تطالعك الصحف والمواقع الفرنسية في كل يوم بمقالات تحليلية نقدية لأحداث بعضها ملتقط من الصحفي نفسه، وبعضها منسوب إلى الموقع الفلاني أو الزميل الفلاني، حيث الجسم الصحفي منيع ومتماسك، وكل موقع إعلامي يعمل في حدود أنساقه التحريرية المختلفة، ومن دون تصادم مع المواقع الأخرى، على صناعة خط تحريري متميز يمثله ويعكس وجهة نظره، كما يوفر للقارئ قدرا من الإطلاع والمعرفة بما يدور حوله من وقائع وأحداث. ضالة الصحفيين إذن، هي خلق فضاء سليم متحرر يستوعب أحلام القارئ من خلال الانفتاح والتفاعل مع قضاياه وانشغالاته اليومية، دونما قيود رقابية يمارسها موقع على آخر أو تهجمات ساقطة أصبحت اليوم، وللأسف، مألوفة في مشهدنا الإعلامي وخاصة لدى بعض المواقع والصحف التي لم تتحرر بعد من سلطة المرجعيات الإيديولوجية والحزبية. تحاول بعض هذه المواقع التي وفرت لها هامشا كافيا من تزوير الوعي وشرعنة السلطة الإيديولوجية الأحادية، الإنابة عن المخزن لمراقبة المواقع الأخرى وخاصة المستقلة، وتسطير خطوط حمراء لا يحق تجاوزها حتى لا ينزعج الزعيم الفلاني والنائب الفلاني والمسئول الفلاني… ومن هنا ضاقت بعض الصحف والمواقع ذات مرجعيات إيديولوجية أو سياسية مشبوهة، بل تذمرت من ظهور مواقع صحفية جدية تحررت دفعة واحدة من أنماط الكتابة التمجيدية، وأسست لنفسها نوافذ اجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة اتخذ فيها التفاعل مع القراء مسارا تصاعديا. ومن نتائج هذا التذمر أن اختارت ممارسة سلطة الرقيب على المنابر الجدية المسئولة مع محاولة إجهاض حرية التعبير والإطاحة بوظيفة الإعلامي في تثقيف وتنوير الرأي العام. خصوصية تهجم بعض المواقع على بعضها بوازع المرجعية الحزبية أو الإيديولوجية، ظاهرة بقدر ما هي فريدة من نوعها في المشهد الإعلامي الوطني، فهي تزكي الآراء القائلة بأنه مع حلول مواقع جدية تمارس النقد الحقيقي البناء وتنفض الغبار عن الطابوهات، لا يصدها تقليد أو عرف سياسي، فإن المواقع المكسوة برداء المنشورات السياسية والمسكونة بهاجس الاحتكار الإعلامي الناقم بشكل مجاني على المنابر الأخرى، ستبحث في القريب العاجل عن مأوى في الفضاء الإعلامي فلن تجد سوى الإهمال ورشقات النقد تلاحقها ليس من زميلاتها بل من القارئ الذي حسم موقفه منها. صحيح أن بعض المنابر لا تفهم منطق التعامل إلا من منظور رؤية إعلامية أحادية، وصحيح أيضا أنها تذمرت من عزوف القراء وتراجع الإقبال عليها، وهو أمر تتفهمه المنابر الجدية المستقلة ولا تملك سوى أن تدعو لها بمصالحة مع القراء، ولكن أن تلعب دور الرقيب وترسم الخطوط الحمراء وتذهب إلى حد استخدام الكلمات النابية والتجريحية، فهو أمر لن يسهم سوى في تأجيج الخلاف وزرع الشقاق والتوتر في المشهد الإعلامي بشكل عام. فوظيفة الإعلامي في النقد هي ممارسة الشفافية والتحرر من سطوة المرجعيات الإيديولوجية من خلال التصدي لكل الممارسات الممقوتة تحت أي عنوان وتحت أية لافتة سياسية. كما أن رفض الآخر يؤدي في نهاية المطاف إلى تفشي ثقافة الموت والتصادم، باعتبار أن الرأي لا تكتمل حقيقته إلا في التفاعل مع الرأي الآخر، والعلاقة بين الصحيفة والأخرى والموقع والآخر هي علاقة تحاور وتكامل وليست علاقة رقابة وفتاوى في الخطوط التحريرية. ولست فقيها لأدعو إلى ترجيح التسامح على التعصب وتحويل نقط الخلاف إلى مادة للتحاور، ولكن ما يجب قوله وإعادة قوله، هو أن المواقع الجادة أسست لها اليوم مساحة تلتقي عليها كل المكونات، جاعلة من التنوع مصدر إثراء وتراكم يلغي المنحى الإيديولوجي ويرفض لونا واحدا من الثقافة، وهو توجه أكسب لها النجاح لأنه يرتكز على منطق النسبية في الوصول إلى الحقيقة، فلكل فهمه ورؤيته ومن حقه التعبير عنهما دونما تهجم أو تجريح أو سلطة فوقية تضرب بعمق الأخلاق والمواثيق المتعارف عليها في مجال الإعلام والاتصال.