المغرب ومالاوي عازمان على تعزيز شراكتهما الثنائية في قطاعات رئيسية    قطاع صناعة السيارات.. شركة هولندية تختار طنجة للاستثمار    المنتخب الوطني المغربي يتراجع إلى المركز 12 عالميا ويحافظ على الصدراة قاريا وعربيا    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    استئنافية الحسيمة ترفع عقوبة سيدة متهمة باستدراج قاصرات لممارسة الدعارة    أمن طنجة يوقف شابًا متلبسًا بحيازة أقراص مهلوسة بمحطة القطار    دولة المؤسسات لا دولة الشارع والساحات.. دولة المبادرات لا دولة التباكي والتحريض على المنصات    قيوح: تحت قيادة جلالة الملك المغرب جعل من الربط والاندماج القاري خيارا استراتيجيا    شباب أمازيغ يعلّقون مشاركتهم في دينامية "جيل زد" احتجاجا على تصريحات مسيئة للهوية الأمازيغية    حاتم عمور يلتقي جمهوره في أمسية فنية بالدار البيضاء    المانوزي يعلن الترشح لخلافة لشكر وينتظر التراجع عن التمديد لولاية رابعة    "كاف" يحسم الجدل بتعيين الكونغولي أوليفييه سفاري كابيني رئيساً للجنة الحكام خلفاً لدوي نومانديز    احتجاجا على سياسات ترامب.. توقع خروج الملايين للتظاهر في عدة مدن أمريكية تلبية لدعوة حركة "لا ملوك"    الكاف: "تأهل المغرب إلى نهائي مونديال الشباب انتصار رمزي وتاريخي"    سالم الدوسري يُتوج بجائزة أفضل لاعب في آسيا لسنة 2025    توقيع اتفاقيات شراكة تستهدف هيكلة منظومة وطنية للهندسة الصناعية    الذهب يتجاوز 4300 دولار ويتجه لتحقيق أفضل مكاسب أسبوعية في 17 عاما    بورصة البيضاء تبدأ اليوم بصعود طفيف    الأمم المتحدة: 80 في المائة من فقراء العالم معرضون لمخاطر مناخية    المتصرفون التربويون: قرارات الوزارة "متناقضة ومتخبطة" والرؤية غائبة    اليوم في قمة افتتاح مونديال الفتيات.. المغرب يواجه البرازيل بالرباط    انفجار قنبلة أمام منزل أحد كبار الصحافيين الاستقصائيين في إيطاليا    مستشار ترامب: واشنطن تقترب من افتتاح قنصليتها في الصحراء المغربية... والملف يسير نحو نهايته    ألمانيا تجيز استخدام الشرطة للصواعق الكهربائية في جميع أنحاء البلاد    طنجة البالية: توقيف 3 قاصرين تورطوا في رشق الحجارة قرب مؤسسة تعليمية    كيوسك الجمعة | الداخلية تسرع ورش رقمنة خدمات الماء والكهرباء    وهبي والمنصوري يتفقان على إعادة تأهيل سوق "جنان الجامع" بتارودانت بعد الحريق    أستراليا تفرض أول حد أدنى لعمر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي    مغربيان ضمن المتوجين بجائزة كتارا للرواية العربية    وفاة والدة الفنانة لطيفة رأفت بعد معاناة مع المرض    الفلبين: زلزال بقوة 6,1 درجة يضرب جنوب البلاد    صندوق النقد الدولي يرفع توقعاته للنمو في آسيا رغم التوترات التجارية الصينية الأمريكية    شركات كبرى تحتكر سوق الدواجن بالمغرب والجمعية الوطنية لمربي الدجاج تحمّل الحكومة المسؤولية    إسرائيل ترجح إعادة فتح معبر رفح الأحد وحماس تؤكد "حرصها" على تسليم جثامين بقية الرهائن    أفاية يفصل في محددات المسؤولية وتحولات النقاش العمومي بالمغرب    الهلال يجدد عقد بونو حتى 2028    كرة القدم المغربية .. من شغف الملاعب إلى قوة ناعمة واقتصاد مزدهر    إصابة 11 شخصا جراء غارات إسرائيلية عنيفة على جنوب لبنان    المندوبية السامية للتخطيط: تحسن سنوي في ثقة الأسر المغربية    قطاع التعليم بين حركية الإصلاحات وثبات الأزمة    جيل زد في المغرب: بين الكرامة وخطر الهجرة    جيل 2022 فتح الباب .. جيل 2025 يعبر بثقة من مونديال قطر إلى كأس العالم U20... المغرب يصنع مدرسة جديدة للأمل    المؤتمر الاستثنائي الاتحادي العام 1975 مؤتمر متوهج عبر امتداد الزمن    محمد سلطانة يتألق في إخراج مسرحية والو دي رخاوي    عاصمة البوغاز على موعد مع الدورة أل 25 من المهرجان الوطني للفيلم    أبناء الرماد    "الزمن المنفلت: محاولة القبض على الجمال في عالم متحوّل"    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    كنز منسي للأدب المغربي.. المريني تكشف ديوانا مجهولا للمؤرخ الناصري    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع الدكتور أحمد الحمداوي حول جنون نيتشه من منظور نفسي وطب نفسي
نشر في بيان اليوم يوم 26 - 05 - 2022

تجدر الإشارة، إلى كون تاريخ الفكر والفلسفة، والفن، والأدب مليئا بالعقول التي ارتبط اسمها بالجنون، ما يدفعنا لطرح عدة أسئلة حول علاقة الجنون بالإبداع الفكري، والفني، والفلسفي، والعلمي. ومن هنا، تأتي أهمية التساؤل حول جنون فريدريك نيتشه، باعتباره فيلسوفا، أحدث منعطفا هاما في مسار الفلسفة الغربية. ولذلك، فهو يستحق دراسة تحليلية نفسية، لكونه أحد الفلاسفة والمبدعين الذين ارتبطوا بالجنون مثل: أنطونين أرتو، وهولدرلين، وفان كوخ وألتوسير… نلتقي اليوم مع الدكتور أحمد الحمداوي في حوار يحاول الإجابة أو ملامسة بعض من أشئلة الجنون هذه..
والدكتور أحمد الحمداوي، من مواليد الدريوش سنة 1961. يشغل منصب مدير المركز المغربي للأبحاث والدراسات وتوجيه الطفولة والأسرة. وهو أستاذ علم النفس المرضي وعلم الإجرام العيادي بالمعهد الملكي لتكوين أطر وزارة الثقافة والشباب والتواصل – قطاع الشباب.
فيما يلي الحوار:
من المعتاد في كل المجالات العلمية، والفكرية، والمعرفية عامة، استهلال الحوارات بالتحديدات المفهومية، فما مفهوم الجنون من منظور التحليل النفسي، ومن منظور الطب النفسي؟
بالفعل، تبدأ كل الحوارات بعامة، بعملية تحديد المفاهيم، وهو ما يفرضه المنهج العلمي. وكما تعلم أن مفهوم الجنون، كلاسيكي قديم جدا، بل واكب التسمية العلمية إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، حيث إن الجنون كان مرادفا له بعد ذلك الخلل العقلي، ثم المرض النفسي، أما الآن فقد أصبحت اضطرابات السلوك وما إلى ذلك. وهكذا، حصل تطور في مفهوم، وكذا في وصف حالة المرض النفسي.
نلحظ، أن هنالك استعمال لكلمة "جنون Folie" في التحليل النفسي، إذا حاولنا أن نترجمها إلى اللغة العربية، حيث سبق لفرويد أن استعمل هذا المصطلح للتدليل على الصعوبات المرضية، أو ما يسمى بالماضي الطفولي المضطرب، وقد سمى في مجموعة من الحالات – التي حاول التعامل معها – بالجنون، عندما حلل خمس حالات من التحليل النفسي، أو عندما عارض تجربته بخصوص التعامل مع حالة المرض.
كانت التسمية متداولة بالنسبة للطب النفسي، حتى حدود بداية القرن الواحد والعشرين، عند الأطباء النفسانيين القدامى الفرنسيين مثل إيسكيرول، بينيل، ليتار، أو الألمان مثل كرابلان، غوس، ومن الإنجليز كذلك؛ ومن ثمة، فقد كان استعمال مصطلح الجنون – إذا ترجمنا مصطلح La folie- ولكن دلالتها باللغة العربية تختلف عن اللغة الفرنسية. وهكذا، فكما قلت، إن الأطباء إلى حدود بداية القرن الواحد والعشرين، استعملوا الجنون مرادفا للمرض العقلي، أما الجنون فهو إصابة الإنسان بخلل عقلي، إذ إن مفهوم الجنون، قد تغيّر في نظر المهتمين، حيث أصبح مفهوما وضعيا، وليس مفهوما فلسفيا، ذلك أن الجنون اعتبر إصابة بالأرواح الشريرة، وأن الشخص يتكلم انطلاقا من أرواح تسكنه، ولهذا فهناك اختلاف بطبيعة الحال.
غير أن الطب النفسي، يعرّف الجنون على أنه خلل في الوظيفة العقلية، ومفهوم المرض قد تغيّر، إذن ما الذي تغيّر؟ هل هو المفهوم؟ أم هي طبيعة تغيير نمط التعاريف التي أعطيت لطبيعة المرض النفسي حسب الأزمنة؟ لأن تطور التعاريف الإجرائية تكون حسب التقدم العلمي، وكذلك المرافقة الإبستمولوجية لوضعية التعاريف.
سيفيدنا مفهوم الجنون كما ألح عليه ميشال فوكو في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، وهذا الكتاب تحدث كثيرا عن تاريخ الجنون بمفهومه الفلسفي والطبي، وكذلك نيتشه، هذا الفيلسوف الذي يقال إنه قد أصابه الجنون كما أصاب مجموعة من الفلاسفة، ومجموعة من الفنانين. وطبعا يختلف مفهوم أو دلالة الجنون حسب الأزمنة، والمدارس، لأن مصطلح الجنون سيتم تجاوزه ليحل محله مصطلح المرض العقلي.
وعليه، فبخصوص التعريف، فهو تعريف تغيّر بتغيّر الأزمنة، وتغيّر المصطلح، والاشتقاقات المصطلحية، وكذلك حسب أزمنة، وراهنية المعارف الطبية والنفسية.
وباعتبار كون والد نيتشه، مات مجنونا سنة 1849،عندما كان الصغير نيتشه في الخامسة من عمره؛ فهل يحق لنا القول، بأن الجنون مرض يمكن أن ينتقل بالوراثة؟
غالبا ما تكون الأمراض العقلية، وراثية بنسبة 57/100 حسب معظم الدراسات في الطب النفسي، وهذا المفهوم طبعا، قد يعاكس وجهة نظر التحليل النفسي، على أن المرض النفسي، وليد صدمات نفسية متراكمة في الطفولة، غير أن بعض الأمراض العقلية وراثية، ذلك أن نيتشه بعدما فقد والده، انتقل مع والدته وأخته إيليزابيث إلى نونبرغ، حيث كانت له قدرات كبيرة، رغم أنه وجد صعوبات في مادة الرياضيات، فقد كان نيتشه فنانا كبيرا، وفيلسوفا ما زالت كتبه تؤثر على المفكرين، والفلاسفة حتى الساعة، إذ إن نيتشه رغم كونه فيلسوفا، فقد كان يحلم أن يكون موسيقارا وإلى جانب ذلك، كان يتقن المسرح، والتأليف الموسيقي.
مات نيتشه بمرض العته العقلي la démence، لكن قبل أن يصاب بالمرض العقلي، كما تقول المصادر التاريخية التي أرّخت لتاريخ الفلاسفة، فإنه كان يعاني من مرض الشلل، وهو مرض دماغي بالأساس، يصيب الأشخاص لمجموعة من الأسباب، قد تكون الأسباب مرضية داخلية، أو خارجية، أي إصابات عرضية، ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة الشلل الذي أصيب به نيتشه، ففي تلك الفترة كانت الأمراض المنتقلة جنسيا تسبب ما يسمى بالشلل، حيث يقال أن لينين على سبيل المثال، قد مرض بمرض العته العقلي، حيث أصابه الشلل، لأنه لم يعالج من مرض السيفيليس (مرض جنسي كان منتشرا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين)، كذلك يسبب أعراض الاضطهاد الذي يشعر به المصاب، وتكون أعراضه إحساسا في كون الآخرين يريدون به السوء، ويطاردونه، ويتجسسون عليه.
وهو كذلك شعور بأن الشخص له مكانة كبيرة جدا تفوق وضعه الحقيقي، فقد كان لينين يقول، وهو على كرسيه المتحرك: "أنا الثورة والثورة أنا، وأنا من قاد الثورة في العالم، والثورة هي لينين." وهذه هي بالضبط، أعراض البارانويا، فهي أعراض الشعور بالعظمة، وبأن الشخص يحمل سمات العبقرية، والنجومية، وبعبارة مختصرة، فهو تضخيم الأنا، ولهذا فلابد من الحذر على مستوى تحديد أسباب الأمراض العقلية. وهكذا، فالمرض العقلي له خاصيات وراثية، إذ ينتقل من شخص إلى آخر، ويمكن أن يكون نيتشه كذلك قد مات بنفس مرض والده.
ارتباطا بما سبق، واستنادا إلى كون التراكمات السيكولوجية، تؤدي إلى طفرات معينة، فإننا نلحظ أن الصدمات، كانت تتوالى على نيتشه الذي فقد أخاه الأصغر سنة 1848 ثم أباه سنة 1849، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد، فهل يكمن لتوالي الصدمات أن تسير وفق سيرورة تطورية، تؤدي للجنون في مرحلة من المراحل العمرية؟!
بطبيعة الحال، تعرض نيتشه لمجموعة من الأحداث التي أثرت على حياته، وعلى ماضيه الطفولي، حيث فقد أخاه جوزيف، وعمره أربعة سنوات، ثم فقد والده وهو في عمر الخمس سنوات، وكذلك انتقاله إلى مدن أخرى للدراسة، ودراسة الموسيقى كذلك، فقد كان لكل هذا وقع كبير على حياته، فجميع الأنشطة التي كان يمارسها قد تعبر بشكل من الأشكال عن معاناته النفسية، فهذه الأنشطة هي تصعيد لمعاناة نفسية بالأساس. إذن فلا شك أن فقدانه لأخيه ولوالده كان له أثر كبير على حالته النفسية، باعتبار أنه بقي الذكر الوحيد في الأسرة، بعد فقدانه لأبيه الذي كان قسيسا، هو ما دفعه إلى دراسة الفلسفة، ودراسة الثيولوجيا (علم دراسة الأديان)، فقد كان هذا بتأثير من والده، رغم نقده للأديان، واعتبار كون الدين لا يحتوي على أي مفهوم إنساني. وبعامة، فإن طفولة نيتشه اعترتها صعوبات كثيرة، تتجلى في طبيعة إنتاجاته، وكذلك في المواقف التي أثرت عليه بشكل كبير.
ساهم تأثير الحياة، والصدمات النفسية التي عاشها في حالة المرض – إذا تحدثنا عن المرض وليس الجنون – غير أن هذه الصدمات، لا تولّد مرضا نفسيا، أو عقليا. وفي حالة نيتشه، فإن المرض يتضح أنه وراثي، لأنه يحمل ميولات وراثية من جهة الأم، لأن جده لأمه كان كذلك مريضا بالجنون، ووالده كذلك. إذن فحالة تفشي المرض الوراثي، كانت من الأسباب، وهنا سنعرف أن عند الألمان، وكذا عند بعض الثقافات الأخرى، توجد ميولات مرضية وراثية، مثل مرض الاكتئاب المزمن، وهو ما تؤكده بعض الدراسات.
تعلمون أن للدين آثارا متعددة تؤثر على البنى السيكولوجية للفرد، وبما أن نيتشه تربى في أسرة متدينة، حيث كان أبوه قسا بروتستانتيا، وجده لأمه وأبيه كذلك. ومنه، أنستطيع القول إن التربية الدينية، وفقدانه لإيمانه بالإله، وبالدين المسيحي، قاده نحو الجنون في أفق مرحلة تأمل عميق ووعي بفظاعة الوجود؟
لقد كان للدين تأثير في حياة نيتشه، لكون أبيه قسيسا، وجده كذلك لأبيه، ولوالدته، فكل هذا كانت له آثار كبيرة في حياة نيتشه الذي تمرد على الدين وانتقده، وهذا الانتقاد، ليس هو السبب في مرض نيتشه، فحركة انتقاد الثيولوجيا، والدين، كانت صحوة نقدية، وفكرية، انتقلت بالتفكير الفلسفي من قاعدة التعاطي مع اللاهوت إلى فكر نقد العقل، وهو ما نلاحظه في أعمال كانط، وهايدغر… والفلاسفة الآخرين، هذه الموجة قد رافقت الفكر الفلسفي الوضعي، إذن فالقول إن انتقاد نيتشه للدين كان أحد أسباب مرضه العقلي، فأنا لا أظن ذلك صراحة، إذ ليس الشعور بالذنب هو الذي قد يولّد المرض العقلي، فالشعور بالذنب في وقتنا الراهن، يمكن أن نراه عاملا من عوامل بعض الحالات الاكتئابية، ولكن ليس مرضا عقليا بالمفهوم الذي قد يوحي في تلك الفترة.
إذن فنيتشه كباقي الفلاسفة، قد خضع لمراحل تطورية في التفكير النقدي الفلسفي، فهو كان طفلا درس الموسيقى، وعلم اللاهوت، وتاريخ الأديان، بتأثير من والده، حيث كان انتشار الدين حينها كبيرا في أوروبا، بحكم قوة الكنائس، وحضورها الفكري، والوجودي، فكل طبائع الفلاسفة أواخر القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، قد انتقدوا الفكر الديني، واعتبروه فكرا بعيدا عن مفهوم الحركة الإنسانية التي بدأت في أوروبا حينها.
أصيب نيتشه بمرض الزهري (السيفيليس)، وهو مرض ينتقل عبر الاتصال الجنسي، هل يمكن لمرض عضوي مثل السيفيليس أن يتطور إلى مرض عقلي أو نفسي؟
تؤكد جميع الدراسات الطبية أن مرض السيفيليس، ينتقل إلى مرض الشلل، وكذلك مرض إصابة الدماغ، وهو الأرجح في حالة نيتشه، كما حصل ل "لينين" ومجموعة من المفكرين، والسياسيين… ومرض السيفيليس الذي كان شائعا في القرن التاسع عشر، والعشرين، وقد كان سببا من الأسباب المرضية. ونعم يمكن لمرض السيفيليس أن يتطوّر إلى شلل، وبالتالي إلى مرض عقلي، وهو مرض العته العقلي، أو ما يسمى بفقدان القدرات العقلية عند الشخص المصاب به، وهو ما حصل لنيتشه بطبيعة الحال.
تعرف نيتشه على فتاة روسية تدعى لوسالومي سنة 1882، وأحبها بجنون حيث كان يشاركها أفكاره الفلسفية وهو ما لم يجده في إنسان آخر، لكنها تزوجت سنة 1886 بتشارلز أندرياس، وهي نفس سنة سفر أخته إليزابيث – التي أحبها كثيرا كما تظهر كتابات متعددة- إلى الباراغواي مع زوجها، مما ترك فراغا وشعورا بالوحدة، عبّر عنه في رسالة لصديقه اوفربك سنة 1887، "حتى عندما كنت طفلا كنت وحيدا، واليوم وأنا في 44 من عمري مازلت وحيدا".. فهل يمكن للصّدمات العاطفية والشعور بالوحدة أن تؤدي للجنون؟!
هذه كلها أحداث يمكن دمجها في إطار شبكة معقدة صنعت حياة نيتشه، فحبه للوسالومي الفتاة الروسية التي أعجب بها وتزوجت بأندرياس، وكذلك لقاؤه بفتاة أخرى في إيطاليا عندما كان يبحث عن العلاج… كل هذه الأحداث، تنضاف إلى سلسلة الصدمات النفسية المتراكمة التي صنعت شخصية نيتشه، حيث انتقد القدر والإله، وعدة مفاهيم ارتبطت بعلاقة الإنسان بالوجود، وحاول إرساء معالم تأملات وأفكار فلسفية، حول مفهوم الإنسان، ومعاناته في الوجود. وهذا كله ينضاف إلى سلسلة الأمراض النفسية.. أما قضية مرضه، فهي وراثية بالأساس، وارتبطت بماضيه المرضي، إثر الشلل الذي أصابه انطلاقا من مرض السيفيليس، وأنا أعتقد أن مرض السيفيليس، هو السبب الرئيسي في قضية المرض العقلي الذي أصاب نيتشه بطبيعة الحال، أما كل الأحداث الأخرى، ما هي إلا تراكم مرضي أصابه، وأثر على وضعه النفسي مما زاد من معاناته النفسية.
لقد جمعت نيتشه علاقة جيدة بفاغنر وزوجته كوزيما فاغنر، في بداية حياته الفلسفية، حيث رأى في فاغنر نموذج العبقرية والفن، وأهداه كتابه الأول ميلاد التراجيديا، غير أنه انقلب عليه بعد تأليف فاغنر لأوبرا بارسيفال، المستمدة من نصوص مسيحية. وهكذا، يرى قراء ودارسي فلسفة نيتشه، أنه أحب كوزيما وبرروا ذلك بما قاله نيتشه في المصحة العقلية: "إن زوجتي كوزيما فاغنر أحضرتني إلى هنا." أضف إلى ذلك، أنه كتب لها رسائل ووصفها بأريادنة -(اسطورة إغريقية تروي أن أريادنة ابنة الملك مينوس، ساعدت ثيسيوس الملك اليوناني بواسطة بكرة خيط على أن يكتشف طريقه ويخرج من المتاهة التي حبس فيها ليفترسه المينوتور. وقعت أريادنة في حب ثيسيوس وتزوجته، ولكنه سرعان ما هجرها على جزيرة ناكسوس فوجدها ديونيزوس إله الجزيرة وتزوجها وأنجب منها طفلين)- ووصف نفسه بديونيزوس، ووقع الرسائل باسم ديونيزوس أو المصلوب. وهذا ما يؤدي بنا إلى التساؤل عن معاناة نيتشه من عقدة أوديب تجاه فاغنر الذي أحبه كأنه أب ثان، والذي ولد سنة 1813 وهي نفس السنة التي ولد فيها أب نيتشه."
إن التعامل مع مثل هذه المعلومات صعب جدا، كون أن المريض الذهاني الذي أصابه العته العقلي، وأصابته كذلك البارانويا، يصعب فهم ما يشعر به بوصفه، حقيقة فعليّة، فهو في حالة عته عقلي وفي حالة مرض نفسي، إذن هو في حالة تأويل هذياني منتظم غير أن هذا الهذيان قد يبدو صعب التيقّن منه، كونه ينبني على مرض نفسي.
تؤكد الروايات ذلك، لكونه أهدى في بادئ الأمر مؤلفه ميلاد التراجيديا لفاغنر وشعر بعد ذلك بنوع من الاضطهاد منه، وهذا سلوك نلاحظه كثيرا عند المرضى النفسيين الذهانيين الذين يعانون كذلك من البارانويا، لذلك قد يبدو طبعا أن هناك مشاعر وأحاسيس تجاه زوجة صديقه وأنه في حالة إقصاء من طرفها، غير أنه يبدو على مستوى التخيّل وعلى مستوى المشاعر قد وقع في حبها أو الغيرة عليها، لكن كل هذه الروايات تبقى فقط من نسج الأبحاث والتأويلات التي ينقلها الباحثون في حياة نيتشه. قد يكون هذا صحيحا كون أنه وقع في حبها والاحتفاظ بهذه المشاعر حتى أثناء المرض يمكن أن يكون حقيقة لكن يجب أخذ هذه المعطيات بنوع من الحيطة والحذر.
هل يمكن للجنون – من الناحية السيكولوجية – أن يرتبط بإنتاج الحكمة والتفلسف والتأمل العميق للوجود؟ بصيغة أخرى هل يمكن للفكر أن يقود للجنون؟
بطبيعة الحال، فكل منتج للفكر له قاعدة نفسية تتميّز بالخلاف النفسي.. فالشخص العادي لا يمكن أن ينتج، وفي تقدير التحليل النفسي فإن الجنون مظهر من مظاهر الإبداع، غير أنه هو مظهر سلبي لا يعترف به المجتمع، فأن نكون مجانين أو مرضى عقليّين نفسيين بدون إنتاج يكون المرض هنا عملية نفسية تصعيدية غير معترف بها وقد توحي لنا بنوع من الخطورة أو استقراء الذات التي نكون فيها عبارة عن مثير للخوف من الوجود.. أي أن نتحول إلى مجنون يتسكّع في الشارع، فالمجنون هو حكيم لكن بصيغة سلبية وليست منتجة لأن فيها معاناة لا يدركها المجنون ولكن يدركها الشخص الذي يراه، فهو طبعا يسائلنا في وجودنا، ذلك أن الجنون والحمق والمرض النفسي مساءلة لذات الآخر الذي يعتقد أنه إنسان واع، أو إنسان عاد، أما كل إبداع فنّي وفلسفي فهو لا يختلف عن الجنون إلا في حالة التصعيد الإيجابي، بمعنى أن الكاتب والفيلسوف والمبدع والذكي هو معرّض لعملية تصعيد خلافات نفسيّة منتجة، وهو ما أسماه فرويد بالتصعيد الإيجابي الذي يعترف به المجتمع. فالإنسانية اعترفت بنيتشه باعتباره فيلسوفا ولكن عندما ذاع صيت نيتشه أنه أصيب بمرض عقلي ووضع بمصحة نفسية كلويس ألتوسير، وكمجموعة من فلاسفة القرن العشرين، فإنهم يفصلون بين مرحلة الإبداع والفلسفة وبين المريض العقلي، فنيتشه نراه فيلسوفا كبيرا مبدعا ولكن لا نراه مريضا عقليّا.. وعندما يكون الجنون، والمعاناة مرادفا للإبداع فإن الذات المتكلّمة قد تتحفظ عن قول "مع الأسف صار مجنونا، صار مريضا".
أجرى الحوار: أسامة لعفو*
* طالب باحث بسلك الدكتوراه، تخصص فلسفة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.