كنت في "طاكسي أحمر" بالدار البيضاء، أجلس جنب السائق الثرثار، الذي توقف فجأة ليحمل مواطنين من دول جنوب الصحراء، دون أن يتوقف عن الثرثرة. كان الرجلان على درجة من الأناقة، توحي بأنهما موظفان محترمان في شركة دولية، في يد كل واحد منهما حقيبة جلدية. ركبا في المقعد الخلفي واستغرقا في الحديث، كما يفعل أي شخصين مشغولين بقضية. توقف السائق عن الكلام وشرع في التأفف، مستعملا كل الإشارات التي تفيد أنه منزعج من الراكبين. خمنت أنه فقد أعصابه لأنه لم يعد لديه المجال كي يثرثر. عندما همّا بالنزول، أخذ منهما النقود بامتعاض واضح، وبمجرد ما غادرا وأغلق الباب ضغط على "الآكسيليراتور" وتوجه لي بالكلام: "تفو، آخر مرة نهز هاد عوازة ريحتهم كتعطعط وزايدينها بتقرقيب الناب، فرعو ليا راسي!"… انتظر أن أؤيد كلامه وأنكل معه بالإفريقيين، لكني فاجأته وقلت له، بغير قليل من الضجر، إنه أيضا يزعجني بكلامه وليس من حقه أصلا أن يتحدث معي لأنني لا أعرفه، بل مجرد زبون سيدفع له ثمن الرحلة في نهاية المشوار… صُعق. كأنني صببت عليه سطل ماء بارد. لم يرد، بل أحكم قبضته على مقود السيارة ولاذ بالصمت طوال ما تبقى من الطريق، ولا شك أنه أشبعني سبا عندما نزلت! نحن أفارقة بحكم التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، رغم أن كثيرين ينسون ذلك، لأن خيالهم معطوب ولهم أوهام حول بشرتهم، مما يذكي نزعة استعلائية ضد إخوتنا في القارة السمراء. كثير من المغاربة يتوهمون أنهم بيض، ولو سمعهم الإسكندنافيون لسقطوا على ظهورهم من شدة الضحك. تواضع قليلا يا "كحل العفطة"، فلا فرق بينك وبين أخيك الذي يأتي من الكونغو أو النيجر أو غينيا أو إفريقيا الوسطى، لا فرق بينكما إلا بالأخلاق والتقوى. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَلَا لَا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمرَ إلا بالتقوى"؟ بلى، لكننا مع ذلك نعتقد أننا أعلى شأنا. نحن عنصريون، مع الأسف، إلا من رحم ربك. في الوقت الذي تحاول المملكة استعادة عمقها الإفريقي، ويسافر الملك لحضور قمة أبيدجان، تندلع مواجهات مخجلة قرب محطة "أولاد زيان" بالدار البيضاء، بين بعض ساكنة المنطقة ومجموعة من المهاجرين المنحدرين من دول جنوب الصحراء، ممن طوّحت بهم الحروب والمآسي إلى إحدى حدائق مرس السلطان، حيث ينامون في العراء، ويقضون نهارهم يستجدون أمام "السطوب"، لعلهم يوفرون ثمن "باگيطة" ونصف لتر حليب، في انتظار أن تحصل المعجزة ويعبرون إلى الضفة الأخرى. اشتباكات الجمعة تعكس تصاعدا في نزعة العنصرية ومعاداة الأجانب. وعندما نفتش عن الخلل، نجده في التربية. ماذا تنتظر من أجيال تعودت على وصف صاحب البشرة السوداء بكل النعوت القدحية، في البيت والشارع والمسرح والتلفزيون والسينما، وفي المدرسة؟ بدل الاهتمام بالنصوص التي تحث على التسامح والعيش المشترك، مازالت وزارة التربية الوطنية تدرس للأجيال قصيدة المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي، التي تقطر حقارة وعنصرية: "من علم الأسود المخصي مكرمة/ أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟" "لا تشتر العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد"… التسميات التحقيرية التي ننعت بها السود ينبغي أن تُجرّم، كما تجرم التوصيفات القدحية ضد العرب في البلدان التي تحترم حقوق الإنسان. بخلاف ما نظل نردده عن الكرم وحسن الضيافة والتسامح وغيرها من الشعارات، واضح أن العنصرية تنتصر على ما سواها في علاقتنا مع أشقائنا الأفارقة، عنصرية مجانية يغذيها الجهل والانغلاق على الذات، واضطهاد من هو أضعف، فضلا عن ترسبات تاريخية متحاملة على أصحاب البشرة السوداء. لم تعد سياسة النعامة مقبولة من طرف الدولة، إزاء هذه الظاهرة التي تُسائلنا جميعا، وتضع إنسانيتنا وقيمنا الدينية والاجتماعية على المحك. لا بد من حلول مستعجلة لإيواء هؤلاء المشردين ومنحهم حدا أدنى من العيش الكريم، ولا بد من إجابات قانونية وسياسية وتربوية لاحتواء موجات الهجرة غير الشرعية. هؤلاء البشر يصلون إلى بلادنا فرارا من ويلات الفقر والحروب، كي يعبروا إلى الضفة الأخرى، لكن الحلم الأوروبي يتبخر في الطريق، ويضطرون للعيش معنا، ومن واجبنا أن نكرم وفادتهم، باسم الدين والأخلاق والإنسانية، لا أن نطلق العنان لمشاعرنا البدائية، وننكل بهم لأنهم مختلفون وفي وضعية هشة. علينا أن نتذكر أننا جميعا أبناء آدم، والحدود والدول مجرد اختراع سياسي، وأن أرض البشر لكل البشر، أو كما قال الشاعر الراحل أحمد بركات: "الأرض ليست لأحد/ الأرض لمن لا يملك مكانا آخر"!