرى ، لذلك لا يتوانى البعض منهم في إصدار تعليمات شفهية للمراقبين بضرورة التحلي بالحكمة و الهدوء ، وهو ما تجري ترجمته في الصيغة المغربية ، بغض الطرف عن الغشاشين ، مستلهمين تارة كلمات من قاموس النزعة الإنسانية (راهم بحال وليدتنا ) ، وتارة يجري القول في نوع من الادعاء الزائف ، والحق الذي يراد به الوصول إلى باطل ، بأن هؤلاء الغشاشين مجرد حمير وبغال ، وأن مدة مقامهم في المؤسسة قد طالت ، وسواء أغشوا أم لا فان مصيرهم هو الرسوب ، وحتى إن كتب لبعضهم النجاح فان الناجح الأكبر هو المؤسسة و الأستاذ الذين سيتخلصان من شرورهم .
ولا تعدم هذه التعليمات المعلنة و المبطنة في شكل نصائح أخوية و أبوية ، أن تجد لها أذانا صاغية في وسط شريحة من المراقبين ، إما نزولا عند رغبة المدير ، وحياءا منه (أي و الله) ، أو خوفا من انتقامه الناعم ، أو سعيا لاستجلاب منفعة منه ، في نوع من تبادل المصالح أقرب ما يكون إلى تجارة السوق السوداء ، أو تجنبا للدخول في صدام لا تحمد عقباه مع أحد هؤلاء الغشاشين ، الذي قد يكون مسنودا برفاقه الغشاشين ، بل وبأسرته وشبيحة حيه ، وبعض عناصر الإدارة التربوية أحيانا ، فيما يفضل بعضهم الأخر الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين في نوع من الدبلوماسية الكاذبة ، و المساواة الماكرة بين من يسهر على تطبيق القانون ، وبين من يخرقه .
وفئة أخرى من المراقبين فاسدة مفسدة ، لا تنتظر تعليمات من أحد لأنها مقتنعة بذلك سلفا ، إلى حد اعتبار التواطؤ مع الغشاشين عملا خيريا ، وفعل مساعدة و تضامن مع تلميذ يتهدده خطر الرسوب ، فيكون المدخل هنا ذو طابع إنساني اجتماعي ، وحينا أخر يتخذ طابع تبرير سياسي مقزز ، فإذا كان النظام فاسدا ، و علية القوم غارقون في الفساد ، فلماذا نقطع الطريق على أولاد الشعب للحصول على شهادة غالبا ما لاتسمن و لا تغني من جوع ؟ وكأن شعار هؤلاء هو أن النظام لا يمكن مواجهته إلا بسلاحه ، لا في نقد هذا السلاح و فضحه ، و عليه يقرر هؤلاء إتاحة الفرصة لأبناء الكادحين للاستفادة من نفس الوسيلة لكن لتحقيق هدف نبيل ، وعوض مراقبة قاعة الامتحان، تجري مراقبة ميمنة و ميسرة الباب خوفا من زيارة غير سارة .
أما مبرر فئة أخرى من هذه الشريحة المفسدة فهو الانسجام مع الذات ، وراحة الضمير ، ذلك أن هؤلاء يملكون فضيلة الاعتراف بأنهم كانوا في عداد قدماء الغشاشين و أعضاء جيش النقلة ، منذ أن كانوا تلاميذ و مرورا بالمرحلة الطلابية وفترة التكوين لولوج المهنة ،وصولا إلى الغش في الامتحانات المهنية المتعلقة بالترقية .
فكيف بحق السماء يمكنهم ردع هؤلاء عن الغش وهم أسلافهم فيه ، فأنى -حسب هؤلاء- لغشاش أن يمنع نظيره ؟
إن خطر هؤلاء كامن في نوع من التواضع الكاذب و الاعتراف الزائف ، ظاهره أخلاقي لكن قصده هو التستر و حماية فعل غير أخلاقي و لا قانوني .
ولو كان لأصحابنا ذرة من أخلاق ، و سعي صادق لتصحيح الوضع لاختاروا الطريق الأصوب
و الأصعب ، وهو إرجاع الأموال التي تقاضوها ، و التخلي عن مهنتهم و شهاداتهم التي حصلوها بوسائل غير مشروعة ، ولكن لأنهم قوم لا خلاق لهم فقد فضلوا الحل السهل المدمر وهو رعاية الغش .
ولكم أن تتخيلوا شرطيا يرفض تطبيق القانون على أصحاب المخالفات أو يلقي القبض على مجرمي الأموال و الدماء بدعوى أنه كان فيما سبق من ذوي المخالفات ، أو مجرما أتقن الفرار بجرمه من العقاب .
الفرضية الثالثة : لقد ترسخ في مخيالنا منذ الطفولة ، اعتبار امتحان البكالوريا أحد طقوس العبور الهامة و الصعبة في حياة الشاب المغربي آنئذ ولا زال هذا الهاجس حاضرا إلى يوم الناس هذا ، لكن تخوف الأمس مشروع إلى حد كبير حيث المواضيع المطروحة تسم بالجدية و العمق فكان الباعث على الخوف هو أن تكون الامتحانات فوق المستوى المتوقع تستوي في ذلك كل الشعب ، لكن ما اعتقده اليوم هو أننا بتنا نتخوف من أن تكون الموضوعات الممتحن فيها دون المستوى المفترض توفره في تلميذ البكالوريا ، ولو من الناحية النظرية على الأقل .
إنني لا أتردد في القول بأن بعضا من المواضيع التي طرحت خلال السنوات الخمس الأخيرة ، و خلال هذه السنة بشكل أوضح هي عبارة عن هدايا مجانية، لا هي تستدعي ذكاء الحفظ و الاستظهار الوظيفي للمعلومة ، ولا ذكاء التفكير و التحليل و التركيب ، و إضفاء اللمسة الخاصة على موضوع الإجابة .
وظني أن هذا هو أحد العوامل الحاسمة التي تفسر ارتفاع نسبة النجاح ، بيد أن هذا المعطى إذا بدا هدية من جهة فانه يظهر بعد النجاح كهدية مسمومة و ملغومة تأخر اكتشاف أمرها . إلى اللحظة التي يكتشف فيها الطالب (خاصة ذوي التخصصات العلمية منهم ) أنهم في مأزق ، و أن البون شاسع بين ما تلقوه
و اختبروا فيه ، وما يفترض نظريا أنهم حصلوه، ومن هنا ظاهرة الإقامة الطويلة قصد تحصيل دبلوم الدراسات العامة أو الإجازة .
إن ضعف جودة الامتحانات يشبه ضعف جودة السلعة في عالم الاقتصاد ، انه يفضي بشكل شبه كامل إلى إضعاف تنافسية هذا الرأسمال الثقافي في السوق الثقافية و الاقتصادية وهو ما يظهر في مباريات ولوج المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود و نتائج امتحانات المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح .
إن شهادة البكالوريا نتيجة هذا الوضع الذي وصفناه ، تتعرض إلى نوع من التضخم مهما علت ميزتها ، فقيمة ميزة من قبيل حسن مثلا، لا شك أنها أقل كثيرا من نفس القيمة خلال الموسم الدراسي لسنة 1976 مثلا .
يمكن أن نضيف إلى العوامل السابقة ما تعرفه بعض سلاليم التنقيط خاصة الأدبية منها ، من تمطيط مستمر ، وإلحاح على ضرورة تقدير المجهود الذي يبذله التلميذ في التعامل مع الموضوع ، و مراعاة روح الموضوع و الطاقة الثاوية خلفه ، أو قراءة ما بين السطور ، عوض الاكتفاء بما خطه التلميذ على الورقة … قد يتفهم المرء هذه التوجيهات عندما تأتي كرد فعل على سادية بعض المصححين ، الذين يصل بهم جنون العظمة و التمركز على الذات إلى وضع سلاليم تنقيط خاصة بهم ووضع خطوط حمراء ، ينبغي على قلمهم الأحمر ألا يتجاوزها عند التنقيط .
لكن أن يتحول الأمر في المقابل إلى حفل ريعي لتوزيع نقط مجانية فهو سقوط في خطأ شبيه بالخطأ السابق ، وان كان ظاهر الأول هو التفريط و ظاهر الثاني هو الإفراط ، الأول يخلق معايير من بنات أفكاره أو يغرق في نوع من الحنين الأسطوري إلى تعليم زمان ،وموضوعات زمان ، وكتابات تلاميذ زمان ، و الثاني يحول التوجيهات ، إلى جمل فضفاضة تحتمل كل شيء و كأن الهدف هو منح النقطة مهما كلف الأمر .
إن المناخ العام الذي يجري في إطاره مسار تحصيل الشواهد العلمية ، داخل بلدنا هو مناخ موبوء ، مشكوك في نزاهته و جودته إلى أقصى الحدود ، مناخ يضرب في الصميم مبدأ تكافؤ الفرص.
وعلى ذكر هذا المبدأ الأخير ، في علاقته بموضوعنا يحق لنا أن نساءل :
أين تكافؤ الفرص بين بكالوريا ثقيلة من نصيب الأوائل و بكالوريا خفيفة من نصيب الأواخر ؟
أين تكافؤ الفرص بين حاملي البكالوريا الثقيلة لكن بميزات خفيفة ، وحاملي بكالوريا خفيفة لكن بميزات ثقيلة ؟
ولا نحتاج إلى التذكير بمدى أهمية هذا المعطى في عملية الانتقاء قصد الولوج إلى المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود .
أين تكافؤ الفرص بين مواضيع في المستوى تكون من نصيب شعبة معينة ، و مواضيع دون المستوى هي من نصيب شعبة أخرى ؟
وهل يبقى في ضوء الملاحظة السابقة ، من معنى للحديث عن أعلى معدل ، بين شعب ليست متكافئة ، من حيث جودة الموضوعات المطروحة ، مضافا إليها الظروف المصاحبة للامتحانات ، غير غافلين عما يجري من فضائح فيما يخص نقط المراقبة المستمرة ، و عملية النفخ الرهيب الذي تتعرض لها ، خصوصا داخل القطاع الخاص ، و التي يجري تسويقها باعتبارها خدمة تجارية مقدمة لزبناءها التلاميذ و أولياء أمورهم ، فما على الآباء سوى الدفع ، وما على المؤسسة سوى الرفع .
ولا يستحيي البعض أن يعلق لافتة في وسط المدينة ، تخبر من يهمه الأمر بأنها حققت نسبة نجاح بلغت 100 ، ومن يتعذر عليه النجاح في القطاع العمومي على أعطابه ، فان القطاع الخاص رهن الإشارة ، وكل عسير داخل التعليم العمومي ، يسير داخل العليم الخصوصي ، في نوع من التسليع الرديء للتربية و التعليم .
إنني على يقين تام بأن نسبة %55 من الحاصلين على البكالوريا (ولا أظن عاقلا يمتهن التعليم يخالفني في قولي هذا) كانت ستكون أقل من ذلك بكثير لولا فضائح المراقبة المستمرة ، و تغول ثقافة الغش ، وتدني مضامين بعض موضوعات الامتحان .
غير أن الظاهر أن نسب النجاح لا زالت محكومة بهواجس سياسية و تقنية حسابة أكثر منها معرفية و تربوية و بيداغوجية .
وللذكرى أسجل كيف أنه بعد وصول بعض رياح الربيع العربي إلينا ، حاولت الدولة بوسائل ناعمة
و شبه ناعمة ، امتصاص أثاره فاشترت صمت و حياد الطبقة الوسطى عبر ممثليها النابيين بزيادة في الأجور ، و حافظت على ولاء أغلب الأحزاب بمنح دستور يخفف قليلا من النزعة السلطوية للنظام السياسي ، وفي خضم هذه الأجواء كان هاجس الدولة كذلك إبقاء المؤسسات التعليمية ، الثانوية منها خصوصا ، بمنأى عن هذا التأثير، ولهذا الغرض و ضمن إجراءات أخرى استفاد تلاميذ كثر خلال تلك سنة 2011 من ريع البكالوريا ، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد سمعت بأذني مدير ثانوية يهمس لنا بأن هناك تعليمات من فوق (باش نميكو) ومديرة ثانوية أخرى ، تقوم بزيارة تفقدية للتلاميذ داخل حجرات الامتحان قبل دقائق من توزيع الأوراق ، تطمئنهم بأنها معهم و لن تبخل أو تتردد في تقديم يد المساعدة لهم ، فلا داعي لأن يخافوا أو يحزنوا ، وأول الغيث ضمن سلسلة من المساعدات ، إبعاد أساتذة العليم الثانوي التأهيلي من المراقبة و تعويضهم بمعلمين استقدموا من العالم القروي .
وخلال سنتنا هذه والتي قبلها ، و بعد كل البروباغندا الإعلامية حول تشديد المراقبة عبر استخدام أجهزة تكنولوجية في الرصد و الضبط ، لاحظنا و سمعنا كيف أن هذه الأجهزة التي يفترض فيها أن تكون أداة تكنولوجية تعزز من نجاعة وفعالية أنواع المراقبة التقليدية على علاتها ، قد أفرغت في كثير من الأحيان من مضمونها ووظيفتها وتحولت إلى أداة فولكلورية تقاعدت قبل أن تباشر العمل ، وجرى استعمالها في بعض اللحظات كموضوع للسخرية ، لتزجية الوقت وهروبا من أجواء تبعث على الملل و الغثيان ، وهكذا أقترح بعض الأساتذة الظرفاء أن يخضع الذكور منهم لمراقبة هذه الآلة حتى يتبين نوع المادة التي صنعت منها خصيتا كل واحد منهم ، هل من نحاس أم قصدير ، أم ذهب …؟
في موضوعات غير موضوعنا هذا ، أجد نفسي نافرا من بعض النزعات النكوصية التي ترى في ماض ما ، طوبى و نموذجا مثاليا ، هو في عمقه مجرد آلية تعويض يهرب بها الفاعل الجماعي أو الفردي من فشله في الاستجابة لتحدي الحاضر و تعبيرا عن فقدانه للوعي التاريخي . لكن ليس كل حنين هو من هذا الجنس . ففي الموضوع الذي نحن بصدده ، لا يمكن أن ننكر بسهولة ، أن بكالوريا زمان أكثر وزنا وجودة من بكالوريا حاضرنا المأزوم ، ومن ثم يصبح الحنين مشروعا و المقارنة المعيارية سليمة .
خلاصتي من كل ما سبق ، أن ضحية الوهم والكذب على الذات (و هو أسوء أنواع الكذب ) ، هو وحده من يمكن أن يجد في الرقم الذي كان موضوع حديثنا ، مؤشرا و سندا في القول بأن تعليمنا قد بدأ يتعافى من جروحه الخطيرة .
إن الأرقام بقدر ما تكشف الحقيقة حينا بقدر ما تساهم في طمسها حينا آخر .
وظني أن من قال بأن الإحصاء هو فن الكذب بعلم لم يبالغ كثيرا ، خاصة عندما يعلق الأمر بدول ترزح تحت نير الفساد . فالأرقام هنا غالبا ما تستحيل الى عكس منطوقها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.