التمس صاحبنا طريقا يقربه إلى الناس، لقد كان محبوبا داخل أسرته، معروفا بالصبر وخدمة الناس في قريته، غير أنه لما دخل عالم المال تحركت نوازع الحقد فيه، فصار ينظر إلى الناس في المدينة بنظرة الازدراء والسخرية، لقد كانوا يستهزئون من منظره وشعره الأشعث في الأيام الغوابر حين كان يزور مدينة طنجة عقب كل موسم جني الزيتون. كان مستشاروه والمقربون منه ينصحونه بتغيير طبائعه الجديدة، فنزعات التعالي، والحواجز الكبيرة التي يضعها لا تنفع في عالم السياسة. مطلوب منه أن يكون بشوشا يبادر إلى السلام، ويتجول في الأزقة الهامشية، ويزور أحزمة الفقر، فالناس هناك يقبلون على الأعيان والوجهاء، وسرعان ما ينسون، ففطرتهم مجبولة على حب الناس ولو كان بعضهم موغلا في امتصاص دمائهم، واستغلال عواطفهم ومشاعرهم. لم يكن الأمر صعبا بالنسبة إلى صاحبنا، فقد عرضت عليه أحزاب كثيرة أن يكون على رأس لائحتها يمينا ويسارا ووسطا، والرجل لا يخبر توجهاتها وتقاريرها المذهبية، غير أنه يتمتع بكثير من الحكمة. كان إذا حزبه أمر أرسل يطلب مستشاريه لعلهم يفكوا عقدته. كان يقول لهم: - قولوا لي أشنو هو الحزب اللي تايعرفوه الناس، وما عندهم معاه مشكل؟ كان المستشارون يقترحون عليه أن يتخير كيف يشاء، وأن يتخذ موقعه ضمن حزب لا يبرح التشكيلة الحكومية. كان أمناء بعض الأحزاب ورؤساؤها يهاتفونه كثيرا ويغازلونه، ويقترحون عليه أن يشرف مواقع الحزب، وأن يكون دما جديدا يحقن في شريان الحزب،....،....، كانت كلماتهم جميلة جدا تدخل النشوة في قلبه، لكنه لم يكن يستوعب كثيرا من مفراداتهم السياسية!! اختار الرجل الحزب، والتمس من مستشاريه والمقربين منه أن يرسموا له خطة حملته الانتخابية. دخلت اللجنة في لقاء مغلق، وأدير الكلام بسرية تامة، وبعدها رفع الاقتراح المهم إلى جناب السيد النائب: - حملتك آسيدي طالعة بمليار سنتيم، وأنت طالع بالفور يا الشيفور!! - مستعد أن أعطي اثنين، بشرط أن أحصل من خلال البرلمان على كل الامتيازات التي تحدثم لي عليها!! انطلقت الحملة الانتخابية، يحركها المال وجماهير غفيرة من النساء الأميات يرتدن البيوت، وشباب لم يعرف عليه ميول للسياسة وأحزابها. لقد قادهم المال والقرب من الرجل إلى هذا المآل. يحدثك الواحد منهم بصدق كبير: - والله ما عمرنا فرشخنا الدجاج حتى جا هذا الرجل!!! وينطق آخر بسذاجة كبيرة: - أصاحبي هذا الرجل كيعطي بلا حساب!! كانت الحملة الانتخابية تجري في منافسة شديدة وشرسة بين أصحاب المال، وكانت سنن الطبيعة تقتضي أن يفوز الذي يعطي أكثر. كان صاحبنا ينظر إلى المعركة بجدية كبيرة، فهو لا يصارع من أجل الفوز بمقعد برلماني فقط، وإنما يصارع نزعات التمدن، ويصارع برصيد حقده واقع المدينة الذي كان يلفظه أيام الفقر، إنه يعاند أصحاب المال الذين يحتقرون أصله وجهله وأميته وتطاوله على عالم التجارة والمال. لم يكن صاحبنا يتردد في العطاء السخي، كان يقول بتحد كبير: - شوفو إيلا شفتوهم غادي يربحوني، غير قولوها ليا وما تخافوش، راني نحرق فلوسي كاملين عليهم وما يربحونيش!! نجح صاحبنا وحاز مقعده، وصار الوجه البارز في المدينة ، المقرب من أصحاب الحال، الذي يقضي مصالحه ومآربه بمجاملات خفيفة على الهاتف المحمول، يتطاول على الملك العام، يحوز المناطق الخضراء، يغير في التصاميم، يستحوذ على الصفقات ، ويتحكم في ماء المدينة ومرعاها!!. مرت سنتان على الانتخابات، وبدأ التفكير في التعديل الحكومي، ونشب الصراع المحموم داخل الأحزاب، وحرك صاحبنا الصحفيين المقربين من دائرته، فصاروا يعلنون الحرب على الوزراء المنتمين إلى حزبه، وكل الطاقات الأخرى المرشحة للوزارة، ممن يمكن أن ينافسوه على مقعد وزاري. يذكرون فضائحهم، وسوء تدبيرهم، وأخبارهم الشخصية خاصة منها المتصلة بعالم المال. لم يتردد صاحبنا في إثارة عناصر في الحزب لمناقشة القيادة المركزية في شأن الأشخاص الأكفاء المؤهلين للمنصب الوزاري، فالمطلوب أن يكون الاسم المقترح مشرفا للحزب، قادرا على الاضطلاع بمهامه. لكن صاحبنا لما رأى السوق وقوانينها، صار يلمس في نفسه الأهلية لهذا المنصب، فما الذي يميز الآخرين عنه، وما هي المؤهلات التي يمتلكونها ولا توجد عنده؟ صراع محموم داخل هياكل الحزب وعلى صفحات الجرائد، وتصفيات حساب تجري بدم بارد، لكن في نهاية المطاف، لم ينجح مسعى صاحبنا في الوصول إلى ما يريد، فالوزارة تخضع لمعايير أخرى لم يفقه صاحبنا منطقها حين كان يحرك خيوط اللعبة بمهارة. في نهاية المشوار، قرر صاحبنا أن يستقيل من الحزب محدثا زوبعة إعلامية كبيرة. وعلى جناح السرعة نزلت على مكتبه خمس فاكسات موقعة من طرف خمس رؤساء أحزاب: - مرحبا بك مناضلا في صفوف حزبنا!!! كان الرجل حائرا تماما، لعله يفكر بجد في الانضمام إلى حزب قادر على قيادة الحكومة، لكنه لن يقبل الانضمام إليه حتى يتفاوض على قضية التوزير، فربما يصير وزيرا، إذ لا ينقصه سوى ديوان فيه خبراء ومستشارون، ولا ينقصه سوى بذلات راقية وتسريحة شعر وجمال منظر أمام التلفزيون!!!