إضراب لثلاثة أيام يشل حركة المحاكم في مختلف المدن    ‮«‬حلف ‬شمال ‬إفريقيا‮»‬ ‬بديلا ‬للاتحاد ‬المغاربي    شقير يدرس مركزة القرار السياسي بالمغرب في مؤلف جديد    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ارتفاع أسعار النفط مع تضاؤل الآمال في وقف العدوان على غزة    ارتفاع أسعار الذهب مع استمرار التوترات في الشرق الأوسط    متجاوزا الصين واليابان.. المغرب يصبح المورد الرئيسي للاتحاد الأوروبي في قطاع السيارات    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    عملية الإخلاء من رفح تشمل نحو 100 ألف شخص وحماس تصفها ب"تطور خطير"    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    الدوري الإسباني .. النصيري يواصل تألقه    إسماعيل الصيباري يتوج بطلا للدوري الهولندي رفقة بي إس في آيندهوفن    تفاصيل جديدة حول عملية نقل "درب عمر" إلى مديونة    هزة أرضية بنواحي مدينة وزان    الدورة الأولى من مهرجان مشرع بلقصيري للسينما    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    "الثّلث الخالي" في القاعات السينمائية المغربية إبتداء من 15 ماي الجاري    عادل تاعرابت كان غايسلخ كاكا: غوت عليا وشنقت عليه    حماة المال العام كيطالبوا بتحريك مسطرة "غسل الأموال" واتخاذ إجراءات حازمة فحق اللصوص والمفسدين    وزير الدفاع الإسرائيلي لنتنياهو: حنا للي مسؤولين على إعادة الأسرى والمقترح المصري مزيان    بعد الاتفاق الاجتماعي.. مطالب بالزيادة في معاشات المتقاعدين    فيدرالية ارباب المقاهي تنفي الاتفاق على زيادة اثمان المشروبات وتشكو ارتفاع الأسعار    الموت يغيّب الشاعر محمد حنكور "الهواري" أيقونة الشعر الأمازيغي.. هذه قصة حياته وموعد الجنازة    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    توقعات أحوال الطقس اليوم الاثنين    طلبة الطب في مسيرة وطنية اليوم بالرباط ردا على إغلاق وزير التعليم العالي باب الحوار    هذا ما قررته المحكمة في قضية كريمة غيث    الاتحاد السعودي يعاقب عبد الرزاق حمد الله    بطولة اسبانيا: بيتيس يعزز حظوظه بالمشاركة القارية    يجب على الإسرائيليين إغراق الشوارع لمنع عملية رفح – هآرتس    يهم نهضة بركان.. الزمالك المصري ينهزم قبل مباراة نهائي كأس "الكاف"    عنف المستوطنين يضيق الخناق على الفلسطينيين في الضفة الغربية، و دول غربية تتصدى بالعقوبات    "الجزيرة" ترد ببيان ناري على قرار إغلاق مكاتبها في إسرائيل    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    عندها الزهر لي كيهرس الحجر.. مرا ربحات 2 مرات فالقمر فقل من 3 شهر    دعوة من بيت الذاكرة لترسيخ التنوع الثقافي من أجل إشاعة قيم السلام    الإنتحار أزمة نفسية أم تنموية    سيدات مجد طنجة لكرة السلة يتأهلن لنهائي كأس العرش.. وإقصاء مخيب لسيدات اتحاد طنجة    اعتصامات طلاب أمريكا...جيل أمريكي جديد مساند لفلسطين    دراسة مواقف وسلوكيات الشعوب الأوروبية تجاه اللاجئين المسلمين التجريد الصارخ من الإنسانية    الأرشيف المستدام    رأي حداثي في تيار الحداثة    العفو الملكي    دراسة أمريكية: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    رئيس جمهورية غامبيا يستقبل المدير العام للإيسيسكو في بانجول    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    "فنون شعبية على ضفاف درعة".. وثائقي يسلط الضوء على التحولات التي شهدتها فنون زاكورة (فيديو)    فيلم "من عبدول إلى ليلى" يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    وصل لأعلى مستوياته التاريخية.. التداول النقدي فات 400 مليار درهم    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    المغرب يسحب أول دفعة من قرض 1.3 مليار دولار من صندوق النقد الدولي    قلعة مكونة تحتضن الدورة 59 للمعرض الدولي للورد العطري    الأمثال العامية بتطوان... (589)    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قطف الجواهر الغوالي من ترجمة العلامة الدادسي الغالي
نشر في اشتوكة بريس يوم 31 - 12 - 2019


الطالب الحسين أكروم الساحلي
لعل من نافلة القول التذكير بأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، وأعلام الهدى، فهم بمنزلة النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ولذلك رفع الله درجاتهم، وأعلى من منزلتهم، فقال سبحانه: “يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”.
ولا غرو أن موت العلماء مصيبة لأنها كما قال الحسن البصري “ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار” وقد مات في السنتين الماضيتن ما يزيد عن عشرين عالما في سوس خاصة، وفي المغرب عامة، منهم الفقهاء، والمؤرخون، والفلكيون، واللغويون، والأصوليون، والشعراء، والصلحاء، والأولياء، وما زالت جراحهم لم تندمل بعد؛ حتى فوجئت الساحة العلمية بوفاة العلامة الفقيه الأديب المحقق الشاعر الشجاع الصارم سيدي الحاج محمد الغالي الدادسي عميد مدرسة تنالت بهشتوكة، وعضو المجلس العلمي الأعلى بالرباط.
ومن الواجب علينا -باعتبارنا طلبة المدارس العتيقة- أن نكتب نبذة موجزة عن هذا الرجل الذي أفنى عمره في فنون التدريس، وأفرغ طاقته في كتابة الكراريس، فتراه أثناء كلامه في قناة السادسة لما يشرح كلام الله، وفي غيرها؛ تجنح منه الأفكار جنوح الطير إلى الأوكار، ويتدفق علماً، ولا يتلعثم في كلامه وكأنه ينظر في صحيفة، أما كتاباته فتذكرنا بمصنفات العلماء النقاد الأقدمين، ومؤلفات كبار الأدباء المدققين، ولطالما رجونا أن يكتب عنه أقرانه ممن خالطوه وعرفوا قيمته العلمية للتعريف به، والتذكير بآثاره، ونشر محاسنه، لكن كما قال الشاعر:
إذا انقطع الرجاء من كل حي * ففي الله الكفاية والرجاء
ترى من هو العلامة سيدي الغالي الدادسي ؟ وما هي الأماكن التي شارط فيها ؟ وكم عدد مصنفاته ؟ وكيف كان يلقي مختلف الدروس الأدبية والفقهية والعقلية لطلبته ؟ ذلكم ما سيتم عرضه بإيجاز مخل في هذه المقالة، في انتظار أن يتم توسيعها مستقبلاً إن شاء الله لتكون رسالة.
تذييل:
قبل الشروع في ذكر نبذة مقتضبة عن حياة هذا العالم الجليل؛ لا بد من الإشارة إلى بعض العوائد الدخيلة على أعرافنا السوسية، وهي ظهور طائفة تنقص من قدر الفقهاء الربانيين، وتحط من درجة الصلحاء المتقين، وتجريدهم من السيادة، ومناداتهم بأسمائهم المجردة دون استحياء ولا خجل، وهذا مخالف لأصول أدبيات التقاليد العلمية التي درج عليها السوسيون خلفاً عن سلف.
ولو توقف ذاك اللغو عندهم لكان أهون؛ لكن كيف وقد انتشر ذلك الحوار في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، فتعمدوا تعميمه، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، فظهر لكل ذي عينين أن “إخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون” فلم ينزلوا الناس منازلهم، وتغافلوا عما حذر منه قديماً ابن عساكر في مقدمة التبيين: “إن لحوم العلمَاء رَحمة اللَّه عَلَيهم مسمومَة وعادَة اللَّه فِي هتك أَسْتار منتقصيهم معلومة..”.
فاعلموا أرشدنا الله وإياكم إلى الصواب؛ أن تتبع مثل هذا طويل الذيل قليل النيل، لأنه يسبب العداوة، ويورث الضغائن، ويزرع الفتن، والفتنة أشد من القتل، لذا آن الآوان أن نشرع في المقصود وهو تذكير الناسي بأخبار العلامة الغالي الدادسي وإن شئتَ سميتَه: التأسي بمناقب العلامة الدادسي، الذي كتبته على عجل تذكيراً لنفسي، وذخيرة ليوم رمسي، فأقول وبالله التوفيق:
ولادته ونسبه:
هو سيدي الحاج الغالي بن أحمد بن محمد البيوسفي الدادسي، الشريف النسب، وتنتهي مشجرات أنسابهم إلى الشرفاء الأدارسة. ولد سنة 1365 هجرية الموافق ل 1945م، بقرية أكادير الكبير بدار “أيت سي المدني” التابع لقبيلة المنابهة الكائنة شرق مدينة تارودانت، ومات عن عمر يناهز 74 سنة.
أسرته:
أفادني أخ المرحوم سيدي الحبيب لما زرته في أولاد برحيل يوم الأحد 21 أبريل 2019 أن أصل جدهم الأكبر من “أيت سغر أوشن” إحدى قبائل البربر، وأن أسرتهم كان لها شأو وهيبة بقلعة مكونة، وتُعرف بالأسرة البيوسفية نسبة إلى يوسف بن سيدال، فقد تحصل أحفاد هذه الأسرة على عدة ظهائر من ملوك الشرفاء العلويين، كالسلطان مولاي عبد الرحمان، والملك محمد الخامس، وبقيت هذه الأسرة بقلعة مكونة حتى تحول والد المرحوم سيدي الغالي سيدي مولاي أحمد إلى المنابهة بمنطقة إكلي شرق مدينة تارودانت .
كان والد سيدي الغالي يمتهن حرفة تطبيب العيون “القداح” وله طريقة عجيبة في تشخيص أمراضها، واكتشاف عللها، وله مِرْوَد نحاسي ينقب به العين في أقصاها المحاذي للأذن فتسمعها تحدث صوتا غريباً، وفور ذلك يعمد المريض إلى الاستلقاء على ظهره عشرين يوما متصلة، ثم يعمد إلى قطن ويسمحها به، ثم يأتي بأوراق شجر أخضر ليفتح عينها عليه، ويبالغ في العناية به حتى يتعافى بصفة نهائية.
وقل ألا تكلل نجاحاته لتلك العمليات بالنجاح، كما أخبرني ابنه سيدي الحبيب، مع تشدده واحتياطه في رواية الأخبار. ولذلك عُرف السيد مولاي أحمد عند الخاصة والعامة بطب العيون، يقصده الناس من أماكن بعيدة، وله في ذلك خبرة كبيرة، وتجربة راكمها لسنوات طويلة.
وكان سيدي مولاي أحمد متعبداً، خاشعاً، فقيراً، تيجانياً، يحب الصالحين ويتفقدهم، ويجالس العلماء، ويصاحب الفقراء، وله إلمام كبير بمسائل الدين وأحكامه، مع عدم حفظه للقرآن، هذا هو حاله رحم الله الجميع.
أولاده:
للشيخ سيدي الغالي خمسة أبناء أربعتهم ذكور، الأول سعيد يمتهن التجارة، والثالث: اسمه صالح توقف عن دراسته في البكالوريا وهو الآن عامل، والرابع، هشام، وهو طالب بكلية العلوم بأكادير تخصص الكيمياء، والأخير عبد الكريم؛ وهو أستاذ اللغة العربية بإعدادية أسكارن بتارودانت، حصل على الإجازة في تخصص اللغة العربية، وعمل بحثاً حصل بموجبه على الشهادة المذكورة سماه: “أدباء معاصرون من بعض المدارس العتيقة تحت إشراف الدكتور: البشير التهالي برسم الموسم الجامعي 2017 بجامعة ابن زهر كلية الآداب أكادير. تعرض فيه لشعر الفقهاء، وتراجمهم، وأطال فيه حتى أوصله إلى 140 صفحة، ولم يدرج فيه أشعار والده، وإن كان له معه فيه مذاكرات أدبية، وإفادات عروضية، ومجاذبات نظرية، يطول ذكرها عند استعراضها.
نشأته العلمية:
بدأ المرحوم سيدي الغالي بتعليم الحروف بمسجد مدشر أكادير الشيابنة بتارودانت حوالي سنة 1950 لدى مؤدب الصبيان وقتها السيد العربي بن إبراهيم الإكلي، وبقي معه هناك حتى تحول إلى مسجد أكادير البروج؛ لينتقل معه بمعية أصحابه الذين يُحفِّظ لهم القرآن، وكان يصطحبه أخوه سيدي الحبيب الذي يكبره سناً طيلة تلك الفترة.
وخلال هذه المدة استحدث المستعمر الفرنسي مدارس ابتدائية عدة في أغلب مداشر وقرى سوس لمنافسة المدارس العتيقة، والكتاتيب القرآنية، وكان وجود هذه الضارة يحس بخطورتها من تعايش معها وعاصرها، فضلاً عمن اطلع على دسائس المستعمر الخفية في تلك الفترة، والتي امتدت جذورها منذ ذلك الوقت وإلى الآن.
فلم يكن غريباً إن كان والد المرحوم سيدي الحاج محمد الغالي؛ السيد مولاي أحمد المتوفى سنة 1964، رفض دخول ابنه إلى المعهد الأصيل بتارودانت لاشتباهه في نظره بالمدرسة الابتدائية العصرية التي استحدثت بإكلي قبيل الاستقلال، لاسيما بعد إجبار السكان بتسجيل أبنائهم، مما حدا بمولاي أحمد إلى نقل ابنه إلى دوار السراحنة ليكون بعيداً عن أنظار الملاحقة المخزنية، فنجا من تلك المدارس العصرية، وخيرا فعل والده، ولو دخل إلى الأولى -فكيف بالثانية- لما كان له هذا الشأن الكبير في القدر، وما وصل لعشر معشار تلكم المنزلة في العلم والمعرفة، والصلاح والديانة.
الالتحاق بمدرسة تنالت:
من العوائد المقررة في التعليم بسوس أن الطالب متى حفظ القرآن ومهر فيه ينتقل إلى المدارس العلمية العتيقة لمدارسة العلوم اللغوية والفقهية، وكذلك فعل مولاي سي الحبيب قبل أخيه سيدي الغالي حين سبقه إلى مدرسة تنالت عند شيخ الجماعة العلامة الصوفي سيدي الحاج الحبيب التنالتي، بل بنى فيه حانوته وسكن معه سيدي الغالي الذي جاء مع أبيه بعد ذلك بِمُديدة .
وقد أخبرني معاصره سيدي الحاج أحمد أوجعا أن المرحوم بدأ في تنالت سنة 1959 وبقي يغرف من معين قطب وقته سيدي الحاج لحبيب إلى سنة 1969 أي: عشر سنين متصلة في التحصيل العلمي حتى فاق أقرانه، وبرز عليهم.
وله نوادر تحكى عنه وقت دراسته منها أنه يكتب المنجد في اللوحة ويحفظه، غير أن أخاه سيدي الحبيب تحفظ في صحة ذلك، لأن شروطه في قبول الروايات المتداولة عن أخيه؛ تكاد تكون أضيق من شروط البخاري في قبول الصحيح.
وعلى الجملة فالفقيد يقرض الشعر في المناسبات التي تقام في تنالت في أواخر حياة شيخه، وهو الذي يقدمه عند حضور الضيوف، وكان أديباً فصيحاً، يتكلم باسترسال دون النظر في الأوراق، حتى سماه شيخه سيدي الحاج الحبيب ب:”أديب تنالت” .
فتحصل من مجموع نشأته العلمية أنه قضى عشرين سنة في التحصيل العلمي، لأنه بدأ في حفظ القرآن حوالي سنة 1950 حتى التحق بتنالت سنة 1959، ثم تخرج منها سنة 1969 فكان من جميل الصدف، وغريب الموافقات؛ أن قضى عشر سنوات في حفظ القرآن، وعشر أخرى في مدارسة العلوم الشرعية والأدبية.
لكن هذه الفترة لا أظنها تكفي لاكتساب تلك القوة العلمية التي عُرف بها، والذي يظهر أنه لم يكتف بما أخذه عند شيخه؛ بل يطالع وحده كثيراً، ويراجع لوحته بهمة عالية، وداوم على ذلك زمناً غير يسير حتى حصل على الملكة اللغوية، واكتسب بطول المراجعة الصنعة الفقهية، وإلا فقد ذكر المختار السوسي ما يقرب من مائة من تلاميذ الشيخ سيدي الحاج الحبيب، وعرفت كثيراً من المتأخرين لم يذكرهم مكثوا بتنالت أكثر من عشر سنوات، بل عشرين، وهم دون دونه في العلم بمديد المراحل.
مشارطاته:
جرت عادة القبائل الهشتوكية وأحوازها على أنهم متى احتاجوا إلى فقيه مدرسة علمية، أو إمام جامع كبير يبادرون إلى الشيخ سيدي الحاج الحبيب التنالتي ليختار لهم فقهياً مناسباً، وهو الذي أرسل سيدي الحاج عبد الله أيت أوغوري لمدرسة إداومنو، وسيدي الحاج أحمد التاكوشتي إلى مسجد دار وامان، وسيدي الحاج محمد البوشواري إلى مدرسة أيت اعزا، ومولاي الحاج أحمد الإدريسي إلى مدرسة سيدي بوسحاب، وأرسل كذلك الفقيد سيدي الحاج محمد الغالي الدادسي إلى أول مدرسة بنواحي أولوز قبل نهاية الستينات من القرن الماضي.
وبهذا تكون مدرسة “واو سلا” بقبيلة أولوز بتارودانت، أول مدرسة شارط فيها الفقيد بعد أن جاء أعيان قبيلة أولوز إلى الشيخ سيدي الحاج الحبيب يطلبون منه فقيهاً، وعادة ما يكتب لهم ورقة عرفية خاصة لأعيان القبيلة تحوي نصائح عامة للمشارطين، واحترامهم للفقيه، ويُسمِّي فيها تلميذه الذي أرسله، ونبذة من سيرته التي تدل على أنه قادر على المشارطة، ولا ندري ما إذا كان فعل ذلك مع تلميذه سيدي الغالي أم لا ؟ والحاصل أنه مكث هناك حوالي ثلاث سنوات من 1969 إلى سنة 1971.
وبعد مغادرة المرحوم قبيلة أولوز؛ اتجه مباشرة إلى مدرسة أولاد ترنة ضواحي تارودانت، وبقي فيها إلى حدود سنة 1980. بعدها انتقل إلى الجامع الكبير بإكلي، وألقى فيه عصا التدريس إلى سنة 1990 . وقد تخرج عنده هناك كثير من الطلبة طبقاً عن طبق، ثم تحول إلى مدرسة سيدي أحمد الماسية الصوابية وبقي فيها إلى سنة 1994 ليستقر أخيراً في مدرسة تنالت مقام شيخه سيدي الحاج الحبيب إلى أن وافته المنية رحمه الله تعالى سنة 2019.
طريقة مدارسته للعلوم :
لا غرو أن منهج تدريس الفقيد للعلوم الأدبية والشرعية يعتمد على الاختصار في الشرح والتركيز على بيان مستشكلات المتون، وتفكيك ألغازها، كطريقة شيخه سيدي الحاج الحبيب تماماً، ذلك أن كل تلاميذ الشيخ مشهورون بالإيجاز في شرح الأنصاب. وقد أخبرني سيدي عبد الله البعقيلي أنه درس لهم سيدي الغالي في سنة 1997 ستة فنون متصلة من الساعة التاسعة صباحا إلى الثانية عشر زوالا بما فيها الآجرومية، وابن عاشر، واللامية، والجوهر، والمختصر، والألفية .
عقده مجالس السرد لخيار طلبته:
أخبرني تلميذه سي أحمد الماضي المشهور بالخنبوبي أن الفقيه ينتخب ثلة من تلاميذه النجباء ويخصص لهم مجلساً علمياً خاصاً بالسرد، وختموا فيه عدة مصادر فقهية نافعة، ككتاب سبل السلام للأمير الصنعاني المتوفى سنة [1182ه] وهو في الأصل شرح لكتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني [852ه] الذي عمد فيه إلى تتبع أحاديث الأحكام كما هو مشهور.
وغير خاف أن مثل تلك الكتب تروض ذهن الطلبة على استنهاض الهمم، وتدريبهم على ربط الفقه بأدلته، والتأصيل لفروعه، ليرتقوا بعدها إلى اكتساب الملكة الفقهية، ومن ثم القدرة على استفراغ الوسع في مناطات الأدلة من النقول، لتخريج الفروع على الأصول.
وختموا كذلك في مجلس السرد كتاب المواقف في علم الكلام للقاضي عضد الدين الإيجي وهو كتاب في أصول الدين ممزوج بعلم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري استمد الإيجي مادته من الدواوين الكلامية لأصحابه الشافعية كالفخز الرازي، والسيف الأمدي، وله شروح أشهرها شرح الشريف الجرجاني، والكرماني، ولعل المرحوم يستعين بالأول لفك مستغلقات ألفاظ متن مواقف العضد، وحل رموز ألغاز إشاراته. وكذا الكامل لأبي العباس ابن المبرد المتوفى سنة [258ه] ختموه مرات وكرات.
كتبه ومصنفاته:
أخبرني نجل العلامة الدادسي الأستاذ عبد الكريم أن والده كان كثير الكتابة دائم التحرير عثر على كثير من المسودات والأشعار لما نقل قبل أيام الدفعة الثانية والأخيرة لخزانة والده من تنالت إلى مسقط رأسه بإكلي، وفيها دفاتر كثيرة، ومسودات فيها معلومات مختلفة عن حياته العلمية، وتفاصيل مثيرة عن تقلبات حياته.
غير أن الفقيد عرف له بين أوساط أهل العلم أن له كتابين الأول: سماه: “لفت الأنظار إلى قرة الأبصار في سيرة المشفع المختار” وهو شرح لأرجوزة اللمطي، في السيرة النبوية نشرته دار قرطبة للطباعة والنشر سنة 1996.
وسلك في تحقيقه مسلك الفقهاء المتأخرين دون التقيد بما يسمى في البحث الأكاديمي المعاصر بمناهج التحقيق، وما يُعرف بتقنيات أصول التوثيق، لذا قال في مقدمة شرحه المذكور ص/ 15: “والمناهج عارضة للتطوير ولكل ذوق ولا حرج في النقل..” وكأن المرحوم توقع أن تثير طريقة تحقيقه نقد الباحثين المعاصرين لذا قال في خاتمة تقدمته ص/ 17: “ومن تردد في تصديق هذا فلينزل إلى الساحة” وقدم له بمقدمة ضافية مشحونة بعلم غزير كل هذا مع إيجاز اللفظ واستيفاء المعنى.
قلت: لو استل اسمه من الكتاب لما ترددت في نسبته إلى عصر الحافظ ابن جحر مما يدل على تضلعه في قواعد الجرح والتعديل، وامتلاكه لناصية اللغة، بل ومن تأمل تلك المقدمة سيعتقد أن الفقيه ربما أفرغ حياته كلها لخدمة نقد تاريخ دواوين السيرة النبوية وحدها، وأنه ربما لا يحسن غيرها، فلتراجع.
والكتاب الثاني: “غنية الأعزل على موطأة ابن المرحل” وهو آخر كتبه المطبوعة نشره سنة 2016 وهذه الأرجوزة هي في الأصل نظم فصيح ثعلب، وحمله على شرحها كما قال في استهلال خطبته: “ما كان يجري على ألسنة الفضلاء من أساتذة التعليم العتيق من بعض الأشطار من أرجوزة ابن المرحل التي تلاعبت بها الألسنة..”.
وعثرت له على مقال نشر في ندوة سيدي الحاج الحبيب التنالتي حول شيخه المذكور من ص/ 25-27 وشارك مؤخراً في ندوة “جهود السوسيين في السيرة النبوية” بكلية الشريعة بأكادير.
وله قصائد عدة بعضها مبثوت عند تلاميذه، والمطبوع منها قليل، كقصيدة طويلة يمدح فيها شيخه أنشأها 5 ربيع الثاني 1388ه-1967م، موجودة في كتاب: الرتائم الجميلة للأستاذ الفارسي ص/ 109-110-111. وأخرى نشرت بمجلة الكلمة كما أخبرني بعض محبيه، وأخرى حول حرب العراق، ومرثيات كثيرة لو جمعت لربما خرجت في ديوان، ولا شك أن ابنه الأستاذ عبد الكريم سيتتبعها لتطبع إن شاء الله.
ومما يراج بين الطلبة أن المرحوم يشتغل في تأليف تفسير القرآن منذ مدة، لأنه كان يلقي دروساً في التفسير على قناة السادسة، ويراجع أمهات كتب التفسير، ووصل فيها إلى سورة يوسف، علاوة على تقلده عضو هيئة الإفتاء بالمجلس العلمي الأعلى، ولا شك أنه له فتاوى مستقلة محررة، وقد شافهني الفقيه سيدي الحاج صالح عميد مدرسة إلماتن بأحدها والفقيه سيدي الغالي شخص كتوم لا يصرح بما يشتغل به، ولعل خزانته ستحمل لا محالة عدداً من المشاريع العلمية.
علامات حسن الخاتمة:
أخبرني بعض طلبته الأوفياء أنه ذهب لموسم تعلات فقرأ الحزب الراتب مع الطلبة، وجلس بينهم في دائرة مقوسة وكأنه منهم، وأبى أن يؤم الناس، وأمر نائبه على خلاف عادته بالإمامة، فكأنه إشارة ضمنية إلى استخلافه، وطاف في الموسم، وشاهد تحزابت في المقصورة الكبيرة، وزار عدداً من الفقهاء والمقرئين، وانتخب بعضاً من تلاميذه القدماء، فقرؤوا سورة يس كما جرت بها العادة هناك، وهو الذي أفاقهم صباحاً فصلوا الصبح، وقرؤوا الحزب، وكان له اهتمام بالغ الأهمية في ذاك الموسم بالزوار، وشغف بمحبيه الأوفياء، ولهف بطلبته القدماء، أحس به من خالطه في مواسم سابقة، ولم يمض على موسم تعلات إلا أقل من شهرين حتى لبى نداء ربه.
ولوحظ عليه كذلك في الفترة الأخيرة أنه يعتني كثيراً بالطلبة الذين يحفظون القرآن ويبالغ في مراقبتهم، ويجلس في مجلسهم يسمعهم يتلون كلام الله، وأحياناً ينشط ويرشهم بالروائح الطيبة ويبتلهم بالعطور الزكية، ويديم النظر فيهم، ويسأل عن فلان لماذا لم يحضر ؟ ويشير للآخر بيديه إشعاراً بالاجتهاد، ويبتسم في وجوههم، ويقلب الألواح موجهاً مصححها قائلاً له: لا تخلط أواخر الكلمة بالوقف لكي يعلم الطالب حركات أواخر الكلم.
وهكذا دأبه في أواخر حياته بدأ يطوف في مجالس القرآن، ويطيل النظرات في القراء، واستغرب المؤدبون ذلك، ولم يعلموا سر تلك المحبة، ولا فطنوا لسبب ذاك التعلق، وكأن حاله عندهم مريب، ولم يعلموا أن الفراق قريب، ومن شدة الظهور الخفاء، وله غير هذا أخبرني به تلميذه الفاضل سيدي عبد الجليل كداح، سأذكره بتفصيل في رسالة مستقلة.
وفاته:
توفي رحمه الله قبيل صلاة الجمعة 29 رجب 1440 هجرية الموافق ليوم 5 أبريل 2019 قرب الساعة الثانية عشرة، أثناء قيامه بسنة الاغتسال التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم لحديث سلمان الفارسي المروي في الصحيح “من اغتسل يوم الجمعة.. غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى” وحديث أبي هريرة المشهور المخرج في صحيح مسلم، وظاهر كلاهما يدل على الاعتناء بمحاسن الفطرة، والتزين عند الشروع في العبادة، جمعاً بين الأجر الدنيوي، والثواب الأخروي.
ولا شك أن نفس الفقيد في ذلك اليوم المبارك متشوفة إلى حصول ذلك الأجر في الدنبا، بيد أن تصاريف القدر شاءت أن تلقى الروح ربها في الآخرة، والأرواح كما قال المصطفى جنود مجندة، مما يدل على حسن الخاتمة، والفوز بجميل العاقبة، وقد اشتاط محبوه غضباً لطريقة موته؛ لكن أبا نصر عبد العزيز المعروف بابن نباتة الشاعر أسكن غضبهم بقوله:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الأسباب والموت واحد
مدفنه:
بدأت الحشود تتقاطر على مُصَلَّى العيد الكائنة بجوار منزل الفقيد بدوار إكلي، لأن الجامع الكائن في تلك البلدة ستضيق رحابه بكثرة المتشيعين، ويتعذر اتساعه لكل للمصلين، وما هو إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى غصت المصلى بحشد من الطلبة القدماء الذين تتلمذوا على الفقيه، ومعارفه، ومعهم لفيف من أعيان قبيلة إكلي ووُجهاؤها، يتقدمهم -إلى جانب أفراد أسرة الفقيد- وفد رسمي من السلطات المحلية بمدينة تارودانت، والمنتخبون، وكذا رؤساء المجالس العلمية بالجهة، ومندوبو الشؤون الإسلامية، وغيرهم من عامة الناس في كل ربوع سوس خاصة، وفي خارجها عامة.
وبعد تراص الصفوف وانحناء الرؤوس أمام ذلك المصاب الجلل، صلى الناس صلاة الظهر وتقدم للصلاة تلميذ المرحوم سيدي عبد الله هريد، بعد ذلك تقدم العلامة الدكتور سيدي اليزيد الراضي رئيس المجلس العلمي لتارودانت فألقى كلمة مؤثرة حول الفقيد تدل على مكانة الرجل ورصانة علمه، ورجاحة عقله، وزهده وورعه. ثم صلى على المرحوم أخوه سيدي الحبيب، ونقل جثمانه بعد ذلك للمقبرة.
الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ * ويعظم الرزء فِيه حين يفتقد
تعزية جلالة الملك محمد السادس للفقيد:
فور وصول نبإ وفاة العلامة محمد الغالي الدادسي عضو المجلس العلمي الأعلى إلى شريف علم أمير المؤمنين محمد السادس؛ سارع إلى إرسال برقية تعزية لعائلته، ليشاركهم ذاك المصاب الجلل، وقد راسلت ابنه الأستاذ عبد الكريم فأرسل لي مقطعاً من البرقية المذكورة قال جلالته:
“وإذ نشاطركم أحزانكم في هذا المصاب الأليم؛ لنبتهل إلى الله تعالى أن يثبت الفقيد على ما قدم بين يدي ربه من أعمال مبرورة في خدمة دينه ووطنه، ويجعل من تقواه وعمله وسيلة لمرضاته تعالى وحسن جزائه بما يجازي به العلماء العاملين والأتقياء الصالحين..””.
المرثيات والتعازي:
بعد وفاة العلامة اللغوي الشاعر الفقيه المحقق سيدي الغالي الدادسي بساعات؛ تناسلت في المواقع الاجتماعية عدة قصائد ومرثيات، وأشهرها شيوعاً، وأكثرها تداولاً؛ قصيدة شيخنا الدكتور محمد الروكي الموسومة: “فقيد تنالت” في 15 بيتاً، والقصيدة الماتعة للدكتور مصطفى محمد متكل 21 بيتاً تحت عنوان: “فَجعة الأيتام” ومرثية الدكتور المحقق محمد بن علي زنداك سماها: “عبور الأفذاذ” 34 بيتاً، وقصيدة “اليوم في كدر” للفقيه الحانفي مولود بن عبد الرحمن الجعفري الأقاوي في 32 بيتاً، والحسين كاظم الذي ترجمها:ب “الجو أظلم بعد ما غاب القمر” في: 25 بيتاً، والشاعر عبد الله حدو 23 بيتاً وسَمَها ب: “أعزي الضاد في ركن تداعى” والشاعر بكرار عبد الرحمان 15 بيتاً عنونها ب: “حبيب القلب” والشاعر عالي بركوز 22 بيتاً تحت عنوان: “رحل الغالي” وقصيدة “الفارس المغوار” لجمال محب، في 24 بيتاً، والشاعر عبد الرزاق الجوزي الغجدامي 20 بيتاً، سماها “النكبة”وعبد الرحمان أخراز 22 بيتاً. وقصيدة “وداعا يا غالي” لمحمد أمرزاك، في 15 بيتاً، ومرثية الفقيه سعيد إبلق، في 8 أبيات، ونشرت عدة قصائد غير معزوة لأحد كقصيدة “عز الفراق” في 19 بيتاً، وغيرها.
ووقفت على مرثية مشتركة وحيدة بين عدد من شعراء سوس في نحو 51 بيتاً، يتقدمهم أحمد بوسالم السملالي، وأحمد عبدايم، ونور الدين البركي، وعبد الرحيم الكشير، ورشيد بولحسين، وإبراهيم وادي الرحمة، ومحمد مستقيم، ومساوي ابراهيم، وإبراهيم تامري، وأبو عدي الوجاني، وهاشم الإفريقي، وعبد الكريم العبدلاوي، وعبد الهادي أسليماني، وعبد الله حدو، وأحمد البعقيلي، وأيت بلا علي، ولكل من الشعراء الستة عشر بيتان إلى خمسة، حتى تجاوزت بمجموعها خمسين بيتاً، وهي رائية على بحر البسيط، فهي وإن كانت مختلفة الألفاظ والمباني، إلا أنها متحدة المقاصد والمعاني.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه، وألهم ذويه الصبر والسلوان،
إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكتبه الحسين أكروم ببيوكرى
20 شعبان 1440
من هجرة المصطفى
صلم الله عليه وسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.