معرض المغرب لصناعة الألعاب الإلكترونية .. من الترفيه إلى دعم الاقتصاد    المناظرة الوطنية الأولى للذكاء الاصطناعي تستقطب أزيد من ألفي مشارك وتُرسي دعائم رؤية وطنية طموحة    لاعبات للتنس يرفضن التمييز بأكادير    حمد الله يشارك في كأس العالم للأندية    طنجة.. توقيف متورطين في موكب زفاف أحدث ضوضاء وفوضى بساحة المدينة    الملك محمد السادس يأمر بوضع مراكز تضامنية رهن إشارة الفئات المعوزة    الراحل محمد بن عيسى يكرم في مصر    جرسيف تقوي التلقيح ضد "بوحمرون"    وزير الداخلية يترأس حفل تخرج الفوج الستين للسلك العادي لرجال السلطة    "الصحة العالمية": انقطاع الوقود 120 يوما يهدد بتوقف كامل للنظام الصحي في غزة    كأس العالم للأندية.. بونو وحكيمي ضمن التشكيلة المثالية للدور ثمن النهائي        تطوان.. تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "الدولة الإسلامية" تنشط بين تطوان وشفشاون    وفاة سجين معتقل على خلفية قانون مكافحة الإرهاب بالسجن المحلي بالعرائش    الوقاية المدنية بطنجة تسيطر على حريق أعشاب سوق درادب    المنتخب المغربي النسوي يرفع وتيرة التحضيرات قبل افتتاح "كان السيدات 2025"    النقاش الحي.. في واقع السياسة وأفق الدستور! -3-    مطار الحسيمة ينتعش مجددا.. ارتفاع ب12 في المئة وعدد الرحلات في تصاعد    تمديد أجل إيداع ملفات طلبات الدعم العمومي للصحافة والنشر والطباعة والتوزيع إلى غاية 30 شتنبر المقبل    اعتقال اللاعب الجزائري يوسف بلايلي في مطار باريس    تفكيك شبكة نصب واحتيال خطيرة استهدفت ضحايا بهويات وهمية بجرسيف    نشرة إنذارية.. موجة حر مع الشركي وزخات قوية مرتقبة بالمملكة    ألا يحق لنا أن نشك في وطنية مغاربة إيران؟    تعزيز التحالف الدفاعي بين المغرب والولايات المتحدة يُمهّد لشراكة استراتيجية أعمق    بالصدى .. «مرسوم بنكي» لتدبير الصحة    مع اعتدالها قرب السواحل وفي السهول الداخلية .. يوعابد ل «الاتحاد الاشتراكي»: درجات الحرارة في الوسط والجنوب ستعرف انخفاضا انطلاقا من غد الجمعة    بحث يرصد الأثر الإيجابي لبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر على الأسر المغربية    تجاذب المسرحي والسرد الواقعي في رواية «حين يزهر اللوز» للكاتب المغربي محمد أبو العلا    كلمة .. الإثراء غير المشروع جريمة في حق الوطن    في لقاء عرف تكريم جريدة الاتحاد الاشتراكي والتنويه بمعالجتها لقضايا الصحة .. أطباء وفاعلون وصحافيون يرفعون تحدي دعم صحة الرضع والأطفال مغربيا وإفريقيا    "تلك القبضة المباركة".. أسطورة بونو تتجذر من مونديال لآخر    إيران تعلق التعاون مع الطاقة الذرية    تفكيك خلية "داعشية" بين تطوان وشفشاون شرعت في التحضير لمشروع إرهابي    سعر النفط يستقر وسط هدوء مؤقت    نتائج بورصة البيضاء اليوم الأربعاء    تيزنيت تستعد لاحتضان الدورة الجديدة من «الكرنفال الدولي للمسرح»    ندوة توصي بالعناية بالدقة المراكشية        "المنافسة": سلسلة التوزيع ترفع أسعار الأغذية وتتجاهل انخفاضات الموردين    موجة الحرارة تبدأ التراجع في أوروبا    أنغام تخرج عن صمتها: لا علاقة لي بأزمة شيرين وكفى مقارنات وظلم    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    اعتراف دولي متزايد بكونفدرالية دول الساحل.. مايغا يدعو إلى تمويل عادل وتنمية ذات سيادة    الرعاية الملكية السامية شرف ومسؤولية و إلتزام.    التنسيقية المهنية للجهة الشمالية الوسطى للصيد التقليدي ترفع مقترحاتها بخصوص '' السويلة '' للوزارة الوصية    دورتموند يعبر مونتيري ويضرب موعدا مع الريال في ربع نهائي كأس العالم للأندية    أتلتيكو مدريد يتعاقد مع المدافع الإيطالي رودجيري قادما من أتالانتا    ترامب يحث حماس على قبول "المقترح النهائي" لهدنة 60 يوما في غزة        نيوكاسل الإنجليزي يعتذر عن مشهد مسيء في فيديو الإعلان عن القميص الثالث    ملتقى فني وثقافي في مرتيل يستكشف أفق البحر كفضاء للإبداع والتفكير    عاجل.. بودريقة يشبّه محاكمته بقصة يوسف والمحكمة تحجز الملف للمداولة والنطق بالحكم    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    أكادير تحتضن أول مركز حضاري لإيواء الكلاب والقطط الضالة: المغرب يجسّد التزامه بالرفق بالحيوان    وقت الظهيرة في الصيف ليس للعب .. نصائح لحماية الأطفال    حرارة الصيف قد تُفسد الأدوية وتحوّلها إلى خطر صامت على الصحة    ضجة الاستدلال على الاستبدال    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد العزيز آل سعود: «المتوحش النبيل»
نشر في اليوم 24 يوم 11 - 09 - 2013

لم تتعاطَ الولايات المتحدة الأميركية مع قيام المملكة العربية السعودية التي تأسست في 23 (سبتمبر) 1932، بجديّة.
البترول والحرب وأميركا
أهملت الدولة العظمى ذات السياسات الخارجية الانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين، حتى مجرّد الاعتراف بتلك الدولة الفقيرة النائية المتخلفة، طوال خمس سنوات من نشأتها، أي إلى حدود 23 (يناير) 1937. لكنّ الحال بدأ في التغير حين اكتُشفت كميات مبشّرة من النفط في مارس 1938، بعد أبحاث التنقيب الناجحة في الدمام التي قامت بها الشركة الأميركية (CASOC) صاحبة الامتياز الحصري لحقوق التنقيب واستغلال البترول السعودي، نظير خمسين ألف جنيه ذهبي شهرياً.

وكان ذلك العقد «خرافياً» بالنسبة إلى الملك عبد العزيز. ولعله من يومذاك وقع عبد العزيز في غرام الأميركيين الأسخياء!
وحين دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، كانت تمثّل خزان بترول المجهود الحربي لحلفائها. فقد كانت تنتج 63% من الاستهلاك العالمي يومياً. وبيّنت حسابات الخبراء الأميركيين أن الاحتياطي الوطني للبترول كان ينخفض بمعدل 3% في السنة. وكان هذا النزف الحادّ يثير الذعر في نفوس مسؤولي واشنطن. ولمواجهة هذه المعضلة، جاء هارولد ايكس، منسّق شؤون البترول في مجلس الدفاع، بحل تمثّل في استهلاك البترول الأجنبي بدلاً من الأميركي. وهكذا قالت مذكرة أميركية في 1942: «إنّ تنمية موارد السعودية البترولية تندرج ضمن المصالح الوطنية العامة لأميركا». ولمزيد من توثيق الصلة الأميركية بالسعودية، فقد أعد الرئيس فرانكلين روزفلت خطة سرية للاجتماع بالملك السعودي شخصياً. وعهد روزفلت إلى الكولونيل وليام إدي، الوزير الأميركي المفوض في جدة، إجراء الترتيبات السرية لهذا اللقاء مع عبد العزيز.

المدمّرة والخرفان وحاشية جلالة الملك
في 12 (فبراير) 1945، دخلت أول سفينة حربية أميركية (المدمّرة ميرفي) إلى ميناء جدة الصغير، وبالكاد استطاع ربّانها الدخول إليه. وكان الملك السعودي، بانتظارها لتحمله للقاء بالرئيس الأميركي في البحيرات المرة في قناة السويس. وبما أنّ منطقة السويس لم تزل حتى ذلك الوقت في مدى قاذفات القنابل الألمانية، فقد أسرّ السفير إدي (الذي يحسن العربية) إلى الملك عبد العزيز، أن يحيط زيارته المقبلة للدواعي الأمنية، بالسرية التامة. وكان الملك السعودي مستعداً لتنفيذ الأوامر الأميركية على نحو متزمت. فلم يعلم حاشيته بشيء عن هذه الرحلة المهمّة حتى اللحظة المقررة للانطلاق.
وعندما أصبح الجميع في سياراتهم أمر عبد العزيز السائقين بالتوجه إلى الميناء. ثمّ استقل الملك ووفده قوارب كانت في انتظارهم إلى المدمرة «ميرفي» التي غادرت الميناء في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر. وراجت شائعات مسعورة في بلدة جدّة مفادها أن سفينة الكفار الأميركيين قد اختطفت الملك! وكانت نساء آل سعود آخر من يعلمن بالحقيقة عندما ذهبن باكيات، وقد توشحن بالسواد، وسكبن الرماد على رؤوسهن إلى الأمير فيصل نائب الملك على الحجاز، الذي طمأنهنّ.
أحضر عبد الله بن سليمان وزير مالية الملك عبد العزيز معه مئة خروف إلى المدمرة كما طلب منه جلالته. وكان الأخير قد افترض أنّ البحارة سيكونون ضيوفاً عليه أثناء الرحلة التي ستستغرق يومين. وفاجأ مرأى قطيع الأغنام المحمّلة في القوارب المقبلة إلى المدمرة، قائدها الذي رفض السماح للملك بتحميلها على السفينة، وحاول أن يشرح له أنّ قوانين البحرية الأميركية تمنع منعاً باتاً نقل الحيوانات الحية على السفن الحربية. لكنّ عبد العزيز أبى أن يقتنع، وهنا تدخل السفير إدي، لكي يترجم لجلالته بأنّ جميع طاقم المدمرة سيعاقبون لو أنهم أكلوا خرافه، ولم يراعوا قوانين التغذية الرسمية. وسأله عبد العزيز حينئذ: «وش نتعشى الحين؟!». وطمأنه إدي بأنّ «الأكل متوافر - طال عمرك -، وأنّ لحوم الضأن محفوظة هنا في ثلاجات». وهنا ارتاع عبد العزيز وصاح: «وش تقول؟! تبي مني آكل الفطيسة! ما تدري إنّ الفطيسة حرام؟!». وأخيراً جرى التوصل إلى حل وسط؛ إذ سُمِح للملك - على مضض - بأن يأخذ معه سبعة من خرافه. وما إن أبحرت السفينة حتى قام الخدم بذبح أحدها، وراحوا يسلخونه على ظهر المدمرة!
كان عدد أفراد الحاشية السعودية مشكلة أخرى للسفير إدي؛ فقد حدّدت له تعليمات وزارة الخارجية عدد اثني عشر رجلاً يرافقون عبد العزيز، في حدّ أقصى. وقال إدي لرؤسائه إنه يجب عليهم أن يتوقعوا ضِعف هذا العدد، لكن عدد أفراد مرافقي عبد العزيز بلغ واحداً وأربعين شخصاً في نهاية المطاف! وكان من بين أسباب تقييد الخارجية الأميركية لعدد مرافقي الملك، أنه لم تكن هناك حجرات كافية لمعظمهم، لكن هذه لم تكن مشكلة للسعوديين؛ إذ سرعان ما افترش عشرات الطباخين والحراس والخدم بسُطاً على ظهر المدمرة ثمّ أشعلوا الحطب لعمل القهوة بالقرب من المدافع والذخيرة الحية، وناموا جميعاً على ظهر المدمرة، حيث انضم إليهم عبد العزيز نفسه الذي رفض النوم في حجرة قائد السفينة. وقال الملك للسفير وقد انقبض: «تبيني أرقد فيذا؟! ف ها الصفّة (الحجرة) الحديد؟! عاد الرقدة تحت خيمة أفضل لي!».
يروي توماس هليارد، الذي كان بحاراً في السفينة «ميرفي»، كيف أنّ البحّارة اضطروا إلى أن يخيطوا لضيفهم خيمة. فمصمّمو المدمّرة الحربية لم يدر في خلدهم أنها ستحتاج إلى خيام. وطلب البحّارة من السعوديين قطع قماش كبيرة، ثم نصبوا لعبد العزيز خيمته على سطح مقدمة السفينة!
وكان للملك السعودي رغبات أخرى، فقد طلب من قبطان المدمرة أن يحدد له مواعيد الصلاة واتجاه القبلة. فأمر القائد مهندسي الملاحة بإعداد بيانات يومية عن ذلك. لكن جلالته كان مرتاباً في دقة معلومات الجماعة الأميركيين، فطلب من منجّمه الخاص ماجد بن خثيلة أن يتأكد من صحة المواقيت واتجاه القبلة، ثم بعد أن يتأكد الملك من تطابق معطيات المهندسين مع رأي المنجّم، كان يأمر مؤذنه بالصعود لأعلى سارية في المدمرة ليؤذن للصلاة، تحت رفرفة العلم الأميركي الخفّاق.
في المساء، أعدّ الأميركيون مفاجأة للسعوديين؛ فقد أحضروا جهاز عرض للأفلام إلى ظهر المدمّرة لغاية الترفيه عن الملك وحاشيته. وكانت تلك أول مرّة يشاهد فيها السعوديون صوراً تتحرّك. فتحلقوا مشدوهين أمام الشاشة العملاقة. وكان بعضهم يدور حول الشاشة كأنه يبحث عن أحد! في البداية، كان عبد العزيز متوجساً من «ها السالفة» ثمّ في نهاية المطاف - وتحت إلحاح ولديه محمد ومنصور - غلبه فضوله. ولكنه اعترض على مشاهدة أي فيلم يظهر فيه الحريم. فاضطرّ الأميركيون إلى أن يعرضوا لضيوفهم فيلماً وثائقياً عن حاملة طائرات أميركية في المحيط الهادئ. وأبدى الملك تحفظه بعد مشاهدته للفيلم الوثائقي. فقال: «زين... بس هالسالفة (يقصد السينما) مهيب لربعنا (لا تصلح لجماعتنا)... يجوز هالسالفة تلهي العيال عن الصلاة!».
وكان الأمير محمد (الابن الثالث للملك بين أبنائه الذكور الأحياء آنذاك) قد حزّ في نفسه أن تضيع منه فرصة مشاهدة فيلم «بحق وحقيق». فسأل السفير إدي كيف له أن يرى ما لم يُر؟ وأجابه إدي باسماً بأنه ستعرض أفلام أخرى في وقت لاحق أمام البحارة في قسمهم الخاص، ويمكن أن يحقق له رغبته بحضور ذلك العرض. وهكذا انسلّ الأمير محمد مع أخيه الأصغر منصور إلى صالة البحارة، وجلسا في الصف الأمامي ليشاهدا فيلماً غرامياً. وبعد أن انتهى عرض الفيلم نُظِّم عرض ثانٍ شاهده نصف الحاشية السعودية، باستثناء الملك الذي كان يغطّ في نوم عميق تحت خيمته.

الباب المفتوح وفلسطين وكرسي المعوقين
صباح يوم 14 (فبراير) 1945، وصلت السفينة «ميرفي» التي تقل السعوديين، إلى قناة السويس، لتلتصق بالسفينة «كوينسي» التي يوجد عليها الرئيس الأميركي.
كان آخر ما فعله عبد العزيز قبل أن يغادر «ميرفي» تسليمه على بحارتها. وكان يدسّ في يد كل من يصافحه، ورقة نقدية بخمسين دولاراً. وكان نصيب «مهندسي القبلة» ورقتين. وأمّا طاقم القيادة فنصيبه ساعات سويسرية مميّزة، وللقبطان سيف جميل طويل مرصّع بالعاج. ثمّ كان أوّل ما فعله عبد العزيز بعد أن صعد على متن السفينة «كوينسي» هو تقديم الهدايا أيضاً. وكانت هدية الرئيس روزفلت عباءة عربية رائعة مطرزة بخيوط الذهب، وسيفاً مرصّعاً بالألماس وخنجراً مذهّباً مصقولاً وخواتم مرصعة بالجواهر الكريمة. وكان على الرئيس روزفلت أن يردّ من جانبه على كرم ضيفه العربي بهديّة أميركية قيّمة. فكان أن وهبه طائرة DC3 ذات محركين، كانت رابضة ضمن أُخر أمامهما على المدمرة.
بعد تبادل الهدايا وشرب القهوة العربية التي جاء بها مرافقو ابن سعود إلى مجلسه مع مضيفه، دخل الرئيس الأميركي إلى الأمور الجديّة. وكانت مسألة إيجاد حل سلمي لقضية فلسطين هي شغل روزفلت الشاغل، وخاصة بعد الضغط القوي من اللوبي الصهيوني الذي جعل من مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين قضية سياسية كبرى في واشنطن.
وبحسب محضر اللقاء الذي دوّنه السفير إدي، وكان هو أيضاً المترجم بين الزعيمين، فقد قال روزفلت لعبد العزيز: «إنني أريد أن أتشاور مع جلالتك، في قضية اللاجئين اليهود الذين طردوا من ديارهم في أوروبا لأنني أشعر بمسؤولية شخصية نحو هؤلاء البؤساء. وإنني التزمت فعلاً البحث عن حل لمشاكلهم».
وردّ عبد العزيز بصراحة: «إنّ حلّ هذه المشكلة يكون بعودة اليهود المطرودين إلى بلادهم الأصلية. أمّا الذين لا يستطيعون العودة فيمكنكم توطينهم في دول المحور التي اضطهدتهم».
ولم يكن هذا ما كان يريد أن يسمعه روزفلت من ضيفه، فعقّب شارحاً: «سأطلع جلالتك على أمر خطير: يبدو أنّ الألمان قد قتلوا ثلاثة ملايين يهودي في بولندا وحدها! يجب أن نجد حلاً لهؤلاء المضطهدين الذين باتوا يخشون البقاء في دول المحور خوفاً من تكرار ما حدث لهم. كذلك توجد لديهم رغبة عاطفية في استيطان فلسطين».
وردّ عبد العزيز ردّاً قاطعاً: «إنّ اليهود والعرب لن يتعاونوا أبداً في فلسطين. والعرب هم الذين يتعرّضون الآن للتهديد عبر تدفق الهجرة اليهودية إلى أرضهم والاستيلاء عليها... إنني آمل من فخامتكم التزام كلمة الشرف حين وعدت بتطبيق العدل بعد الحرب. وأن لا تكافئ شعباً على حساب شعب آخر».
وكان على روزفلت أن يطمئن ضيفه العربي قائلاً: «إنني كرئيس للولايات المتحدة، لن أتخذ أي تحرك معاد للعرب قبل الإصغاء إلى رأيكم».
كان الموقف الحازم للملك عبد العزيز من قضية فلسطين في أول محادثات سرية له مع الرئيس الأميركي، موقفاً مشرّفاً بحق يُحسبُ له. ولقد أثار هذا الموقف الصلب إعجاب الرئيس روزفلت نفسه الذي أسرّ إلى مساعديه بعدما انتهى اللقاء مع العاهل السعودي قائلاً: «لقد قرأتُ في التقارير التي وردت إليّ، قبل اجتماعي به، أنه ذو تاريخ متوحش... نعم، قد يكون متوحشاً ولكنه أيضاً نبيل!».

ولعلّ مردّ حزم عبد العزيز في موضوع فلسطين، سببان:
الأول: شعور الملك بالذنب تجاه الفلسطينيين حين شارك في إجهاض ثورتهم عام 1936، وطالبهم بإيقاف هجماتهم على القوات البريطانية، مقابل وعد بريطاني (جرى الحنث به) بالحدّ من هجرة اليهود إلى فلسطين.
والثاني: عداء ابن سعود الديني لليهود، لأنهم «شعب ملعون حسب القرآن». وهو قد صرّح برأيه هذا (في اليهود كشعب) لكثيرين، ومنهم بعض الأجانب كالسفير الهولندي في مملكته.
زد على ذلك اعتقاده الراسخ بأن اليهود لن يكتفوا فقط بابتلاع فلسطين، وأنهم يريدون إقامة مشروع «إسرائيل الكبرى» وحدودها من النيل إلى الفرات إلى المدينة، ما يعني أنّ «إسرائيل هذه» ستشمل أجزاءً واسعة من ملكه الحجازي!

دامت مباحثات روزفلت مع عبد العزيز خمس ساعات، تنوعت فيها المواضيع المطروحة. وكان هاجس الملك السعودي: هل يمضي في رغبته الخاصة باستبدال تحالفه التاريخي مع الإنكليز بتحالف جديد أوثق مع الأميريكيين... أم أنّ تلك مغامرة غير محسوبة العواقب؟
ولقد كشف الملك صراحة لمضيفه عمّا في ذهنه، فقال لروزفلت: «إنّ الإنكليز يقولون لي إنّ مستقبلي مرتبط بهم، لا مع أميركا... ويقولون إنّ مصالحكم في السعودية موقتة... وإن أميركا ستعود بعد الحرب إلى مشاغلها البعيدة. وأمّا الإنكليز فهم الذين سيستمرّون معي، كما كانوا منذ بدء حكمي. وهم يريدون أن تكون الأولوية دائماً لهم في السعودية... فماذا تقولون؟».
وفرّج روزفلت كربة عبد العزيز حين قال له: «إن خططنا لما بعد الحرب مغايرة للماضي. ولن تعود أميركا لسياستها الانعزالية أبداً، وسياستنا الخارجية القادمة هي الانفتاح على العالم. وأميركا تأمل أن يصبح باب السعودية مفتوحاً لها».
انقض عبد العزيز على «الباب المفتوح»، وطلب من الرئيس أن يترجم كلامه هذا إلى معاهدات واتفاقيات بين بلديهما. وكان له ما أراد. ولقد كان سرور عبد العزيز لقبول أميركا «الزواج به» بالغاً، فراح يكيل المديح لروزفلت، حتى إنه قال له: «إنني أشعر وكأنك شقيقي وتوأمي».
ابتسم روزفلت. فأوضح له عبد العزيز أكثر: «هل تعلم يا فخامة الرئيس، لقد أصبحتُ ملكاً للسعودية في نفس السنة التي صرتَ أنت فيها رئيساً لأميركا... وها إني اكتشفت أننا نتشابه في تفكيرنا، أيضاً»، ثمّ ابتسم ملك السعودية مضيفاً: «إننا نشترك حتى بالعجز الجسدي!».
قال روزفلت: «ولكنك أسعد حظاً، فأنت تستطيع المشي على قدميك، وأمّا أنا فلا».
فقال عبد العزيز: «إن لك هذا الكرسي المتحرك تمشي به حيث تريد، أمّا رجلاي أنا فلم تعودا تقويان على حملي».
وابتسم روزفلت قائلاً: «تقول إننا توأمان، وإننا نشترك بأمور كثيرة... حسناً، إنّ عندي مقعداً متحركاً هو توأم لكرسيي هذا. فهلّا قبلته هدية شخصية مني؟».
قال الملك: «نعم، وسوف أستخدمه يومياً وأتذكر مانحَ الهدية صديقي العظيم الطيب».
وكذلك ودّع ابن سعود صديقه العظيم الطيب، وهو مسرور بكرسي المعوقين الذي منحه له!
تشرشل والرولز رويس والويسكي
صُعق رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عند سماعه بعزم روزفلت أن يلتقي عبد العزيز. فأمر دبلوماسييه بأن يرتبوا له هو أيضا لقاءً مع الملك السعودي. وتقرّر فعلاً هذا الاجتماع بعد ثلاثة أيام من لقاء المدمرة «كوينسي»، في فندق بالفيوم جنوب القاهرة.
كان تشرشل وفياً في ذلك اللقاء للسياسة الاستعلائية البريطانية في تعاملها الطويل مع شيوخ العرب. فقد نظر باستخفاف إلى عبد العزيز وهما على مائدة الطعام، وكانت الخمر قد لعبت برأسه. فقال لضيفه: «دين جلالتك يحرّم عليك التدخين وتعاطي المسكرات. ولكن يجب أن أشير إلى أن قانون حياتي يقضي بالتدخين وبشرب المسكرات أيضاً قبل وبعد وحتى أثناء جميع الوجبات وما بينها من فترات إذا اقتضى الأمر...». ثم راح تشرشل يحتسي الويسكي وينفخ دخان سيجاره معظم الوقت في وجه العاهل السعودي أثناء محادثاتهما التي دامت ثلاث ساعات. واستاء عبد العزيز من هذا التصرف، وخصوصاً عندما قارنه بأسلوب روزفلت الحصيف معه. فلقد حرص الرئيس الأميركي أن لا يثير حساسيات ابن سعود الدينية. ولم يكن للخمر وجود على مائدة الطعام.
إلا أن عبد العزيز أحسّ باستخفاف تشرشل الكبير به في مسألة أخرى. فهو قد أهداه ذات الهدايا التي قدّمها لروزفلت (العباءة المذهبة والسيف المرصع والخنجر وخواتم الجواهر)، فنال عن هديته من الرئيس الأميركي طائرة. ولكن تشرشل لم يجد في المقابل إلّا علبة عطر أخرجها له من حقيبته. ولقد كانت، أيضاً، مستعملة!
عندما علم تشرشل باستياء ابن سعود الحادّ منه ثمّ علم بهدية روزفلت بعث لعبد العزيز رسالة مجاملة يقول فيها: «إن علبة العطر ما هي إلا هدية رمزية وأنه ينوي إهداء الملك أول سيارة رولز رويس يتم إنتاجها بعد الحرب، وهي أحسن سيارة في العالم!».
وعثر البريطانيون على سيارة رولز رويس مستعملة، لكنها تكاد تكون جديدة، فأعادوا تجهيزها لتلائم عبد العزيز، وأخرجت خزانة المشروبات الروحية ووُضِع مكانها وعاء للوضوء، وتم تبديل زجاجات الكوكتيل ب«ترموس» لحفظ ماء زمزم الذي يشربه الملك، ثم استُبدل بالمقعد الخلفي عرشٌ ضخم، ثمّ طلوا السيارة بطبقة جديدة من الدهان، وأوصلوها لعبد العزيز الذي أخذ يتفحص سيارته باهتمام. وظهرَ له فيها شيء مزعج! كان العرش في مؤخرة السيارة غير مناسب له تماماً، لأن الحريم فقط هن اللواتي يجلسن في المقاعد الخلفية. أمّا الرجال مثله، فلا يجلسون إلّا في المقعد الأمامي بجانب السائق. ثمّ إنّ البريطانيين أهملوا في تعديلاتهم شيئاً مهماً جداً: لقد نسوا نقل عجلة القيادة من اليمين إلى اليسار. ومعنى هذا أنه يتعيّن على الملك الجلوس على يسار سائقه. وهذا شؤم!
والتفت عبد العزيز لأخيه عبد الله الذي كان بجانبه يشاهد السيارة، وقال له: «خذها، هي لك».
وكان هذا إيذاناً نهائياً من ملك السعودية بطيّه لصفحة غرامه الإنكليزي القديم، واستبداله بقصّة غرام أميركي جديد!

جعفر البكلي
عن الأخبار اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.