عادة ما يرسم خطاب العرش الخطوط الكبرى والتوجهات المستقبلية للسياسة العامة بالبلد، بيد أن حديث الملك عن هذه الأولويات لا يخلو من تقييم للأداء الحكومي، وبموازاة ذلك يدفع تركيز الملك على قضايا بعينها إلى فهم توجهات الدولة إزاء التطورات الحاصلة، وهنا يمكن التوقف عند ثلاث عناصر كبرى، الأولى تهم الثوابت الكبرى للبلد، والثانية رؤيته لتطور وآفاق العمل الحكومي بعد مرور ما يناهز السنة على الحكومة الجديدة، أما الثالثة فتخص وضعية الديموقراطية بالبلد ورهانات الإصلاح. على مستوى العنصر الأول والذي يهم ثوابت مفصلية في الوضع العام للبلاد فإن الخطاب كان واضحا في الدعوة لتوطيد المكانة المركزية لمؤسسة الأسرة، والتشبت بالقيم الدينية والثقافية القائمة على الاعتدال والوسطية، وهو موقف صريح في مواجهة كافة نزوعات التطرف الديني والثقافي، وهو موقف غاب عن كثيرين اعتبروا أن مواجهة التطرف الديني بعد توسيع دائرة المنخرطين فيه يمر بتغذية كافة أنواع التطرف الثقافي والاستثمار فيها، مما أخذنا نرى نتائجه في لجوء البعض للخارج وصدور تصريحات ومواقف استفزازية تهدد تماسك النسيج الاجتماعي الوطني. أيضا نجد الحيز الذي خصصه الخطاب لقضية الصحراء والعلاقات مع الجزائر دالا على توجه ثابت عند الدولة، قائم على الرهان على الشعوب ومد اليد والصراحة في الإعلان عن الموقف، وهو المسار الذي نهجه المغرب في الثلاث سنوات الأخيرة وكانت له آثار جلية على امتصاص جزء كبير من الضغط الخارجي، ولعل في رد الفعل العنيف من لدن بعض الصحافة الجزائرية على الخطاب تعبير عن مدى فعالية هذه السياسة البعيدة المدى. أما على صعيد العنصر الثاني، والخاص بقضية الأداء الحكومي، فقد كان لافتا حالة التركيز على ثقل المسألة الاجتماعية في علاقتها بالوضع السياسي والاقتصادي بالبلاد، والدعوة لمواجهة تحديات ارتفاع كلفة الطاقة وندرة الماء وكلاهما عامل بنيوي سلبي لنمو الاقتصاد الوطني، إلا أن المثير أن الخطاب لم يتطرق لموضوع إصلاح صندوق المقاصة رغم الاشتغال الحكومي المكثف عليه. في هذا الصدد ميز الخطاب الملكي في المشاريع الحكومية ذات الأولوية بين ما يتطلب الدعم، وما يتطلب ابتداء بلورة مشروع للإصلاح، إذ التمايز بدا واضحا مثلا بين قطاعي التعليم وقطاع العدل اللذين يشترطان في تقدير الملك السياسي في كونهما يتربعان صدارة الأولويات في مشروع الإصلاح، ففي قطاع التعليم أشار الملك إلى البرنامج الاستعجالي، بل طالب الجميع هيئات ومنظمات وفاعلين أن ينخرطوا فيه وأن يدعموه على اعتبار أنها فرصة لا ينبغي أن تفوت على المغرب، ونفس الملاحظة بخصوص الفلاحة، بينما كانت اللغة مختلفة بخصوص قطاع العدل إذ دعا الحكومة إلى الانكباب على بلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء ينبثق عن حوار مفتوح مع كل الفاعلين المؤهلين والمعنيين بهذا الورش على اعتبار أن إصلاح قضاء العدل صار ضروريا ليس باعتبار رد الحقوق ورفع المظالم فقط ولكن باعتبار الدور الذي يقوم به في توفير مناخ الثقة والأمن القضائي كمحفزين للاستثمار والتنمية، مع العلم أن موضوعي التعليم والقضاء كان في مقدمة القطاعات التي انتقدت في خطاب العرش لسنة ,2007 وبعد سنة يبدو أن قطاع إصلاح العدل لم يبارح بعد مكانه. وحول قضية الديموقراطية نجد خطاب العرش ذهب لحسم جدالات إعلامية وحزبية علنية كانت أو سرية، بتأكيد الخطاب على أن الملك هو ملك جميع المغاربة على اختلاف مكوناتهم، وهي الأخرى رسالة لمن ينظرون في الوافد الجديد مدخلا لقرب جديد من المؤسسة الملكية أو ينظرون لصداقة معها على أنها تعبير عن انحياز سياسي لهذا الطرف أو ذاك، فمن يراهن على ذلك هو واهم، وفي المقابل ينبغي تقديرها بما تجسده من تفاعل مع حركية الحياة السياسية بالبلاد، فهي رسالة إلى الأحزاب السياسية للتعامل مع هذا المكون الجديد باعتباره كبقية مكونات الفعل السياسي، وأن يتحرروا في تعاملهم السياسي مع هذا المكون الجديد من عقدة قرب قائده من المؤسسة الملكية، ويضاف لذلك ما طرح حول الانتخابات، إذ أن الحديث عن انتظام الاستحقاقات الانتخابية في أوقاتها، وتكريس شفافيتها، وانبثاق الحكومة منها، والتأكيد على وجود بعض الفجوات في الاستحقاقات والدعوة إلى تبلور أقطاب سياسية متجانسة، والحاجة لأحزاب قوية كل ذلك محاور قائمة في الإصلاح السياسي، تدل على معرفة بمحاور الإصلاح المطلوب لضمان انطلاق حقيقي للديموقراطية، وهي الأوراش التي نعتقد أن حصيلتها لم ترق إلى مستوى الانتظارات بفعل الفجوات التي عرفتها.