عبدالواحد أكمير مؤرخ ومدير مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات كيف كانت علاقة المغرب بأمريكا اللاتينية منذ الثورة الكوبية؟ ولماذا لم يستطع تحقيق اختراقات مهمة في هذه القارة خلال فترة حكم الراحل الحسن الثاني، مقارنة مع العهد الجديد؟ كما تعرف، لم تكن الثورة الكوبية عند نجاحها ووصولها إلى الحكم، ثورة شيوعية، فهي في الأصل كانت ثورة ضد ديكتاتورية الرئيس «باتيستا» Batista، ثم إنها قامت لتحقيق العدالة الاجتماعية، ذلك لأن البلاد كانت تسيطر عليها أوليغارشية فلاحية، تدور في فلك الولاياتالمتحدة، والتي اعتبرت نفسها الوارث الشرعي للاستعمار الإسباني. كانت الشركات الأمريكية آنذاك، تتحكم بشكل كامل في الاقتصاد الكوبي بتنسيق مع هذه الأوليغارشية الكوبية. عقب الثورة، ذهب كاسترو إلى الولاياتالمتحدة للتفاوض واستعادة الحقوق الوطنية، لكن الإدارة الأمريكية آنذاك، أغلقت جميع الأبواب في وجهه، وهو ما استغله الاتحاد السوفياتي، الذي تحول إلى حليف استراتيجي لكوبا. وبطبيعة الحال، كان من بين الشروط التي وضعها الحكام الروس، تبني النهج الشيوعي. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت كوبا رمزاً للثورة الشيوعية في بلدان العالم الثالث. وأصبح كل نظام ليبرالي وكل حليف للولايات المتحدة، عدواً لكوبا. لا ننسى أنه في السنة نفسها من نجاح الثورة الكوبية أقام المغرب علاقات دبلوماسية مع كوبا، ولكن بعد التحول الإيديولوجي الذي عرفته، لم تتحسن الأمور كثيراً. صحيح أنه كانت هناك زيارة لتشي غيفارا إلى المغرب، كما التقى فيديل كاسترو بالحسن الثاني، لكن ذلك لم يغير الاختلاف العميق في التوجهات. إذاً، هذا الاختلاف العميق لم يخدم قضية الصحراء.. لما طفت على السطح قضية الصحراء المغربية، تبنت كوبا الانفصاليين وقدمت لهم الدعم الإيديولوجي واللوجيستي. بل وتحولت إلى البلد الذي يلعب الدور الأكبر في أمريكا اللاتينية خدمة لادعاءات الانفصاليين، الذين استفادوا، كذلك، من غياب المغرب، من أجل التسويق لأطروحتهم المزعومة والمسنودة من قبل كوبا والجزائر. كل هذا سوف يتغير في وقت لاحق، بعدما غير المغرب استراتيجيته في أمريكا اللاتينية. وقد حدث هذا التحول حتى في كوبا نفسها، التي أعادت ربط العلاقات الدبلوماسية مع المغرب سنة 2017، بعد سنوات طويلة من قطعها، وهذا في حد ذاته انتصار للدبلوماسية المغربية، لأنه يعني ضمنيا مرونة أكبر في الموقف الكوبي. وستعقبه دون شك خطوات موالية في السنوات المقبلة. ذلك لأن كوبا اختارت اليوم التغيير الهادئ، وستعرف تحولات سياسية مهمة بعد رحيل من تبقى من حراس الثورة. هؤلاء عمرهم الآن تجاوز التسعين سنة، ومع رحيلهم سترحل إيديولوجية الثورة، وستدخل البلاد في مرحلة جديدة من تاريخها، ستكون بكل تأكيد أكثر تفهماً لقضية وحدة المغرب الترابية. بعد سحب دولة السلفادور اعترافها بالجمهورية الوهمية وتخلي المغرب عن سياسة المقعد الفارغ، تجاه أمريكا اللاتينية، كيف تنظر إلى مستقبل العلاقات بين الطرفين في شموليتها؟ الأكيد أن المغرب اليوم، رَاكَمَ تجربة محترمة سواء في الدبلوماسية متعددة الوسائط، أو في تنويع المخاطبين والشركاء. وأنا أرى في هذا السياق أن استراتيجيته في أمريكا اللاتينية هي امتداد لاستراتيجيته في إفريقيا، والتي حققت نتائج حسنة ومهمة في مدة وجيزة. من جهة أخرى، أظن أن فكرة تكوين لوبي مغربي بأمريكا اللاتينية يدافع عن قضايا البلاد، يمكن أن يكون آلية مهمة. كما يمكن للمغرب أن يعتمد، انطلاقا من هذا اللوبي، على أصدقائه من النافذين في هذه البلدان، وعلى رأسهم الجاليات العربية، وخصوصاً المغربية، وكذا بعض الشركاء الاقتصاديين الذين لهم معاملات مهمة مع المغرب. يمكنه، كذلك، أن يقوم بحملات إعلامية وأنشطة ثقافية تعرف بعدالة قضيته. أرى، أيضا، أن الشباب المغربي خصوصاً، الذي له اهتمام بأمريكا اللاتينية ومتمكن من اللغة الإسبانية، أن يقوم بدور ناجح، من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، ومن خلال تكوين مجموعات على الفايسبوك تُعرّف بالمغرب وبقضاياه، بين الشباب الأمريكي اللاتيني الذي سيتفاعل دون شك مع هذه الصفحات، كما بينت لنا تجربة أشرفتُ عليها مع طلبة ماستر أمريكا اللاتينية، منذ عدة سنوات بالجامعة التي أشتغل بها. يجب، كذلك، رصد التحولات السياسية التي تقع وستقع في المستقبل القريب بأمريكا اللاتينية ومواكبتها، وهنا أعطيك مثالين أظن من المفيد الاشتغال عليهما: أولهما يهم ما يسمى ببلدان «التحالف البوليفاري» ALBA، التي ترفض، إلى حدود الآن، تبني الطرح المغربي وتدعم أعداء وحدته الترابية، غير أن أنظمة الحكم البوليفارية هي في طريق فقدان السلطة، رغم تشبثها بها بطرق غير ديمقراطية، وفي تقديري لا يمكنها أن تستمر في الحكم أكثر من سنتين أو ثلاث، وهي مدة غير طويلة، يمكن بعدها للمغرب أن يستخدم الاستراتيجية ذاتها التي أعطت أكلها في بقية البلدان الأحرى. المثال الثاني، يهم المكسيك، وعندما نقول المكسيك، فنحن نتحدث عن ثاني بلد في أمريكا اللاتينية من حيث الأهمية، وفي الوقت عينِه أهم بلد في كل أمريكا الإسبانية، سواء من حيث وزنه الاقتصادي المهم أو المساحة أو عدد السكان. وهو، كذلك، ثالث شريك تجاري للمغرب بأمريكا اللاتينية. أظن أن الرهان عليه حتى يسحب اعترافه بالبوليساريو، يجب أن يتم وفق مقاربة شمولية: فمن الناحية السياسية، يجب الاشتغال على التحول الحاصل به خلال هذه السنة، لأنه لأول مرة في تاريخه يصل اليسار المعتدل إلى الحكم. ثم يجب تذكير هذا البلد بأن مبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب، هي أقرب نماذج الحكم إلى النظام الفدرالي المعمول به في المكسيك. من الناحية الاقتصادية، يجب التذكير بأهمية تقوية التعامل الاقتصادي بين البلدين، خصوصاً وأن المكسيك سوق كبيرة جداً، وهو يبحث عن أسواق لمنتجاته واستثماراته، وفي هذا يمكن أن تكون له شراكة استراتيجية مع المغرب تؤهله للوصول إلى الأسواق الإفريقية وغيرها. كما يجب العمل مع هذه البلد، كذلك، من خلال الثقافة، فقليلة هي البلدان التي لها ارتباط ثقافي وتاريخي بالمغرب مثل المكسيك، الذي تربطنا به علاقات دبلوماسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ناهيك عن أن المؤسسات الجامعية والأكاديمية في البلدين تولي اهتماماً للثقافة المشتركة في مختلف مظاهرها. وكل هذا يجب استثماره، في إطار ما نسميه بالدبلوماسية متعددة الوسائط. وأظن أن اليوم، الذي سيتمكن فيه المغرب من إقناع بلد مثل المكسيك بسحب اعترافه بالجمهورية الوهمية، سيكون قد حقق قفزة نوعية كبيرة في استراتيجيته بأمريكا اللاتينية.