سارتر ..دوبوفوار..وكامو... الوجودية والعبث هذه الحلقات مترجمة عن كتاب باللغة الانجليزية تحت عنوان: HYSTORY OF PHILOSOPHY ) LITTLE A)، («بعض من تاريخ الفلسفة»)، وهو صادرعن مطبعة ( yale university press) لمؤلفه « نيجيل واربورتون»، أستاذ لمادة الفلسفة بجامعات لندن بانجلترا. هذا المؤلف الظريف، المفيد، والممتع، يستعرض تاريخ الفكر الفلسفي من خلال تعاقب لأكبر وأشهر الفلاسفة الغربيين عبر التاريخ منذ عهد الإغريق، كما يطرح، بأسلوب سلس، عصارة أفكارهم وطرق عيشهم، وكذا الأحداث الغريبة والطريفة التي صادفتهم في حياتهم، وكيف مارسوا نظرياتهم في واقعهم المعاش. إذا كان بمقدورك العودة إلى الماضي ، إلى سنة 1945 ومقهى بباريس يدعى " الحكيمان"، ستجد نفسك جالسا قرب رجل صغير القامة بعينين غائرتين. الرجل يدخن غليونه فيما يقوم بتدوين بعض النقط على دفتر ملاحظاته. هذا الرجل هو جان بول سارتر(1905-1980)، أكثر الفلاسفة الوجوديين شهرة. كان روائيا وكاتب مسرحيات والسير الذاتية. قضى معظم حياته في الفنادق، كما كتب أغلب مؤلفاته داخل المقاهي. غالبا ما كانت امرأة جميلة فائقة الذكاء تلتحق برفقته، اسمها سيمون دوبوفوار(1908-1986). كانا قد التقيا عندما كانا في "الكوليج دو فرانس". وكانت دوبوفوار رفيقته لأمد طويل، على الرغم من أنهما لم يتزوجا كما لم يعيشا مجتمعين. كانت لهما علاقاتهما الخاصة. لكن علاقة الإثنين كانت هي الأطول والاقوى. يصفانها ب"الجوهرية" فيما يصفان علاقاتهما الأخرى ب"الطارئة" (بمعنى "غير ضرورية"). كانت دوبوفوار، مثلها مثل سارتر، فيلسوفة وروائية، كتبت أحد أوائل الكتب الهامة عن القضية النسائية بعنوان "الجنس الثاني"( 1949). خلال الحرب العالمية الثانية كانت باريس محتلة من قبل القوات النازية، حيث مر الفرنسيون بحياة صعبة. بعضهم قرر اللحاق بالمقاومة، وآخرون تعاونوا مع النازيين في خيانة واضحة لأصدقائهم من أجل الإفلات بجلدهم. في ذلك الوقت شهدت فرنسا شحا في الطعام. أما الشوارع فكانت مسرحا للمعارك المسلحة. لقد اختفى الناس تماما ولم يعد يرى لهم اثر ، فيما كان اليهود يساقون إلى معسكرات الاعتقال حيث قضى الكثيرون نحبهم هناك. ليس للكائن البشري " جوهر"، ونحن لسنا هنا لسبب ما، يظن سارتر. ليس هناك طريقة خاصة لكي نكون بشرا. فأي كائن بشري عليه أن يختار ما يريد، وماذا يكون. نحن كلنا أحرار. ولا أحد غيرك من يقرر ماذا ستفعل بحياتك. فإذا تركت الآخرين يقررون كيف تعيش، فهذا، أيضا، اختيار. سيكون اختيارا لنوع من الأشخاص يقرر الآخرون كيف عليه أن يكون. بديهي أنك حينما تختار فعل شيء ما، فإنك لن تنجح دائما في ذلك. وقد يكون سبب فشلك خارجا عن إرادتك.غير أنك مسؤول عن رغبتك في فعل ذلك الشيء، عن محاولتك فعله، وعن الكيفية التي ترد بها على عدم قدرتك على فعل الشيئ. خلال محاضرة ألقاها مباشرة بعد انتهاء الحرب، تحت عنوان " الوجودية شكل للانسانية"، يصف سارتر الحياة الإنسانية بالمليئة بالمعاناة. هذه المعاناة تنبع من الفهم الذي يعتبر أننا لا يمكننا تلمس الأعذار، وإنما نحن مسؤولون عن كل ما نقوم به. غير أن هذه المعاناة تزداد حدتها بسبب أن ما أقرره لنفسي هو، في نظر سارتر، نوع من القدسية التي على كل واحد أن يحذو حذوها فيما يريد أن يفعل بحياته. فإذا قررت الزواج، فأنا افترض أنه على كل واحد أن يتزوج. وإذا قررت أن أعيش حالة من التراخي والكسل فإن هذا هو ما يجب على أي واحد أن يقوم به أيضا، حسب رؤيتي للوجود الإنساني. من خلال الاختيارات التي أقوم بها في حياتي، فأنا ارسم صورة لما يجب، في ظني أن يكون عليه أي كائن بشري. وإذا فعلت ذلك بكل صدق فتلك مسؤولية كبرى. يقوم سارتر بتفسير ما يعنيه بالمعاناة في الاختيار من خلال حكاية حقيقية لأحد الطلاب الذي أتاه يوما يسأله مشورة في موضوع ما إبان الحرب. كان على هذا الشاب أن يتخذ قرارا صعبا ، إذ كان محتارا بين البقاء في البيت لمواصلة رعاية أمه، أو المغادرة للالتحاق بالمقاومة الفرنسية لتحرير بلاده من الألمان. كان هذا أصعب قرار سيتخذه في حياته. وبالتالي، لم يكن مقتنعا بأي الاختيارين. فإذا غادر المنزل سيترك أمه في وضعية هشة. كما أنه قد لا يفلح في الالتحاق بالمقاومة قبل أن تعتقله القوات النازية وتضيع المحاولة ليضيع معها الجهد والطاقة وربما الحياة أيضا. لكنه إذا مكث بالمنزل مع أمه، فسيترك آخرين يقاتلون من أجله. فماذا يفعل إذن؟ماذا ستفعل أنت؟أية نصيحة ستقدمها له؟ كانت نصيحة سارتر مخيبة. قال للطالب إنه حر، وبأن عليه أن يختار بنفسه. لو قدم سارتر للطالب رأيا عمليا بخصوص ما عليه فعله، سيبقى على الطالب، مع ذلك، أن يختار هل يتبع تلك النصيحة أم لا. إذ لا سبيل للإفلات من ثقل المسؤولية الملازمة للكائن البشري. إن "الوجودية" هو الإسم الذي منحه الناس لفلسفة سارتر. هذا الإسم نبع من الفكرة التي مفادها أننا "وجدنا" أنفسنا في هذا العالم، وعلينا أن نقرر ماذا نصنع بحياتنا. ويعتقد سارتر أننا لسنا موجهين لهدف معين. فوجودنا سابق على جوهرنا، يقول سارتر، في حين أن جوهر الأشياء المصممة سابق على وجودها. في كتابها الجنس الثاني، أعطت سيمون دوبوفوار لهذه الوجودية انحرافا آخر من خلال إعلانها أن المرأة لم تولد امرأة، وإنما أصبحت امرأة. ما تعنيه هو أن المرأة تميل إلى القبول بنظرة الرجال حول كيف عليها أن تكون. فأن تكوني كيفما يريد الرجال فهذا اختيار. لكن المرأة، باعتبارها حرة، تستطيع أن تقرر بنفسها ماذا تريد أن تكون. ليس للمرأة جوهر، كما ليس هناك طريقة وضعتها الطبيعة لكي تتبعها النساء فيما يفعلن بحياتهن. كان هناك موضوع آخر مهم بالنسبة للوجودية، هو عبثية الوجود. فالحياة لا معنى لها إطلاقا خارج المعنى الذي نعطيه إياها عبر اختياراتنا. وبعد فترة طويلة تاتي الموت لتزيح كل المعاني. كانت وجهة نظر سارتر تتمثل في وصف الكائن البشري ب"المشاعر الغير مفيدة". ليس هناك قصد من وجودنا. هناك، فقط ، المعنى الذي يخلقه كل واحد منا من خلال اختياراتنا. لقد ارتبط البير كامو(1913-1960)، الروائي والفيلسوف، بالوجودية ايضا، مستعملا الأسطورة الإغريقية التي تتحدث عن "سيزيف" لتفسير العبث الإنساني. تحكي الأسطورة أن عقاب سيزيف على خداعه للآلهة هو رفع صخرة عملاقة إلى قمة الجبل. فكان كلما اقترب من القمة عادت الصخرة لتتدحرج من جديد نحو الأسفل، ليعيد الكرة مرات عديدة بدون نهاية. تشبه الحياة الانسانية مهمة سيزيف في كونها غير ذات معنى. فليس هناك قصد من الحياة: لا أجوبة تفسر كل شيء. إنه العبث. لكن كامو لم يكن يدعونا إلى اليأس أو الانتحار.على عكس ذلك. يجب علينا أن نعترف بأن سيزيف سعيد، حسب كامو. لماذا هو سعيد؟ لأن هناك شيء ما، هي تلك المعركة التي لا نهاية لها من أجل رفع الصخرة العملاقة إلى قمة الجبل، يجعل حياته تستحق أن تعاش. إنها أفضل من الموت. لقد صارت الوجودية عقيدة. ذلك أن الآلاف من الشباب انجذبوا إليها وانطلقوا في مناقشة عبثية الوجود الانساني. كما ألهمت روايات ومسرحيات وأفلام سينمائية. وكانت الفلسفة التي يحيا بها الناس ويطبقونها على مستوى قراراتهم الخاصة. وقد أصبح سارتر نفسه منغمسا أكثر في السياسة، ومتموقعا أكثر في الجناح اليساري كلما تقدم به العمر. كما حاول الجمع بين فراسة الماركسية وأفكاره الأولى، في مهمة تبدو صعبة. فوجودية سنوات 1940 ركزت على الأفراد الذين يقومون باختياراتهم الخاصة. لكنه في أعماله الأخيرة حاول إثارة الإنتباه إلى أننا جزء من مجموعة واسعة من الناس، وأن العوامل الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورا في حياتنا. قد يكون سارتر أبرز فيلسوف في القرن العشرين. لكنك لو سالت الفلاسفة عمن هو أكثر المفكرين أهمية في القرن الماضي فسيجيبك الكثيرون بأنه "لودفيغ ويتغنشتين".