قيادات: جهة بني ملال "قلعة بامية"    مسؤول يكشف عن المعايير المعتمدة لاستخراج أسماء المستدعين للخدمة العسكرية 2025    بوريطة يستقبل مسؤولا ببرلمان غانا    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني: دبلوماسيون يشيدون بالمقاربة الاستباقية للمغرب في تعزيز الأمن الداخلي    أخنوش: لا نسعى لتكريس النخبوية ونراهن على "مدارس الريادة" لضمان الجودة والعدالة التربوية    « "Shining Fès" : و"Rising Ouarzazate": انطلاقة جديدة للسياحة المغربية»    القطار فائق السرعة يتحول إلى سلحفاة بسبب عطب تقني ناتج عن قطع الألياف البصرية    حموشي يستقبل أرامل وآباء موظفي شرطة ممن وافتهم المنية خلال أداء الواجب المهني    نقيب سابق بهيئة أكادير ينفي شراء شهادة الماستر ويطالب بتحقيق قضائي    أخنوش: أطلقنا تجربة جديدة لمؤسسات الريادة في 10% من الإعدادايات لمواجهة الهدر المدرسي    البرلمان المغربي يحتضن الدورة ال83 للجنة التنفيذية للاتحاد البرلماني الإفريقي    البراق يتوقف عن العمل و المكتب الوطني للسكك الحديدية يكشف السبب    النصيري يسجل هدفا في فوز فنربخشة أمام أيوب سبور (2-1)    مليونا شخص يتضورون جوعا في غزة    تداولات الافتتاح في بورصة البيضاء    النيابة العامة تطالب بحضور الشهود في ملف "قتل الشاب بدر" بالبيضاء    حريق يشبّ بمستودع قرب المحمدية    تفشي إنفلونزا الطيور .. اليابان تعلق استيراد الدواجن من البرازيل    ستيفان عزيز كي يعزز صفوف الوداد    مهرجان "ماطا" للفروسية يحتفي بربع قرن من الازدهار في دورة استثنائية تحت الرعاية الملكية    المهرجان الدولي لفن القفطان يحتفي بعشر سنوات من الإبداع في دورته العاشرة بمدينة طنجة    بين الراب والإحساس.. "لواليدة" تكشف جانبًا جديدًا من أسلوب مصطفى قادري    ب130 مليار درهم.. "طاقة المغرب" تعلن عن شراكة استثمارية كبرى في الطاقة والمياه    العرائش تحتضن الجمع العام لعصبة جهة الشمال للدراجات الهوائية بحضور وازن    إيهاب أمير يطلق جديده الفني "انساني"    خبراء وإعلاميون وباحثون وأكاديميون يناقشون" مسؤولية الإعلام في صيانة التراث الثقافي والطبيعي الوطني"، في ندوة احتضنها بيت الصحافة بطنجة    "درونات" الأمن الوطني.. استشراف ميداني للتهديدات الأمنية المعقدة    تشخيص جو بايدن بنوع "شرس" من سرطان البروستاتا وانتشار المرض إلى عظامه    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مشاركة مكثفة في "خطوات النصر النسائية" ببن جرير    ورشة مغربية-فرنسية لدعم أولى تجارب المخرجين الشباب    عصبة كرة القدم تطلب من إدارة أمل تيزنيت تقديم ملف الترشيح للمشاركة في القسم الثاني للنخبة    مرسيليا تحتفي بالثقافة الأمازيغية المغربية في معرض فني غير مسبوق    مدرب منتخب أقل من 20 سنة: اللاعبون قدموا كل ما لديهم والتركيز حاليا على كأس العالم المقبل    تشديد شروط الهجرة: عقابٌ للمهاجرين أم تراجعٌ عن المبادئ؟    الذهب يرتفع وسط تراجع الدولار وتهديدات أمريكية بفرض رسوم جمركية    الرباط تستضيف أشغال الاجتماع الخامس للتحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين    22 قتيلاً في غارات إسرائيلية على غزة    أنشيلوتي: مودريتش سيقرر مصيره بهدوء.. وهذه نصيحتي لثلاثي المستقبل    مباريات السد.. السوالم يواجه أولمبيك الدشيرة والحسنية تلاقي رجاء بني ملال    مليونا شخص يتضورون جوعا في غزة    العلاقات المغربية السورية: بين مدّ قومي وجزر سياسي    سفارة الصين بالمغرب: فيديو الملك الراحل الحسن الثاني وهو يدافع عن الصين بالأمم المتحدة حصد أكثر من 100 ألف إعجاب خلال يومين فقط على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية    تأخيرات وإلغاءات.. الخطوط الملكية المغربية تحذر مسافريها من وإلى باريس أورلي    العيش البيئي واقتصاد الكارثة    المغرب ‬يسعى ‬إلى زيادة ‬صادراته من ‬السيارات ‬نحو ‬مصر    تشخيص إصابة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بنوع "عدواني" من سرطان البروستاتا    إيران ترفض اتهامات تجسس بريطانية    .    ارتفاع حركة المسافرين بمطار الحسيمة بنسبة 19% خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025    تقرير رسمي.. بايدن مصاب بسرطان البروستاتا "العنيف" مع انتشار للعظام    من المغرب.. مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة"    التوصيات الرئيسية في طب الأمراض المعدية بالمغرب كما أعدتهم الجمعية المغربية لمكافحة الأمراض المعدية    وزارة الصحة تنبه لتزايد نسبة انتشار ارتفاع ضغط الدم وسط المغاربة    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ٱلِٱقْتصاد ٱللُّغوِيّ
بقلم: عبد الجليل الكور

«تعريفُ المَقْبُوليّة [اللُّغويّة] ليس [مُعْطًى] في المَقام، بل هو قائمٌ في العَلَاقة بين سُوقٍ ومَلَكةٍ [لُغويّةٍ] هي نفسُها نِتاجُ كُلِّ تاريخِ العَلاقة مع أَسواقٍ ما. ذلك بأنّ المَلَكةَ [ٱللُّغويّةَ] ليستْ أَقلَّ ٱرتباطًا بالسُّوق لا من جهة شُروط ٱكتسابها ولا من جهة شُروط ٱستعمالها. إذْ لَمْ نَتعلَّمْ أنْ نَتكلّم فقط ونحن نَسمع كيف يُتكلَّم بطريقةٍ مُعيَّنةٍ في الكلام، بل أيضا [تَعَلَّمنا الكلامَ] ونحن نَتكلّم؛ أَيْ إِذًا بعَرْضِ طريقةٍ مُحدَّدةٍ للكلام في سُوق مُعيَّنةٍ، أَيْ في التّبادُلات ضمن أُسْرةٍ تَشْغَلُ وَضْعًا خاصًّا في الفضاء الاجتماعيّ وتَعْرِضُ، من ثَمّ، على المُحاكاة العَمليّة للنّاشئ الجديد نَماذجَ وجَزاءاتٍ بعيدةً بهذا القدر أو ذاك عن الاستعمال المشروع. ولقد تَعلَّمْنا [كذلك] القيمةَ التي تَحْظَى بها في أَسواق أُخرى (مثل سُوق المدرسة) المُنْتَجاتُ المعروضةُ، مع كُلِّ السُّلْطة المُتعلِّقة بها، في السُّوق الأَصْليّة. وهكذا، فإنّ نسقَ التّعْزيزات أو التّكْذيبات المُتعاقبة قد أَنْشأَ في كُلٍّ منّا نوعًا من الحِسّ المُرتبط بالقيمة الاجتماعيّة للاستعمالات اللُّغويّة وبالعَلاقة بين الاستعمالات المُتباينة والأسواق المُختلفة التي تُنظِّم كل الإدراكات اللّاحقة حول المُنْتَجات اللُّغويّة، وهو الأمر الذي يَنْزِع إلى أن يَضمن له ٱستقرارًا كبيرًا جدًّا.» (پيير بُورديو، ما معنى أن تَتكلّم: ٱقتصاد التّبادُلات اللُّغويّة، 1982، ص. 83)
لعلّ أَفضلَ تعريفٍ يُمْكنُ أن يُعطَى ل«ٱللُّغة» هو وصفُها بأَنّها «ٱقْتصادٌ». ذلك بأَنّها تُمثِّلُ - بما هي إنتاجٌ وٱستهلاكٌ لقيمٍ ٱستعماليّة وتبادُليّة- نسقًا ٱقتصاديًّا بٱمْتيازٍ. ويَتجلّى هذا «الطّابعُ الاقتصاديّ» المُميِّزُ ل«ٱللُّغة» في كُلِّ مُستوَياتها (صوتيّا/صرفيّا وتركيبيّا ودلاليّا وتداوُليّا). وقد يكفي، بهذا الصّدد، أن يُشار إلى «الألفباء» وقابليّة عناصره القَلِيلة للائتلاف فيما بينها لتَكْوين ما لا نهاية له من "الكلمات" و"الصُّرَيْفات"، وإلى تَعدُّد معاني اللّفظ الواحد، وإلى "الحَذْف" و"الإضْمار"، وإلى كون الأقوال والجُمل تَقْبلُ أن تُستعمَل لأداءِ ما لا نهايةَ له من المَعاني حسب ٱختلاف القرائن الحاليّة والمَقامات السِّياقيّة. فالإنسان لا يَستعمل «اللُّغة» بالاقتصاد في الجُهد فقط (النُّفُور من المُسْتَثْقل وتفضيل الأَخَفّ، الميل إلى "الإدْغام" و"الإبْدال" و"التّرْخيم" و"التَّسْهيل"، قَبُول السّمَاع المُخالف للقياس)، بل يَستعملُها مُقْتصِدًا بمُقتضى ما يُناسب أَغْراضَه في "التّدْليل" و"التّوْجيه" وما يُراعي أَحوالَ مُخاطَبه في تَلقِّي "التّبْليغ" (بإحْكام الأساليب البيانيّة والآليّات البلاغيّة التي تَتحوّل «ٱللُّغة» بمُوجَبها إلى «نَسقٍ من ٱلْحِيَل» لتعاطي أحد أَشَدّ وأَعْقد أشكال «ٱلسِّحْر ٱلاجتماعيّ»).
وإذَا ظَهَر أنّ "اللُّغة" تشتغل كنسق ٱقتصاديِّ، فإنّ تحدُّدَها في ذاتها ك«بِنْيةٍ رمزيّةٍ» يقتضي أنّها – فضلا عن كونها، كما يُقال عادةً، وسيلةً للتّواصُل والتّبْليغ بين المُتكلِّمين/المُتخاطِبين- تشتغل بالأساس بصفتها «بِنْيةً صُوْريّةً» لإنْتاج وتداوُل «قِيَمٍ رَمْزيّة» (أيْ، بالتّحديد، «غير ماديّة») بما يَجعلُها تَتعيّن – في الواقع العمليّ- كوسيلة لمُمارَسة «الفِعْل» و«التّأْثير» في العالَم (بل كأَدوات تَعملُ ذِهْنيًّا لِٱبْتناء وٱخْتلاق عَوالم مُتخيَّلة بالتّوازي أو مَعيشة بالتّناوُب مع «العالَم الفِعْليّ»).
وهكذا، فإنّ الطّبيعة الرّمْزيّة والصُّوْريّة المُحدِّدة ل«ٱللُّغة» لا تُمثِّل إِلَّا الجانب الظّاهر منها، لأَنّها تَتحدّد في العُمق بصفتها «مُؤسَّسة ٱجتماعيّة وتاريخيّة» تَتعلّق بإنتاج وتداوُل قِيَمِ الوُجود والحياة؛ مِمّا يَدُلُّ على أنّ طبيعتَها التّداوُليّة والعَمَليّة تَحْضُر في المَقام الأوّل. وبالتّالي، فإنّ النّظر إلى «ٱللُّغة» كنسق رَمْزيّ وصُوْريّ يَشتغل من خلال «بناء الفُرُوق» تَرْتيبيًّا وتراتُبيًّا بين عناصره (أو وَحداته) المُكوِّنة يُثْبت "التّساوِي" و"التّكافُؤ" بين مُختلِف الأَلْسُن المُستعمَلَة بَشريًّا. غير أنّ النّظر إلى «اللُّغة» بالنِّسبة إلى الشُّرُوط الموضوعيّة المُحدِّدة لِٱكْتسابها وٱستعمالها في الواقع العمليّ يَجعلُها تندرج ضمن «أَشكال الحياة» التي تُعاش كَلَعِبٍ دَالٍّ وتُمارَس كَحِسٍّ مُلْتبس. ولذا، فالأَمرُ يَتعلّق ب«ٱقْتصاد لُغويّ» يَشمل مجموع العَلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بإنتاج وتداوُل «الخَيْرات الرّمْزيّة» ذات القيمة في كُلّ مجال ٱجتماعيّ وثقافي مُتميِّز.
وفي المدى الذي لا تشتغل «ٱللُّغة» فقط كوسيلة للتّواصُل والتّبْليغ بين المُتكلِّمين/المُتخاطِبين في مجال تداوُليّ مُعيَّن (بل تشتغل أيضا كواسطة لمُمارَسة السُّلْطة والنُّفوذ)، فإنّ التّفاعُل اللُّغويّ يَحكُمه توزُّعُ الخَيْرات الرّمْزيّة والثّقافيّة المُتعلِّقة ب«ٱلمَلَكة اللُّغويّة» في تحدُّدها بالنِّسبة إلى كُلِّ حقلٍ على حِدَةٍ. وهذا معناهُ أنّ توجُّهات النّاس اللُّغويّة تَخضعُ لمُقتضيَات «السُّوق اللُّغويّة» حيث يُمْكنُهم، عادةً، أن يَستجيبوا للحاجات المُرتبطة بمُمارَستهم الكلاميّة بما هي مُمارَسة عَمَليّة تتجاوز حُدود التّجْريد النّظريّ الذي تُتصوَّر «اللُّغة» في إطاره كما لو كانت نسقًا لا يَتحدّد إِلَّا بالنِّسبة إلى نفسه ولا يُفيد، بالتّالي، إِلَّا بصفته موضوعًا مَوْقوفًا من أجل الفْهَم فقط.
ونجد، في سُوق الألسن الغالِبة والمُهيمنة بالعالَم حاليًّا، أنّ خمسة عشر لُغة (الصِّينيّة، الإنجليزيّة، الهنديّة، الإسپانيّة، العربيّة، البُرتغاليّة، البَنْغاليّة، الرُّوسيّة، الفرنسيّة، الملاويّة، الألمانيّة، اليابانيّة، الفارسيّة، الأُرْدية، البَنْجابيّة) تُمثِّل أوسعَ اللُّغات ٱستعمالًا بين أكثريّة النّاس في القارّات الخمس (نحو أكثر من خمسة ملايير نسمة، أيْ ثلاثة أرباع البشريّة المُقدَّر عددُها الآن بنحو سبعة ملايير نسمة). ومعنى هذا أنّ أهمّ ما يُنْتَج ويُتداوَل من قِيَمٍ رَمْزيّة وثقافيّة على مُستوى العالَم إنّما يَتِمّ في مجموعاتٍ لُغويّة يَبتدئ تَعْدادُ كُلِّ واحدة منها بمئة مليون نسمة وقد يتجاوز مليار نسمة.
وما ينبغي تأكيدُه، هُنا، هو أنّ تلك الألسن لا تفرض نفسَها في مَجالاتِ تداوُلها الخاصّة (و، أيضا، خارجها) بفعل ٱمْتيازاتٍ ما مُتعلِّقة ببِنْياتها الصوتيّة/الصرفيّة أو التّرْكيبيّة/النَّظْميّة أو المُعجميّة/الدّلاليّة (كُلّ الألسن مُتكافئة من هذه النّاحية)؛ وإنّما هُناك جُملةٌ من العوامل «التّداوُليّة» هي التي تَجعلُها كذلك، عوامل تُحدَّد بأنّها تاريخيّة وٱجتماعيّة وثقافيّة وٱقتصاديّة وسياسيّة وتُعَدّ مُتداخلةً ومُتكاملةً على نحوٍ شديدِ التّعقُّد بما لا تَتبيّن حقيقتُه إِلَّا على أساس البحث العلميّ في قيامه على التّوْصيف الموضوعيّ والتّفسير التّعْليليّ. وكونُ الألسن لا تُهيْمِن إلَّا على أساس تداوُليّ هو الذي يجعل من بين أَوسُع الألسُن ليستْ هُناك سوى أَلْسُن قليلة ذات قُوّة ونُفوذ على المُستوى العالَميّ (بالخُصوص: الإنْجليزيّة، الإسپانيّة، العَرَبيّة، الفرنسيّة).
ولأنّ الشُّروط المُحدِّدة واقعيًّا لِٱكتساب وٱستعمال «ٱللُّغة» ليستْ شيئًا آخر غير مجموع الشُّروط «التّداوُليّة» التي تَفْرِض على المُتكلِّمِين/المُتخاطِبين أن يَستثْمرُوا من طاقاتهم وإمْكاناتهم ما يَكْفُل لهم التّمكُّن من وسيلةِ التّواصُل المُناسبة عمليًّا، فإنّ «الاقتصاد اللُّغويّ» لا يَشتغل إِلَّا على نحوٍ تنازُعيٍّ وتمييزيٍّ؛ بما يُفيد أنّ النّاس في أيِّ مجالٍ تداوُليٍّ لا يَتقاسمُون «ٱللُّغة» أبدًا على نحوٍ مُتساوٍ كما لو كانت شيئًا مُشاعًا بينهم، بل تبقى «ٱللُّغة» موضوعًا للاحتكار بما هي «لُغة مَشْرُوعة» (مقبولة وذات نُفوذ)، مِمّا يَسمَحُ بمُمارَسةِ «السُّلْطة الرَّمْزيّة» وَفْق مجموع الشُّرُوط المُحدِّدة موضوعيًّا للسَّيْطرة/الغَلَبة الاجتماعيّة (في كل مجال تداوُليّ ثمّةَ دائمًا «مُسيْطِرُون/غالِبُون» و«مُسيْطَر عليهم/مَغْلُوبون» حتّى على مُستوى اللِّسان الواحد).
لا يكون، إِذًا، توجُّهُ النّاس نحو هذه اللُّغة أو تلك تبعًا لِما يُظَنّ ٱمْتيازاتٍ مُلازِمةٍ لها بما هي لُغةٌ، وإنّما التّفاعُلُ التّداوُليُّ للمُتكلِّمين/المُتخاطِبين هو الذي يَحْكُم توجُّهاتهم اللُّغويّة في إطار أَسواقٍ لإنْتاج وتداوُل مجموع الخَيْرات الرَّمْزيّة والثّقافيّة المُتعلِّقة بالاستجابة للحاجات الحيويّة للنّاس بما هُمْ فاعلُون يَأْتُون الكلامَ كَلَعِبٍ ٱجتماعيٍّ يُعاش، بالضّرُورة، وَفْق منطق «المُمارَسة العَمَليّة» بكُلِّ ٱلْتباساتها وتناقُضاتها. ف«ٱللُّغةُ» رِهانٌ وُجُوديٌّ يُلَاحَقُ (أو يُطْلَب) ضمن اللِّعب الاجتماعيّ الذي يُخاض بحِسٍّ عَمَليّ يَجعلُ «المُلَاعَبة» مشروطةً موضوعيًّا حتّى بٱعْتبارها «مُنازَعةً/مُغالَبةً» بخصوص النّوع المُسيْطِر من «المَشْرُوعيّة» (وهو ما يقتضي أنّ المُناهَضة التي تتّخذ فقط شكل الاستنكار أو التّذمُّر تبقى غير مُجْدِية عَمَليًّا لكونها تَغفُل عن حقيقة الشُّرُوط الموضوعيّة المُحدِّدة لاشتغال السّيْطرة/الغَلَبة).
ومن ثَمّ، فكما أنّه لا يكفي لقيام «المَقْبُوليّة» حفظ القواعد الشّكْليّة (السّلامة النّحْويّة)، فإنه لا يُجْزئ أن يكون اللِّسانُ المُستعمَلُ بالغَ الابْتذال في الحياة العاديّة واليوميّة حتّى يَتبوّأُ مَقامَ «اللُّغة المشروعة». ذلك بأنّ «المَقْبُوليّة» ليستْ سوى صِنْفٍ من أصناف «المشروعيّة» التي تُمثِّل رهانَ مُختلف أنماط الإنتاج الماديّ والرّمزيّ من الحياة الاجتماعيّة. وبالتالي، فإنه لا سبيل لتحصيل «المقبُوليّة اللُّغويّة» إِلَّا بالخُضوع للشُّروط المُتعلِّقة ب«ٱلاقتصاد اللُّغويّ» في تَحدُّده بالنِّسبة إلى «ٱقتصاد الخَيْرات الرَّمْزيّة والثّقافيّة» وعدم ٱنْفكاكه عن «ٱقْتصاد المَوارد الماديّة» («المقبُوليّة اللُّغويّة» مُحدَّدة ٱقْتصاديًّا وبِنْيويًّا في عَلاقتها بمجموع أَنْساق الاقتصاد الاجتماعيّ).
هكذا، وبخلاف ما يتراءى لبعض المُهتمِّين، فإنّ خيرَ ما يُفعَلُ للسانٍ ما لا يَتأتّى بتأْسيس جمعيّاتٍ للدِّفاع عنه وحمايته، بل بالعمل الواقعيّ على تَوْفير وتَحْسين أَهمّ الشُّروط المُحدِّدة موضوعيًّا لِٱكتسابه وٱستعماله بحيث يَصيرُ بإمكان النّاس لا فقط ٱمتلاكُه عَمَليًّا، بل تَصيرُ لهم أيضًا مَصْلَحةٌ فِعْليّةٌ في الاهتمام به طلبًا وٱستثمارًا. ومعنى هذا أنّ أَنْجعَ السُّبُل تَتمثّل في إيجادِ وتقويةِ كُلِّ ما يَكْفُل للِّسان المَعْنيّ أن يكونَ وسيلةً ناجعةً لإنْتاج قيمٍ ٱسْتعماليّةٍ وتداوُليّةٍ تَحْظى بٱهتمامِ مُختلِف المُتكلِّمِين/المُتخاطِبين في «السُّوق اللُّغويّة» التي لا تَعْرف قانونًا آخر غير أنّ التّقْليل من تكاليفِ الإنْتاج لا يكون إِلَّا مع ضمان غياب الجَزاءات السَّلْبيّة، وهو الأمر الذي يَستلزمُ أَنّ جَوْدةَ العَرْض تتحدّد دائمًا بالنِّسبةِ إلى قُوّة الطّلَب في كثرته وتنوُّعه وتغيُّره.
ومن أجل ذلك، يَجدُر الانتباه إلى أنّ كونَ المُجتمعات المُعاصرة صارتْ تَتحدّد بالنِّسبة إلى واقع «العَوْلَمة» بكُلِّ مُقتضيَاته وتحدِّياته يفرض أن تُؤخَذ بالحُسبان عواملُ «التّحْرير» المُنْصَبّة على مُختلِف الأسواق بما لَمْ يَعُدْ مُمْكنًا معه ٱستمرارُ وَضْعِ «السِّيادة المُطلَقة» الذي كانت تتمتّعُ به «الدّوْلةُ القُطْريّةُ» (بصفتها الضّامن للِّسان المعياريّ والرّسْميّ كأَساسٍ ل«ٱللُّغة المَشْرُوعة») أو الطّمَع في مَزيدٍ من «الحِمائيّة» بالشّكل الذي يَحُدّ أو يُخفِّف من ضغط مُختلِف التّدفُّقات في مجال تبادُل المعلومات وإقامة العَلاقات من خلال شبكات التّواصُل المُعوْلَم بَثًّا تَلْفزيًّا وهاتفيًّا وحاسُوبيًّا. وفي ظِلِّ هذا الواقع، أصبح المُواطن يُواجِه - في كل حينٍ- إِغْراءات «الإبْحار» عبر أَلْسُنٍ شتّى تَطْرُق بإلحاحٍ سَمْعَه وتَلْفِتُ نَظرَه على الرّغْم منه.
وفي مثل هذا الخِضمّ، لن تَصمُد إِلَّا الألسُن التي عَرَف أَصحابُها أنَّ الانْخراطَ في «السُّوق اللُّغويّة العالَميّة» أساسُه التّمْكينُ لقُوَى الإنْتاج الماديّ والرَّمْزيّ بما يَجعلُ الفاعليّةَ اللُّغويّة مُمارَسةً عَمَليّةً تُخاض «مُغالَبةً عُمْرانيّةً» وليس على شاكلة «ٱلانْطوائيّة الحالِمة». ومن هُنا، يُدْرَكُ كيف أنّ لِسانًا مثل اللِّسان الإنْجليزيّ صار يَفْرِضُ نفسَه عالميًّا بصفته اللِّسان الأوّل الذي يَجِدُ مُعظمُ المُهتمِّين بنجاحهم المِهْنيّ والعَمَليّ مَصْلَحةً أَكيدةً في طَلَبه وتجشُّم كُلِّ ٱستثمارٍ لٱكتسابه وٱستعماله، فهو اللِّسان الكفيلُ حاليًّا بوُلُوج «السُّوق اللُّغويّة العالَميّة» والاستفادة منها إنْتاجًا وٱسْتهلاكًا. ولن يُنافسه في هذا إِلَّا اللِّسانُ الذي يَقْتدرُ أن يَتحدّاه بالنُّزُول إلى ميدان المُغالَبة على كُلِّ مُستوَيات الحياة العَمَليّة حيث له في كُلِّ مَوْطِئٍ منها قَدَمٌ راسخةٌ لا يُنْكرُها إِلَّا غِرٌّ جاهلٌ أو جاحدٌ مُكابِرٌ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.