إلى تلك المدينة الجميلة ، ذات الطابع الجبلي، كل شيء يشدك إلى زيارتها : جمال الطبيعة وصدق الرجال .دمنات الجبل ودمنات التجربة.كان الكل ينتظر عبد الحي . كان بلحاضي يهاتفه ويقول : - أنت تعرف أني المشرف على معرض الكتاب ، وأنت كلفت بإحضار الكتب من الدارالبيضاء . عليك أن تختار بعناية ولا تنس الفواتير . كان بلحاضي معروفا بالدقة ، في مواعيده وكلامه وحتى في تربيته لعياله . كان عبد الحي معجبا بالرجل إلى درجة أنه اتخذه خليلا يفضي إليه في أحوال السر والعلن . أما أحمد لنداني ، فقد كان مشرفا على المحاضرات التي ستلقى في الأسبوع الثقافي الأول في المدينة في شهر رمضان . كان معروفا بصدقه ونبله وكياسته وحسن تصرفه . كان محبوبا من الجميع. كانت تربطه بعبد الحي علاقة الأبوة والمشيخة . كان لنداني الأب ، وعبد الحي الشيخ . علاقة لا يفهمها الناس !! كان لنداني يطلب من ولده وشيخه أن يربط له الاتصال ببعض المحاضرين . كان الكل يريد أن يبني في المدينة عملا دعويا ناجحا . فقط عبد الحي وصالح الطاهر وبلحاضي هم الذين كان لهم حظ من التجربة . ولكن الكل كان يتحرك بصدق وعاطفة شديدة . وصاحبنا عبد الحي كان مضغوطا بكل هذه الالتزامات ، وفوق ذلك كانت الرغبة في إحياء المدينة وتحريك معادن الرجال تدفع للعمل بكل قوة وجدية . كان يؤلمه أن يرى والده في وضعية صحية خطيرة ، ولكنه كان يدافع الزمن ويصبر على أحواله. صباح يوم الأحد ، أحضر عبد الحي الكتب كاملة ، شحن بها الحافلة المتوجهة نحو دمنات ، وهاتف بلحاضي : -ستصل الحافلة على الساعة الخامسة مساء . ستجد على متنها الكتب . القائمة هناك وطبعا الفواتير . اجتهد ونظم كل شيء ، سأكون بحول الله هناك عند منتصف الليل . أجدك في بيتي. انتهى عبد الحي من مهمة الكتب ، التفت إلى والده الذي كان يركب إلى جانبه في السيارة فوجده يحملق ذات اليمين وذات الشمال . كان ينظر إلى جميع أركان المدينة بتركيز شديد . حرك عبد الحي سيارته ، وظل يطوف بوالده دروب المدينة وأحيائها ، ثم رجع إلى البيت . شعر والده ببرد شديد ، أدخله عبد الحي إلى حجرته والتمس له غطاء دافئا ، وتركه لبغض الوقت يستريح . موعد الرحيل أزف . عبد الحي لا يريد أن يفارق أباه ، ولكن تصاريف الزمن تلزمه بالالتحاق بعمله . قطع عبد الحي مسافة سبعمائة كيلومترا وقلبه يعتصر ألما على صحة أبيه المتهالكة والمشاعر المتناقضة تختلج في صدره . هو مهموم بوالده ولكنه مشغول بالدعوة في مدينة جميلة. وصل عبد الحي في وقت متأخر من الليل . وجد خليله عبد الله وصالح في بيته . وجدهما في جهاد كبير . لقد أخرجا كل الكتب ، ونظما المعرض وضبطا الأثمنة . كان يرافقهما أوفصالت الدمناتي القح صاحب الصدر الواسع والمحيا الباسم . في الصباح التحق عبد الحي إلى الفصل ، كان يدرس بطريقته الحديثة بكل نشاط ، يتحاور مع تلامذته كأنهم أصدقاؤه ، وهو يتم آخر فقرات الدرس في الحصة الأخيرة ، وقف عليه السيد المدير : -اسمع يا ولدي .. سيارتك على ما يرام ؟ -نعم . -نمت الليلة جيدا . -نعم ما الأمر ؟ -إنا لله وإنا إليه راجعون !! سمع عبد الحي هذه العبارة ، وبدا الشلل يدب في ركبتيه حتى خيل للمدير أن الرجل ساقط لا محالة . لكن عبد الحي تماسك . سلم على المدير وانصرف إلى بيته . هناك ، وجد صالح وعبد الله ولنداني وأوفصالت وابراهيم الشاوني منهمكين في ترتيب الكتب . همس إليهم بصوت خافت فيه بعض الأمر : - سي عبد الله أنت مكلف بأحوال المعرض ، ولنداني يتولى الإشراف على المحاضرات والندوات ، والسي إبراهيم يشرف على الأمسية والسي صالح يتولى مهمة التنسيق واليقظة . تدخل السي عبد الله بفكاهته المعهودة : وماذا تفعل أنت يا عبد الحي ؟ أجابه عبد الحي بحزن عميق : - سأبقى معكم إلى حدود الثانية زوالا ، أريد أن يقوم الكل بواجبه . والدي توفى ، ولكن العمل ينبغي أن يبقى حيا . رفع الإخوة أيديهم عن الكتب ، وبادروا إلى عناق السيد عبد الحي وعزوه في وفاة والده ، ونزل بالبيت حزن عميق كاد يخيم على كل الأرجاء لولا صرامة عبد الحي التي ألجأت كل الإخوة إلى الانصراف إلى عملهم . سافر عبد الحي ، وصل إلى بيت العزاء ، هو لم يدرك جنازة أبيه ، لأنه دفن عصرا ، وهيهات يدركه والمسافة عشرة ساعات . في المدينة التقى بعائلته التي اجتمعت ، تبادلوا العزاء . وفي المساء استدعى عبد الحي أصدقاء والده ومحبيه ، وأقام ليلة العزاء . كان السيد عبد الحي يقول: -إذا انتهى العزاء ، ينبغي أن يبدأ العمل ! كان الإخوة في يظنون أن صاحبهم سيبقى في مدينة العزاء على الأقل ثلاثة أيام . لكن عبد الحي لم يسعفه الهم الساكن بين جوانحه حتى رآه الإخوة بين أيديهم في دمنات التي أحبها وأخلص لها .لقد كان يقول دائما : إن بدمنات رجالا !! بلال التليدي