عدم استكمال هياكل مجلس النواب يؤجل تقديم الحصيلة البرلمانية    المبادرة الملكية الأطلسية تطمح لجعل المنطقة الأفرو – أطلسية فضاء أمن ورخاء مشترك    الموعد الجديد لمواجهة بونو ورحيمي في قمة "أبطال آسيا"    مركز تصفية الدم بالعيون.. التزام تام للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية لفائدة مرضى القصور الكلوي    قرار جديد لمحكمة فاس في قضية "شر كبي أتاي"    26 قتيلا و2725 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال أسبوع واحد    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الزيادة في الأجور بأثر رجعي نهاية أبريل    سانشيز: كأس العالم 2030 "سيكون ناجحا"    صديقي: مجزرة بوقنادل تضمن جودة عالية    صندوق النقد يتوقع نموا ب 3.1 % في المغرب    أمطار غزيرة تُغرق دول الخليج والسيول تودي ب18 شخصا في عُمان    النيابة العامة تستدل بالقرآن الكريم وتتمسك بالإعدام في قضية الشاب بدر    عصابة المجوهرات تسقط في قبضة أمن البيضاء    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    مجلس المستشارين.. بنسعيد يبرز دور الثقافة في النهوض بالأوضاع الاجتماعية للشباب    علماء أمريكيون يحذرون من تأثير مادة "الباراسيتامول" على صحة القلب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    شركة ميتا تكشف عن سعيها لإحداث ثورة في التعليم    الحسن أيت بيهي يصدر أولى إبداعاته الأدبية    جلالة الملك يهنىء رئيس جمهورية سلوفاكيا الجديد    نجم برشلونة الإسباني: لا إحساس يضاهي حمل قميص المنتخب المغربي    ابن كيران: رفضنا المشاركة في ملتمس الرقابة بسبب إدريس لشكر(فيديو)    إسبانيا توفر خدمات لعاملات مغربيات    أرباب المقاهي يفاجئون المغاربة برفع أسعار القهوة والمشروبات الغازية    دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي سابق    بحالو بحال قيوح: القاديري البرلماني الاستقلالي كيموت على المناصب وداير حملة وحرب باش يبقا فمكتب مجلس النواب ومكفاتوش تعدد المسؤوليات وبغا ريع الامتيازات وطوموبيل البرلمان باش يتفطح    الصندوق المغربي للتقاعد.. نظام التقاعد "التكميلي" يحقق نسبة مردودية صافية بلغت 5.31 في المائة سنة 2023    تأجيل جلسة البرلمان المخصصة لعرض الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة إلى وقت لاحق    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : لمحات من سيرة وشعر الأمير الشاعر المعتمد بن عباد دفين أغمات    مسؤولية كبيرة قدام الطالبي العلمي للي مصر على تطبيق الدستور وابعاد البرلمانيين المتابعين فالفساد من المسؤولية: اليوم عندو اجتماع حاسم مع رؤساء الفرق على مناصب النيابات ورؤساء اللجان وكولشي كيستنا لاليست ديال البام    إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024 من مدينة أولمبيا اليونانية    الدكيك: ملي كنقول على شي ماتش صعيب راه ما كنزيدش فيه والدومي فينال مهم حيث مؤهل للمونديال.. وحنا فال الخير على المنتخبات المغربية    كمية الصيد المتوسطي تتقلص بالمغرب    الحصيلة الإجمالية للقتلى ترتفع في غزة    الأمين بوخبزة في ذمة الله .. خسارة للحركة الإسلامية والعمل التطوعي بالمغرب    هذه مستجدات إلغاء ذبح أضحية عيد الأضحى لهذا العام    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    دراسة: الشعور بالوحدة قد يؤدي إلى مشاكل صحية مزمنة    بورصة الدار البيضاء : تداولات الافتتاح على وقع التراجع    كيف يمكن أن تساعد القهوة في إنقاص الوزن؟: نصائح لشرب القهوة المُساعدة على إنقاص الوزن    عبد الإله رشيد يدخل على خط إدانة "مومو" بالحبس النافذ    هجوم شرس على فنان ظهر بالملابس الداخلية    مؤسسة منتدى أصيلة تنظم "ربيعيات أصيلة " من 15 إلى 30 أبريل الجاري    الجزائر تغالط العالم بصورة قفطان مغربي .. والرباط تدخل على خط اللصوصية    دراسة تحذر من خطورة أعراض صباحية عند المرأة الحبلى    أشرف حكيمي: "يتعين علينا تقديم كل شيء لتحقيق الانتصار في برشلونة والعودة بالفوز إلى باريس"    المدرسة العليا للأساتذة بمراكش تحتفي بالناقد والباحث الأكاديمي الدكتور محمد الداهي    مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان يدعو إلى انهاء الحرب في السودان    العنصرية ضد المسلمين بألمانيا تتزايد.. 1464 جريمة خلال عام وجهاز الأمن تحت المجهر    سليم أملاح في مهمة صعبة لاستعادة مكانته قبل تصفيات كأس العالم 2026    المغرب وبلجيكا يدعوان إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    المغرب التطواني يصدر بلاغا ناريا بشأن اللاعب الجزائري بنشريفة    هذه طرق بسيطة للاستيقاظ مبكرا وبدء اليوم بنشاط    الأمثال العامية بتطوان... (572)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    هل قبل الله عملنا في رمضان؟ موضوع خطبة الجمعة للاستاذ إلياس علي التسولي بالناظور    مدونة الأسرة.. الإرث بين دعوات "الحفاظ على شرع الله" و"إعادة النظر في تفاصيل التعصيب"    "الأسرة ومراعاة حقوق الطفل الروحية عند الزواج"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فهمي هويدي: عام 2002 عامُ القهر
نشر في التجديد يوم 03 - 01 - 2003

حتى إشعار آخر، فإنني أسميه عام "القهر". ذلك العام الميلادي الذي انقضى، وأسدل الستار عليه، كي نستقبل عاما جديدا، لا نكاد نرى في أفقه إلا سحابات داكنة، وحشدا من إشارات التوجس والقلق، خصوصا أن العناوين المرشحة له حتى الآن مما لا يسر الخاطر. إذ رغم أن الأمريكيين أحجموا عن تسميته، إلا أن لسان حالهم يقول إنهم يريدونه عام التفكك وإعادة التشكيل. والإسرائيليون يريدون له أن يكون "عام الحسم" أما أهل المنطقة وأصحابها الحقيقيون. فيبدو أنهم وضعوا اليد على الخد. وقعدوا ينتظرون معجزة من السماء.
(1)
أعلم أن اختزال عام في جملة واحدة أو سطر عملٌ لا يخلو من تعسف.. لكنني أعترف بأن المبادرة لم تكن من جانبي، لأن غيري فعلها، وكان للتسمية عندي صدى أغراني بالمجاراة ومحاولة قراءة المشهد بعيوننا ومن زاويتنا. وأصل الحكاية أنني قرأت ذات صباح نبأ واردا من بروكسل ذكر أن المفوضية الأوروبية اختارت عنوانا لعام 2002 هو "عام الخوف"، وبررت ذلك في بيان لها بأن قلوب شعوب الأرض ظلت ترتجف طوال العام خشية ما تسفر عنه مفاجآت تنظيم "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن، كما أن مخاوفها كانت لها مصادر أخرى، منها احتمالات اندلاع الحرب في الشرق الأوسط وفي منطقة الخليج وكشمير، ومنها المخاوف الناجمة عن اتساع رقعة اليمين المتطرف في أوروبا. ومنها أيضا الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي ما تزال تعد أكبر مصدر للخوف.
حين طالعت الخبر في ذلك الصباح (الأحد 20/12) قلت أنها قراءة أوروبية للعام. تأثرت كثيرا بالإيحاءات الأمريكية، التي نجحت في تعميم الخوف من تنظيم القاعدة على العالم. وهو أمر مفهوم، إذ منذ صدمت الولايات المتحدة من جراء ما جرى في 11 شتنبر، فإنها وضعت مسألة الأمن القومي على رأس أولوياتها، وغيّرت من أجله استراتيجيتها معلنة أنها ستقود حملة عالمية ضد الإرهاب، من ثم كان طبيعيا أن تستنفر حلفاءها الأوروبيين بالدرجة الأولى لدعمها في تلك الحملة.
وكان من وسائل الاستنفار ذلك الإلحاح المستمر على أن أوروبا أيضا في خطر، وليس أمريكا وحدها. وهو ما تجلى في افتعال حوادث موحية بذلك، آخرها ما نشرته مجلة "شتيرن" في برلين عن أن عناصر من "القاعدة" تعد لهجوم بيولوجي على بعض الأهداف داخل ألمانيا، وهو ما نفته وزارة الداخلية في الأسبوع الماضي. وما حدث في ألمانيا تكرر في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا، الأمر الذي فرض أولولايات الأجندة الأمريكية على أوروبا على الأقل، علما بأن الجهود مستمرة لفرض أولويات تلك الأجندة على العالم بأسره، ونحن منه ضمنا.
فهمت أن يكون "الخوف" عنوانا للعام الأمريكي، ووجدت أن ثمة أسبابا قوية "للقلق" في أوروبا؛ الأمر الذي أثار عندي سؤالا كبيرا حول العنوان الذي يمكن أن نعلقه نحن العرب والمسلمين على جدران العام. لم يكن استبعادي لكلمة الخوف تعبيرا عن رغبة لا أنكرها في معاندة الأجندة الأمريكية، ولكن أيضا لاقتناعي بأننا لم نستشعر ذلك الخوف في العالم العربي والإسلامي، حيث لم يكن له ما يبرره. وهو ما دعاني للبحث عن عنوان آخر، أكثر صوابا في التعبير عن رؤيتنا ومشاعرنا على مدار العام.
(2)
ليست جديدة علينا تماما فكرة تسمية السنوات، التي عرفها العرب من قديم حين كتبوا التاريخ تبعا لوقوع الأحداث في السنوات، فربطوا بين السنة وبين أبرز الظواهر أو أهم الحوادث التي وقعت فيها.
فهناك "عام الفيل" الذي حاول فيه أبرهة ملك الحبشة هدم الكعبة، وعام "الفجار" الذي وقعت فيه معركة بين قبائل الجزيرة العربية. و"عام الرمادة" الذي كان عاما للمجاعة والهلاك، و"عام الجماعة" الذي حقنت فيه الدماء بعد تصالح الإمام الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان، وفي مصر اشتهر "عام الكف" الذي ارتبط بحادثة وقعت (عام 1902) حين اعتدى شاب غاضب على أحد كتاب ذلك الزمان، محمد إبراهيم المويلحي بك صاحب جريدة "مصباح الشرق"، وصفعه على وجهه.
وكان للحدث دويه، إذ قوبل بالدهشة والسخرية، حتى نظم فيه الشاعر أحمد شوقي ثماني مقطوعات مختلفة، قال في واحدة منها مخاطبا المويلحي بك:
ولقد ظننتك يا محمد في // فن الكتابة حاذقا فهما
وطفقت أسأل كل ذي ثقة // حتى نظرت بصدغك القلما!
نعرف في مصر أيضا "عام الاحزاب" (1907 الذي تشكلت فيه الأحزاب السياسية) وعام الثورة (1919) و"عام التصريح" (1922 الذي حصلت فيه مصر على تصريح باستقلالها الرسمي) و"عام المعاهدة" المصرية البريطانية (1936) وعام النكسة (1967) و"عام الحسم" الذي تحدث عنه الرئيس أنور السادات في أول السبعينات. ولا أعرف بماذا سيسمى العام القادم عربيا، خصوصا إذا تم اجتياح العراق وإسقاط نظامه. لكني أعرف أن المؤرخ العراقي الكبير الدكتور علي الوردي أطلق على عام 1920 الذي أخضع فيه العراق للانتداب البريطاني "عام السقوط" حتى سمّي مواليد ذلك العام "مواليد السقوط".
عدد صحيفة "هاآرتس" الصادر في 9/12 نقل عن رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد موشيه يعلون حديثه عن أن العام الجديد سيكون "عام الحسم" مع الفلسطينيين. ولم يكن وحيدا في ذلك، وإنما أشار كاتب المقالة "عاموس هرئيل" إلى أن وزير الدفاع شاؤول موفاز تبنى نفس الفكرة في خطاب ألقاه في مؤتمر عقد بهرتسليا.
من ناحية أخرى فإننا نعرف جيدا ما الذي سيفعله الأمريكيون في العام الجديد. فالإعداد للغزو جار على قدم وساق، ومبادرة كولن باول حول "الإصلاحات الديمقراطية" المطلوبة في المنطقة ليست بعيدة عن أذهاننا، كذلك كلام مستشارة الأمن القومي السيدة كوندوليزا رايس عن التغيرات المرتجاة التي أشهر منها على الملأ حتى الآن ما يخص أفغانستان وفلسطين والعراق. الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في الكلام عن تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها بمواصفات جديدة ليس مبالغا فيها، لذلك فبوسعنا أن نرجح بأن ثمة مولودا جديدا قادما الحمل فيه ليس كاذبا وأن تسميته مؤجلة إلى حين.
(3)
لست واثقا تماما من أن "عام القهر" هو أكثر العناوين ملاءمة لتسمية العام المنصرم في القراءة العربية والإسلامية له. لكني أعترف بأنني لم أقتنع بغيره، وسأكون شاكرا لو أن أحدا عثر على عنوان آخر أوفى. ولا أريد أن نستدرج إلى خلاف يستهلك طاقتنا حول التسمية، لأن الأهم منها هو تحرير الحالة التي نتحدث عنها. لذلك سأشرح العوامل والعناصر التي استندت إليها في توصيفها. وهو التوصيف الذي دعاني إلى الانحياز إلى تسميته بعام القهر.
لقد وجدت أن أهم اللاعبين في ساحة الشرق الأوسط الآن هما الولايات المتحدة وإسرائيل، بعدما تراجع الدور الأوروبي نسبيا، وانهار الاتحاد السوفياتي، وأصبحت روسيا رهينة الإغراء والابتزاز الأمريكيين، والتزمت الصين الصمت والحذر في حين حرصت على عدم تعكير صفو علاقاتها أو مصالحها مع الأمريكان.
لذلك توصلت إلى قناعة مفادها أن الولايات المتحدة استفردت بالعرب والمسلمين، في حين استفردت إسرائيل بالفلسطينيين. وكل من الطرفين اختار في العام الماضي أن يحقق أهدافه دون مراعاة لأي اعتبار. وفي استباحة غير مسبوقة لمختلف القيم المتعارف عليها في العلاقات الدولية، حتى خطر لي أن أسميه عام "الاستباحة" حيث لا أعرف مرحلة في العصر الحديث أهدرت فيها قيم القانون والأخلاق والسيادة كتلك التي شهدناها في العام المنصرم.
(4)
هذا المنطوق تؤيده عندي الشواهد التالية:
فيما يتعلق بالولايات المتحدة فإنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ثم اختفاء الطرف الآخر الرادع أو الكابح والحافظ للتوازن الدولي في مواجهة ثقل الولايات المتحدة. استشعرت واشنطن أنها مطلقة اليد في إدارة شؤون العالم. الأمر الذي هيأ مناخا مواتيا لإطلاق دعوات توسيع نطاق الهيمنة وبسط السلطان، وتقسيم العالم إلى أخيار وأشرار وأصدقاء ومارقين...، في ضوء درجة الامتثال والانصياع للإدارة الأمريكية.
وهو ما تجلى على نحو أكثر وضوحا في عهد الرئيس بوش الإبن، وهيمنه التيار الأصولي المسيحي، المتحالف مع إسرائيل، والذي تستحوذ على فكرة التطلعات الإمبراطورية، التي تليق بمكانة وسلطان أعظم قوة في الأرض وأقواها في التاريخ. هذا التيار أصبح نافذا ومؤثرا في مركز القرار، إلى درجة رجحت كفته وعززت مواقفه، خصوصا بعد ما جرى في 11شتنبر، الأمر الذي أشاع بين الأمريكيين شعورا بانعدام الأمن، واقتناعا بأهمية دور "شرطي العالم" الذي تقوم به الولايات المتحدة.
وقد تجمعت ظروف كثيرة رشحت الشرق الأوسط ليكون مسرحا لإشباع التطلعات الإمبراطورية. منها مثلا أنه يعد قلب العالم الإسلامي الذي صور بحسبانه عدوا يتحدى الإرادة الأمريكية، ومنها أن "الإرهابيين" الذين قاموا بهجومات 11 شتنبر قادمون من تلك المنطقة. منها أيضا أنها حيوية اقتصاديا بحكم وجود منابع للنفط فيها، ناهيك عن حيويتها الوجودية بالنسبة لإسرائيل.
منها كذلك أنها منطقة رخوة وسهلة، وبوسع الأمريكيين أن يحققوا فيها انتصارات سهلة أو مجانية. منها أخيرا أن في المنطقة من أصبح يفتح ذراعيه مرحبا بكل ما يصدر عن واشنطن ومستعدا لاحتماله وتسويغه (علمنا أخيرا بأن ثمة معسكرا للاعتقال تابعا للمخابرات المركزية في إحدى الدول العربية).
هذه الخلفية شجعت الجهات المعنية في واشنطن على أن تتعامل مع المنطقة بأسلوب هو خليط من الجرأة والخفة والازدراء. بحيث صار سهلا أن تقرر واشنطن اجتياح العراق بغير سبب مقنع، ولا يتردد صوت في الكونجرس في أن يقترح تكملة المشوار وإسقاط نظام طهران بالمرة.
وأصبح ميسوراً أن ترتفع الأصوات هناك داعية إلى تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها مرة أخرى، تبعاً لمقتضيات المصالح الأمريكية، بزعم أن الخرائط الحالية رسمتها المصالح البريطانية والفرنسية في "سايكس بيكو" (عام 1916م)، وللعالم الجديد متطلبات جديدة تستدعي وضع خرائط جديدة. وأصبح بمقدور الولايات المتحدة أن تقتل أي عنصر تقرر خطورته في أي مكان بالكرة الأرضية، دون محاكمة ودون اعتبار لمسألة سيادة الدول الأخرى (كما حدث في اليمن).
كما أصبح جائزاً أن تعلن الإدارة الأمريكية أن ثمة قائمة تضم 35 شخصاً من غير الأمريكيين سيتم اغتيالهم حيثما وجدوا. وقرأنا أن فرقة اغتيالات أمريكية وصلت إلى لندن في بداية جولة لهذا الغرض. وصار ممكناً أن توجه الولايات المتحدة ضربات لأي مكان أو جماعة في أي مكان بالكرة الأرضية تعتبره مصدراً للخطر، باسم الاستباق والإجهاض. وهو ما لوحت به أيضاً أستراليا أخيراً.
وأصبح مسوغاً أن يبعث العراق بتقريره عن موضوع أسلحة الدمار الشامل، فيسطوا الأمريكان ويخطفونها ثم يقولون أنهم لن يفعلوها مرة ثانية(!) وصار عاديا أن تسوغ الإدارة الأمريكية المذابح الإسرائيلية بحجة الدفاع عن النفس، وأن تستخدم "الفيتو" في مجلس الأمن لمنع إدانة لأي جريمة ترتكبها إسرائيل.
لم أتحدث عما جرى للذين ألقي القبض عليهم وأرسلوا إلى "غوانتانامو" لكي يدمروا هناك دون أن توجه إليهم أي تهم. ولا عن الذين يحتجزون ثم يحرمون من أي حقوق قررها القانون الأمريكي ذاته، ولا عن الآلاف الذين في المطارات، وأقرانهم الذين يساقون الآن بالآلاف في داخل الولايات المتحدة لتصويرهم وأخذ بصماتهم، وجريمتهم الوحيدة أنهم عرب ومسلمون.
(5)
إنهم يتصرفون في واشنطن وكأن العرب والمسلمين إنس من الدرجة الثانية. وكأن العالم العربي والإسلامي منطقة مستباحة، يستطيعون أن يفعلوا فيها وبها أي شيء. فيطالبون بتغيير السلطة الفلسطينية، وتغيير مناهج التعليم ومن ثم العقول، وتغيير الخرائط وقلب بعض الأنظمة، بل ويصدرون قراراً باسم "سلام السودان" يعاقبون بمقتضاه حكومة الخرطوم إن هي تراخت في الاتفاق مع المتمردين، ويكافئون المتمردين لأنهم يتحدون حكومة الخرطوم.
إنهم يقولون بمنتهى الصراحة أن طلبات واشنطن أوامرها إن شئت الدقة إذا لم تنفذ، فستتدخل هي من جانبها لكي تباشر التنفيذ.
ويدعون عملياً إلى إعادة مفهوم الأمة/الدولة، بحيث يجرد من فكرة السيادة، فيما يتعلق بالمجتمعات الأخرى بطبيعة الحال. بمعنى أن يتجرد الجميع من السيادة باستثناء الدولة الإمبراطورية، التي هي سيدة نفسها وسيدة الجميع. وهو ما تجلى في رفض الإدارة الأمريكية فكرة قيام قانون دولي ومحكمة جنائية دولية أو التوصل إلى معاهدات ملزمة في شأن البيئة.
أحدث لقطة في مسلسل القهر والازدراء الأمريكي، كانت ذلك القرار الذي صدر في السادس من الشهر الجاري بتعيين إيليوت أبرامز مستشاراً خاصا للرئيس بوش لشؤون الشرق الأوسط، وهو اليهودي الصهيوني المتعصب الذي له كتابات منشورة يرى فيها أن القوة العسكرية وحدها هي اللغة التي يفهمها العرب، وشارون هو الرجل المثالي للتعامل مع الفلسطينيين. ناهيك عن أنه معروف باحتقاره الشديد لكل ما يتعلق بالشرعية الدولية. وكانت محكمة أمريكية قد جرمته في تهمتين تتعلقان بالكذب على الكونجرس في فضيحة إيران كونترا.
قرأت مقالة كتبتها عنه السيدة هيلينا كوبان، البريطانية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، وصفت فيه هذه الخطوة بأنها "انقلاب" و"نبأ مذهل" وتعكس صورة ل "واشنطن جديدة تختلف تماماً عما كانت عليه قبل عام 2001" وإنه بمثابة إعداد "للمحاولة الليكودية المحتملة لإعادة تركيب الشرق الأوسط (الحياة اللندنية 24/12).
وضعت الصورة أمام الدكتور كمال أبو المجد المثقف البارز والخبير القانوني الدولي، إذ قلت إن السلوك الأمريكي إزاء العالم العربي والإسلامي أهدر على مدار العام ثلاث قيم أساسية هي: السيادة والقانون والأخلاق. فكان رأيه أن الساحة الدولية خلت الآن من سلطة موازية تحد من تغول السلطة الأمريكية، الأمر الذي أوقع الولايات المتحدة في محظور الاستسلام لغرور القوة، وأضفى نسبية على مختلف ثوابت الحضارة الإنسانية، والسيادة والقانون والأخلاق في مقدمتها. ولذلك فلا مفر من القول بأن العلاقات الدولية تمر بمنعطف خطر، يهدد بإشاعة الفوضى في العالم، لأنه إذا ترك الأمر لأهواء الأقوياء، فإن العالم سيتحول إلى غابة كبيرة بدلاً من قرية صغيرة كما يقال.
(6)
القهر الإسرائيلي للشعب الفلسطيني ذهب بدوره إلى مدى تجاوز كل الحدود. وهو ما تجلى في حصار وإذلال الرئيس عرفات وفي التدمير المجنون لكل ما بنته السلطة وكل المرافق والخدمات، بعد إعادة احتلال الضفة بالكامل.
كما أنه تجلى في المذابح والاغتيالات اليومية التي لم يسلم منها الأطفال الرضع والشيوخ، وفي هدم البيوت على أصحابها، وفي حصار التجويع وعمليات القتل البطيء التي تعرض لها نزلاء المستشفيات وغيرهم من المرضى والمصابين. تجلى ذلك القهر أيضا في الإطاحة بكل الاتفاقات التي تم التوصل إليها، والإصرار على إقصاء الرئيس عرفات من منصبه وإعادة تشكيل السلطة على نحو يتفق مع الهوى الإسرائيلي أولاً، والأمريكي ثانياً.
ذلك كله تم بوتيرة واحدة على مدار العام، الأمر الذي يجعلني أرى القهر في كل إجراء اتخذ وفي كل جريمة ارتكبت، وفي التأييد الأمريكي الدائم لكل ما جرى.
يبقى بعد ذلك أمران، الأول أن ذلك القدر من التجبر والاستقواء ما كان له أن يحدث لولا إدراكهم بأن الطريق مفتوح وأن العتو ليس له ما يصده أو يوقفه عند حده. أما الأمر الثاني فهو أننا لا نملك إلا خياراً واحداً في مواجهة ذلك الإعصار الذي ضرب عالمنا في العام المنقضي، ويتأهب لمزيد من الضرب في العام الجديد، هذا الخيار تلخصه كلمة واحدة هي: المقاومة.
طوبى للشرفاء الذين يقفون على طول جبهة المقاومة، فهم أملنا الوحيد والأخير!
بقلم: فهمي هويدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.