عشية زيارة بوريطة، موسكو تعتبر المغرب "شريكا مهما" لروسيا في القارة الإفريقية    الهيئة الوطنية للنزاهة توقف صفقة عن الفساد في "الصحة" بعد تحقيق كشف ارتباط نائلها ب "أكديطال"    هذا الموريسكي..ما يكتبه الماء لن يقرأه أحد (3)    هشام الدكيك يستدعي 23 لاعبا للمشاركة في وديتي المغرب ضد إسبانيا    ريتشارد ديوك بوكان الثالث يحل بالمغرب سفيرا جديدا لواشنطن... ذو خلفية اقتصادية ومقرب من ترامب (بروفايل)    طقس الخميس ..امطار متفرقة مرتقبة بالريف    لقاء يجمع ولد الرشيد ببرلمان "سيماك"    أحكام ثقيلة ضد مثيري الشغب بسوس    حسن طارق ينوه بمنشور رئيس الحكومة الداعم للتعاون بين الإدارات ومؤسسة الوسيط    تحذير أممي من زيادة ثاني أكسيد الكربون في الجو    منتخب الفتيات ينشد التألق المونديالي    الذكاء الاصطناعي الدامج يفتح آفاقاً جديدة للشركات في الاقتصادات الناشئة    رئيس مجلس النواب يتباحث مع الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالمغرب    نشرة إنذارية: زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بهبات رياح مرتقبة غدا الخميس بعدد من مناطق المملكة    بسبب المهاجرين غير النظاميين.. تشديد المراقبة الأمنية بمحيط الفنيدق    طنجة.. نهاية مطاردة مثيرة لمتهم فرّ من الأمن خلال إعادة تمثيل جريمة قتل    استخراج جثة الطفل الراعي بميدلت    محكمة الإستئناف بتونس تصدر أحكاما في قضية اغتيال شكري بلعيد منها حكمان بالإعدام    تجدد المطالب لأخنوش بالحد من خسائر تعطيل التكرير بمصفاة "سامير" والحفاظ على حقوق الأجراء    «تمغرابيت».. عمل فني جديد يجسد روح الوطنية والانتماء في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    عبد الله ساعف يحاضر حول «العلوم الاجتماعية في المغرب» بتطوان    «مغربيات ملهمات» لبنحمو بالمقهى الثقافي بالرباط    طنجة تتربع على عرش السياحة بالمغرب سنة 2025..    مهرجان الدوحة السينمائي يسلّط الضوء على الأصوات العربية المؤثرة لإلهام الجماهير العالمية    "أشبال الأطلس" على موعد مع التاريخ في نصف نهائي مونديال الشباب    لقاء بنيويورك يعزز التعاون اللامركزي بين جماعتي الداخلة وغريت نيك الأمريكي    الجزائر المتآمرة تشعل حرباً رقمية ضد المغرب وتستدعي "جنودها الافتراضيين"...    علامة الأزياء العالمية «GUESS» تحتفل بالذكرى الخامسة والأربعين بمؤتمر «عالم واحد، علامة واحدة» في مراكش    والد جندي إسرائيلي: "حماس" سمحت لابني بالصلاة 3 مرات يوميا وكانت تعطيه كتاب "سيدور" للصلاة منه    "ذاكرة السلام" شعار الدورة 14 لمهرجان سينما الذاكرة المشتركة بالناظور    المنتخب المغربي... رمز للوحدة الوطنية لا ساحة لتصفية الحسابات    ليكيب الفرنسية تكتب: ياسين جيسّيم.. جوهرة دنكيرك التي تبهر العالم بقميص المغرب في مونديال الشباب    المجتمع المدني والديمقراطية    في ‬مفاهيم ‬الخطاب ‬الملكي:‬ من ‬تأطير ‬المواطنين ‬إلى ‬ترسيخ ‬ثقافة ‬النتائج    نزهة بدوان: "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء" ترسيخ للمحلمة الوطنية    بركة: الموسم الفلاحي المنصرم سجل تحسنا نسبيا    أسعار الذهب ترتفع قرب مستوى قياسي جديد    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    وليد الركراكي: التصفيات الإفريقية المؤهلة لمونديال 2026..المنتخب المغربي يواصل استخلاص الدروس والتحسن استعدادا لكأس أمم أفريقيا    الملك يترأس مجلسا وزاريا للتداول في توجهات قانون مالية 2026    إسرائيل تستعد لإعادة فتح معبر رفح للسماح بدخول شاحنات المساعدات إلى غزة    أمني إسرائيلي يعلن التوصل بجثة رهينة "خاطئة"    أزيد من 36 ألف شاب دون 40 سنة استفادوا من برنامج دعم السكن منهم 44.5 في المائة من النساء الشابات    برلماني يسائل تدبير مؤسسة في وجدة    واشنطن.. صندوق النقد الدولي ومحافظو بنوك مركزية إفريقية يجددون تأكيد التزامهم بالتنمية المستدامة في إفريقيا    تتويج جمعية دكالة ضمن أفضل جمعيات المجتمع المدني بالمغرب في اليوم الوطني لمحاربة الأمية    كرة القدم: 16 فوزا متتاليا.. رقم قياسي عالمي جديد من توقيع أسود الأطلس    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    دراسة يابانية: الشاي الأخضر يقي من مرض الكبد الدهني    المغاربة متوجسون من تداعيات انتشار الأنفلونزا الموسمية خلال فصل الخريف    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة الحوارِ الثّقافيّ حولَ "صهيل" للشّاعر يحيى عطالله
نشر في السند يوم 28 - 02 - 2010


الجزء الثاني:
في قصيدتِهِ "قفا نبْكِ" يعلنُ ثورتَهُ إلى حدّ التّماهي مع عروبتِهِ، إلى جانب نقمَتِهِ على العروشِ العربيّةِ الّتي باتتْ متأمركةً، فيَخلُصُ بنتيجةٍ واحدة هي أنّهُ ليس للفلسطينيِّ إلاّ أن يأخذَ مصيرَهُ بيديْه، لتظلَّ القدس عاصمةً لدولتِهِ، وسلاحُهُ البكرُ هو الحجرُ الأبكمُ الأصمُّ الّذي نطقَ ثورةً وكبرياءً في أيدي أطفالِ الحجارة الشّجعان، ليتحوّلَ كلٌّ منهم إلى داوود، ومقلاعُهُ مقابلَ سطوةِ الجبّار عملاق الرّدى، وليبقى الفلسطينيُّ وحيدًا لأنّهُ لم يبْقَ في وادي الشّرِّ أُسدٌ سواه،
كلُّ ذلك على الرّغم مِن أنّ إخوتَهُ كثيرون بعددِ الحجارةِ الثّائرة، ولكنّهم لا يُساندونَ هذا الشّعب إلاّ بالكلماتِ، وهكذا سيمضي وحيدًا، فسلاحُهُ الحجارةُ وإيمانُهُ بعدالةِ قضيّتِهِ، ولمّا كانَ يرى في قضيّةِ العراق قضيّةً فلسطينيّة، وهو الإنسانُ المؤمنُ بعروبتِهِ إيمانًا وثيقًا وراسخًا فيه طُهرُ العروبةِ المقهورةِ والمهزومة، فإنّه يرجو خَلاصَها مِن نيرِ الاحتلال بكلِّ ثمن، وبالمقابل يشنُّ هجومًا عنيفًا على قادةِ وزعماءِ العالم العربيّ، فيُسمّيهم "عرب الطّزّ" و"لعنة الأمّة"، ممّن أتخمَهُم شحمُ النّفط فنَسَوْا أمّهاتهم، حتّى أنّ أقفيَتَهم باتتْ لا يُدفئُها سوى كراسي الحُكم. من هنا فإنّهُ لا يؤمنُ باجتماعاتِ رؤساءِ العرب ولا بقراراتِهم، خاصّة وأنّ كلّ إنسان يعي صعوبةَ اتّخاذ القراراتِ المصيريّة الّتي ستقفُ كلّ دول العالم ضدّها.
فؤاد السّنيورة هو رئيس حكومة لبنان، بكى وهو يطرحُ موضوعَ العدوان الإسرائيليّ على لبنان، بينما تقف الدّولُ العربيّةُ متفرّجةً، حيث يقولُ للسنيورة: أنا يا فؤاد أمام عينيْكَ أنحني وأُجِلُّ دمعَكَ مِن صميم فؤادي
فانظرْ إليه يتلاعبُ بالكلمات، فؤاد سنيورة وفؤاده هو في جناس تامّ، وينتقلُ خلالَ القصيدةِ إلى تناصٍّ خاصٍّ عندما يذكرُ أرضَ الميعادِ الّتي وَعدَ بها الله أبانا إبراهيم الخليل بقولِهِ:
ستّين عامًا في فلسطينَ استُبِحْنا كالشّياهِ لصاحبِ الميعاد
ويلجأ ثانية الى التّناص في صفحة 78 في قصيدتِهِ "اعشقيني" حيث يقول: اعشقيني حافزا للرّاجفة. والرّاجفة كما يُبيّن في الهامش هي النّفحة الأولى في الصّور يومَ القيامة، وبالرّغم مِن موضوع الوطنيّة الّذي نحن بصددِهِ، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعْهُ مِن اللّجوءِ إلى لغةٍ فنّيّةٍ رفيعةِ المستوى، حيث يلجأ إلى المُحسّناتِ البليغةِ فيقول في نفس قصيدته لفؤاد السّنيورة: والآن غزة تستحمُّ بدمِها وتنوءُ تحتَ القاصفِ الهداد/ أعلافُ أمريكا تبطّر خيلَهُ وتمدُّهُ بتفوّق وعتاد/
ويجدُ عذرًا لدموع السّنيورة بقولِهِ: لا غرو إن غرقَ الرّجالُ بدمْعِهم وتلفّعتْ كلُّ النّسا بسواد
فكيف تستحمُّ غزة بدمِها وكيفَ يغرقُ الرّجالُ بدمعِهم؟ كنتُ أفضّلُ كلمة يَشرَقُ بدلاً مِن (يغرق)، وهو إذ يرى دموعَ السّنيورة إزاءَ الوزراء العرب الّذين لا حول ولا قوّة لهم، يدعو فؤاد إلى نزْفِ دموعِهِ بقولِهِ:
فاذرفْ دموعكَ يا فؤاد فإنها فيضُ الأسى من مهجةٍ وفؤاد
أمّا في قصيدتِهِ إلى أحرار الجولان ص 37، فيكثر من التّلاعب بالكلمات والبلاغة بالجناس:
في مجدل الشّمس ارتقتْ وترعرتْ في الشّمس من أسمائهم أسماء (جناس تام)
وبعين قِنيا لا تلينُ قناتهم وبسعد "مسعدة" هم السّعداء (جناس غير تام)
أمّا إذا بسط السّلام بساطَهُ تحتَ الرّبيع فشعبك المعطاء (وهذه محسّنات لفظيّة بليغة)
مِن هنا نستطيع أن نفهمَ لماذا اختارَ شاعرُنا اسمَ "صهيل" يتوّج به ديوانه، لأنّ كلمة الصّهيل تُعيدنا إلى أمجادِ العرب القدامى الّذين اعتنَوْا بالخيل وربّوها، واعتلَوْا صهواتِها في حروبِهم منذُ فجرِ الإسلام، ولأنّ الحصانَ كانَ دبّابةَ العصورِ القديمةِ والوسطى حتّى مطلع العشرين.
ديوان صهيل والحداثة:
الدّيوانُ الممّيز هو ذلك الدّيوان الّذي يقرؤُكَ إذ أنتَ تقرؤُهُ، فلا تأتي على آخر فصْلٍ مِن فصولِهِ حتّى تحسّ أنّك كنتَ جدولاً فأصبحتَ نهرًا، أو كنتَ نهرًا فأصبحت بحرًا، أو كنتَ تُفتّشُ عن بابٍ فانفتحتْ في وجهِكَ عدّةُ أبوابٍ، وتُفتّشُ عن أفقٍ واسعٍ فتنكشفُ لكَ آفاقٌ تُتاخمُ الأزلَ وأبدَ الآبدينَ على حدّ تعبيرِ ميخائيل نعيمة في كتابِهِ "الغربال الجديد" ص 203.
أمّا الكتابُ الّذي تنشرُهُ فيطويكَ، ويأخذُ منكَ ولا يُعطيكَ ويَسلبُكَ فيُضلُّكَ، فهو كتابٌ سوادُهُ على بياضِ أوراقِهِ وعلى السّاعاتِ والأيّام المهدورةِ في تصنيفِهِ وطبْعِهِ وتصديفِه، والفنُّ الشّعريُّ يجبُ أن ينضحَ بالحيويّةِ والحركةِ، وأن يضجَّ بالحياةِ بأوسع مفهوم لها بدلاً مِن الرّكودِ والسّكون، والصّهيلُ هو الحياةُ الصّاخبةُ الّتي عشناها مع هذا الدّيوان، وهو ككلِّ عِلم يُساعدُنا في معرفةِ أنفسِنا لِما فيه مِن دخانٍ ونورٍ ونارٍ متوهّجةٍ،
وصهيلُ هذا الدّيوان مليءٌ بالوهج والنّور الدّافقِ المُعبّأ بالفراشات على ألحان الخليل دونَ تكلّفٍ أو صناعةٍ، فيخلقُ نفسَهُ مِن خلال قصائدِهِ، ولو لم يعمل ذلك لجاءَ شعرُهُ سخيفًا وفارغًا بلا معنى وبلا قيمة، ومِن خلال الصّراع بين الكلاسيكيّ والمُحدَث، يصنّفُ شاعرُنا نفسَهُ مع الصّنف الأوّل، وهو الشّعر على طريقةِ بحور وقوافي الخليل بن أحمد، ولا يرضى ولا يطيقُ الشّعرَ على طريقةِ الحداثة والحداثيّين.
في فلسفةِ الحياة:
في قصيدتِهِ "أهيمُ ملءَ جنوني" الّتي هي من أروع قصائدِ هذا الكتاب، وجدتُ شاعرًا وفيلسوفًا ومُفكّرًا تأخذُهُ القوافي وبحورُ الشّعر إلى مسافاتٍ بعيدةِ المدى، فيسرحُ فيه الخيالُ إلى عالم الأوهام والسّحر، فيَصُفُّها على الورقِ سطرًا سطرًا، لتأتي قصائدُهُ عنقاءَ مُطهّمةً تعدو وتصهل في حوماتيّة الشّعر، ثم يتساءلُ، ألا تستطيع الخيلُ الرّقيّ إلى القمم العاليةِ، وهي معشوقة النّسور حيثُ يهوى الإقامة هناك بينَ القمم، كي يُشفي ما بنفسِهِ من داء؟ يبدأ قصيدتَه بقوله: أهيمُ مِلْءَ جنوني في سفرٍ مرّ المسافة بينَ الرّوح والحبر
ونحن نسألُهُ عن هذه المسافة بين الرّوح والحبر كم تكون، بالأمتار أم بالأميال؟ ثمّ لماذا يهيمُ ملءَ الجنون؟ ثمّ في هذه المسافةِ يُتابعُ رحلتَهُ في بحور الشّعر، فتأخذُهُ الهواجسُ ليرتقي إلى الجبال العالية، لأنّ القصيدةَ عندَهُ تشبهُ عناقَ الخيل إلى حدٍّ بعيد، فالقصيدةُ عنقاءُ مطهّمةٌ وهذهِ صفاتُ الخيل. ولكن في غزليّاتِهِ وحسب التّواريخ الّتي ذيّل بها قصائدّهُ، كان قد كتبَ معظمَ غزليّاتِهِ في فترة الشّباب والصِّبا، فإذا كانَ هذا صحيحًا، أي أنّ بعض القصائد كُتبت قبل حوالي 20-25 سنة، فلماذا أدخلَها في هذا الدّيوان ولديهِ مِن الشّعر الشّيء الكبير؟ فهل هو الخجلُ مِن العشق وقد تجاوزَ العشرين عامًا بقليل؟ أم حقيقة؟ فقصيدة "اعشقيني" كُتبتْ عام 1986، و"تنتظرين" عام 1981، أي عندما كانَ في العشرينات مِن عمره، ومع ذلك فغزليّاتُهُ الأخرى تعودُ إلى الأعوام 2006 و2008 وهلمّ جرّا.. وأنا لا أرى في القصائد الغزليّةِ غضاضةً مطلقًا، فالغزلُ يكتبُهُ الكهولُ كما يكتبُهُ الشّباب، والصّبايا الحِسانُ يعشقنَ شعرَ الغزل على قول أحدهم: والغواني يغرّهنّ الثناء!
في هذا الدّيوان يبدو صاحبُنا متعصّبًا للقصيدةِ الكلاسيكيّةِ على بحور الخليل بن أحمد، بعيدًا عن الشّعر الحُرّ وشعر الحداثة، حتّى أنّه يهزأ بهذا النّوع مِن الشّعر الدّخيل على اللّغة العربيّة، فيخاطب حصانه ص 48 بقوله في قصيدة صهيل: الخيلُ مِن فجر الدنى كانتْ خميرَ خرافة/ كانت نفيسة أهلها وشعار بادية كريمة/ كانتْ فتيلَ حماسة وصديقة الشعر الحميمة/ كانت وقودَ قصائد الفرسان/ تحملُهم إلى عزّ النّشيد إلى لهيب قصيدة/ والآن في برد الحداثة أين اسمُك يا حصان؟/ وأين رسْمُك في القريض وأنت رمز حماسة؟
إذًا هو يريدُ الشّعر الموزون المقفى، ولذلك يتابعُ أسلوبَهُ على الموزون المقفّى على الغلافِ الخارجيِّ الخلفيّ للدّيوان، وهناك عدّة دوافع تجعلُ الشّاعر يكتبُ باللكلاسيكيّة: لأنّ الشّعرَ الموزونَ المقفّى أسهل للحفظ/ لأنّ إلقاءَ القصيدة الكلاسيكيّة أقربُ إلى القلب بسبب جَرْسِها الموسيقيّ/ لأنّ هذا الشّعر له رنينٌ خاصٌّ في الأذن/ لأنّ أصحابَهُ يعتقدونَ أنّ الشّعرَ المُحدَثَ هو شعرٌ غريبٌ على اللّغة العربيّة ومستورَدٌ، لذلك يجبُ عدم الاهتمام به، لأنّ شاعرَنا يريد أن تكونَ القصيدةَ رنّانةً خطابيّة، يسمعُها السّامعُ فيطربُ لدى سماعِها،
ومع عدم محبّتِهِ لشِعر الحداثةِ إلاّ أنّه في قصيدته "أنا" يعود فيكتبُ الشّعر المُحدَث، ولكن بدون تعميةٍ أو إبهام، وقد يكتب القصيدة المحدثة مع كونِهِ ينتمي إلى الطّائفة المعروفيّة، إلاّ أنّه يعاقرُ الخمرةَ حتى ويتغزّل بها. وأخيرا يخرج الشّاعر في قصيدتِهِ الأخيرة عن اللّغةِ الفصحى "زهر اللوز" ص 109، في أغنيةٍ للشّاعر محمود درويش وباللّغة العامّيّة. هذه القصيدة غنائيّة وتصلح للتّلحين، فهي على البحر المحدث الّذي تفعيلاته فاعلن أو فاعل أربع مرات في كل شطر، وهي تبدو راقصةً حيث تنسابُ الكلماتُ مع اللّحن النّاعم في انسجامٍ تامّ، ومع كونِها أغنية راقصة إلاّ أنّ بين سطورها الشّيءَ الكثير من الوطنيّة الصّادقة، مع أمل أن يعودَ اللاّجئون إلى قراهم وأوطانِهم، فالشّاعر محمود درويش عاشَ الغربةَ عن مسقط رأسه "البروة" في الجليل، ومن حقّ أبناء البروة وغير البروة من الفلسطينيّين الّذين يعيشون في خيام الذّلّ والتّشرّد العودةَ إلى ديارهم، تمشيًا مع قرارات هيئة الأمم المتّحدة الّتي تضمنُ حقّ تقرير المصير. أخيرًا نقول للأستاذ يحيى عطالله تحياتنا لك أيّها الشّاعر المجيد، وليبْقَ قلمُكَ سيّالاً وشعرُكَ صهيلاً مُهلهلاً، يدخلُ شغافَ القلوب فيُطربُها في حماسٍ كلّهُ متعة وبهجة!
الشاعر جورج جريس فرح: قراءة عابرة في مجموعة "صهيل" للشاعر يحيى عطالله
يقع ديوان شاعرنا يحيى عطالله في 112 صفحة من القطع المتوسط ويشمل 29 قصيدة. قدّمت له الأديبة الباحثة راوية بربارة، فاستهلّت بقولها: هو حبرٌ تأخر فوحُ طيبه، لكنَّ أريجَ المسكِ يفضحُ صاحبَه.
اختار شاعرنا تسمية ديوانه "صهيل" وهو عنوان قصيدة من المجموعة وردت في صفحة 72 يختتمها بقوله:
ما الشعرُ إن لم يستفزَّ؟ وما القصيدة ياترى؟/ إن لم تكن مثلَ الصهيلِ، يرنُّ في سمعِ الورى؟
يستدعي الشاعر كلماته مما ينسجم مع حالته الوجدانية، فجاء صهيلهُ في قصائدة التي طرق فيها مختلف المواضيع صارخًا مدويًا، صادقًا وشفافًا. وقد صهل متألمًا لما آلت إليه الأمة من هوانٍ، فقال في قصيدة "قفا نبكِ"، التي يذكّرنا عنوانها بمعلقة امرئ القيس:
أين الكرامة يا ترى؟ / أتُرى يطيب مقامُها في أمّةٍ/ ما زال فيها الخبز أكبرَ مسألةْ؟/ والسقفُ أصعَبَ مُعضِلَة؟
وصهل في قصيدة "يا فرات" متألمًا لما حل بالعراق من تفكك وتشرذم:
أُثقِلتَ بالدفقِ المريرِ وقد غدا فيكَ الخريرُ قصيدة الأحزانِ
لا تشكُ من بغيِ الغريب بقدرِ ما تشكو من الأخواتِ والإخوانِ
ماذا يضير الشمسَ لو من حولِها قمرٌ وحيدٌ دارَ أو قمرانِ؟
وصهل مُطلقًا صرخته، متهكّمًا في "قمَة ماذا؟":
يا عربَ "الطزِّ"، ويا لَعنةَ هذي الأمَّةْ/ يا من يُتخمُكمْ شحمُ النفطِ / فينسى الواحدُ منكم أمَّه!
وصهلَ متألمًا لألم لبنان حين بكى الرئيس سنيورة، وللإخوة المقتتلين في غزّة، وصهلَ للجولان في عيد الجلاء، وللولد في قصيدة "يا بني"، وصهل معاتبًا دنياه في قصيدة "حتى متى؟" وصهل حاثًا المرأة في قصيدة "تعلَمي": إني رأيتكِ في اوراقِ داليةٍ فهل أراكِ على أعتابِ مُختَبَرِ؟
إلى أن يقول: يا نصفَ أمتنا المهدورَ طاقتُهُ يا نصفَ أغنيةٍ ينأى عن الوترِ
وفي هذه القصيدة ذاتها يتناول الشاعر تقاعص الأمة وتخاذلها عن مواكبة روح العصر:
من الخليجِ إلى إفريقيا دولٌ ما عندها مصنعٌ للشمعِ والإبَرِ
وأمة لبست من غير مغزلها واستوردت لبنًا من أغربِ البقَرِ
واستوردت دمها من قلبِ مَثلَجَةٍ واستجلبت فِكَرًا من تاجر الفِكَرِ
وهنا لا بد من وقفة للإشارة إلى أن بعض القصائد لا يخلو من الهِنات، فمثلاً: عجز البيت الأخير من الأبيات أعلاه ورد في الكتاب: واستجلبت فِكرَها من تاجر الفِكَرِ. الكلمة "فكرها" تخلّ بالوزن، لذا فقد قرأتها: "واستجلبت فِكَرًا" لتتجانس مع "واستوردَت لبَنًا".
وأما مضمون الأبيات ذاتها، فإنه يحيلنا إلى جبران خليل جبران في قوله: ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر.
والتناصُّ في بعض قصائد يحيى يستدعينا لاستحضار صور من التراث الشعري الأصيل.
فمثلاً، البيت: هل كان دمعُكَ في الحوادث غاليًا لتهلّه في حضرةِ الأوغادِ؟
يستحضر أبا فراس الحمداني في القصيدة التي يقول فيها:
لقد كنت أولى بالدمع منك مقلة لكن دمعي في الحوادث غالِ
وفي نفس القصيدة بيت قال فيه:
لمن اشتكيتَ؟ لمن بكيتَ؟ أما تعي أن لا حياةَ لمن ترى وتنادي
بهذا يستحضر البيت الشائع:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
وهو بيت اختلف الناس في نسبه إلى شاعر محدد. فمنهم من نسبه إلى عمر بن مَعْدي كرب بن ربيعة الزبيدي، ومنهم من نسبه إلى كُثَير بن عبد الرحمن بن الأسود (كثير عزَّة)، كما ورد البيت مُقتبسًا في قصائد لكبار الشعراء مثل بشار بن برد وعبد الرحمن بن الحكم وغيرهما.
في قصيدة أنا، تتجلّى عِزَّة نفس الشاعر وإبائه واعتداده بخصاله ونقاء سريرته، وشجبه للرياء والنفاق:
وليسَ لي بعضٌ هناكَ وبعضي الثاني هنا... هذا أنا!
ويختتم القصيدة بقوله:
لكنّما،/ مهما تُغرّرُكِ المُنى/ مهما عَذَلتِ ، وعضَّني منك المَلامُ/ فلن أكونَ سِوى أنا.
يقتحم علينا الشاعر فجأة، وبكل جرأة في قصيدة "دعابة جريئة"، ليقدم لآدم العزاء بفقدان الجنة، وليطمئن الرجل بأنه الرابح من تلك الصفقة، إذ فاز بحواء وأصبح يرى جمالها ومحاسنها، بعد أن كان يراها مجرد جذع شجرة: في الجنة / أنت ترى حواء كأنك تبصر جذع شجرة/ وترى نفسك /تجهل أنك ذكرٌ!
وهو يرى في حب حواء وعشقها، واحترامها، المفتاح بل جواز السفر، للعودة إلى الجنة:
إن كنتَ تحنُّ إلى مثواك الأول... أحبِب حواء أكثر... اطلب حواء.. أنصف حواء... اعشق حواء... علّم حواء.. بجّل.. قدّس...إلخ.
لغة الشاعر سهلة رقيقة، وأما المعاني فقريبة المأخذ، سهلة التداول، خالية من الترميز والتعقيد، معبرة عما أراده الشاعر بكل جلاء ووضوح.
وردت في المجموعة بعض الأخطاء التي أرجو أن تكون مجرد أخطاء طباعية، على سبيل المثال لا الحصر:
1- ص 35 أم يدعوا بقطع بنانكم– والصحيح: أم يدعو (بدون الألف) لأن الواو من أصل الفعل وليست واو الجماعة.
2- ص 69 أصبو إلى حل الظفيرة – والصحيح الضفيرة، فالضفيرة هي جديلة الشعر بينما الظفيرة هي المرأة التي تظفر بكل ما تريد.
3- ص 74 مهما يُغررك المنى – والصحيح مهما تُغررك المنى، فالمنى جمع تكسير، مفردها الأمنية، مؤنث.
عمومًا، لا يسع من يقرأ باكورة إصدارات شاعرنا إلا أن يقرّ بأنه يتحكم بناصية الشعر ويُبحِرُ في غمار بحوره، ويبرز ذلك في قصائده العمودية بشكل خاص. مع أصدق التمنيات له بدوام الصحة والمزيد من العطاء والإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.