منذ أن شرع الإنسان في تشييد أول مسكنٍ يقيه قسوة الطبيعة، وهو يتعلّم من فنّ البناء ما يتجاوز حدود الطين والحجر إلى رحاب الحكمة والفلسفة. فالعمران هو مرآة لسنن الكون وقوانين الحياة. وكما يقوم الصرح على أساسٍ صلبٍ وأرضية مختارة بعناية، كذلك يقوم النجاح على جذورٍ من قيم ثابتة وتخطيط راسخ. وإن العمرانعلى مر الزمان يُعلّمنا أن المجد لا يُبنى دفعة واحدة، بل يُشيَّد لبنةً لبنة، في صبرٍ متأنٍ، حتى يعلو البناء في صمتٍ راسخ ويبلغ القمم. حين نتأمل في سُنن العمران، ندرك أنّ البناء هو مرآة للوجود، وقاعدة كونية تُجسّدها الحياة في كل مجالاتها. فالمبنى الذي يشدّ أبصار الناس بارتفاعه وزهوه، لم يكن في بدايته إلا فكرة، ثم أرضًا مختارة بعناية، ثم أساسًا غائرًا في عمقها. وإن أعظم القصور لا ينهض إلا على تربة مدروسة، وأعظم المشاريع لا تقوم إلا على مبادئ راسخة. ومنه فإن اختيار الأرضية هو الخطوة الأولى، والخطأ فيه يفضي إلى سقوط محتوم مهما كان الجهد بعده. فالأرضية هي رمز للمبادئ والقيم والاختيارات الأولى. إنها البذرة الأولى في حقول الوجود؛ من صلُحت بذرتُه أينع زرعه، ومن تهاون في بدايته حصد شوكًا بدل الثمار. ثم تأتي مرحلة الأساس، تلك الكتفية أو الدعائم الخرسانية المطمورة في باطن الأرض، لا يراها الناس ولا يُشاد بها في الواجهات، لكنها سرّ كل ثبات. فالأساس هو الجزء الذي يقيم علاقة بين الأرض والسماء، بين العمق والعلو، بين ما لا يُرى وما يسطع للناظرين. فكم من بناء شامخ انهار لأنه أُهمل أساسه، وكم من إنسان بدا عاديًا في الظاهر، لكنه ظلّ شامخًا أمام عواصف الحياة، لأنه شيّد داخله أساسًا من قيم صلبة وصبر لا ينكسر. وعندما يكتمل الأساس، يبدأ الارتقاء لبنة فوق لبنة، في نسق صبور لا يعرف القفز ولا التعجّل. إن البناء هنا يُعلّمنا درسًا بليغًا: أن كل صعود وارتقاء حقيقي هو وليد تراكم وصبر، وأن بلوغ كل قمة يتطلب الصعود عبر سلالم صغيرة. والنجاح لا يُولد فجأة، بل يُشيّد عبر أيام وليالٍ من العمل الجاد والهادئ، كأنّ العمران نفسه يكتب شعرًا عن التدرّج: "لا استعجال في قوانين الكون، ولا قفز على سنن الوجود". إنها سنة الحياة في جميع المجالات. ففي العلم، لا يصل الباحث إلى اكتشاف ما إلا بعد مراحل من التدرّب والدراسة والتجريب. وفي الحب والزواج، حيث يُبنى الوفاء على تراكم من المواقف الصادقة. وفي السياسة، لا ينهض الوطنٌ إلا بتخطيط بعيد المدى وصبر على المشاريع الكبرى. حتى في بناء الذات، يولد الإنسان غير مكتمل فيُنحت نفسه بالتدريج، لبنة من الأخلاق، ولبنة من المعرفة، ولبنة من التجارب. ومن يتأمل التاريخ جيدا، يدرك أن الحضارات العظمى لم تُبنَ في لحظة، حيث تطلب بناؤها مسارا طويل امن التأسيس، تخلّلته لحظات من الانكسار والقيام، ومن البناء والهدم، ومن التراجع والتقدّم. وكأن الحضارات مثل الأبنية: ارتفعت حين غُرست جذورها في العمق، واستمرّت حين أدركت أن صعودها وصمودها في القمة يكون بأساسها المتين. فالنجاح إذن هو بناء متدرّج يشبه المعابد القديمة؛ شامخًا، وصامتًا، ومتينًا، وممتدًا فعبر الأزمان. ومن استعجل القمم قبل أن يغرس جذوره، كان كمن يشيّد قصرًا على الرمال، ينهار مع أول ريح، أو كمن يطارد السراب في صحراء، لا يمسك شيئًا منه سوى الوهم. وهكذا، يقدم لنا العمران دروسا ننهجها في فلسفة الحياة: ابدأ بالأرضية، ثم شُدّ الأساس، ثم ابنِ لبنة لبنة. تلك هي سنّة الحياة، وتلك هي الحكمة التي تفرّق بين صروح تخلد، وأخرى تنهار مع أول عاصفة. فمن أراد قصرًا يلامس السماء، فليغرس جذوره أولًا في أعماق الأرض؛ فما علا بلا أساس، كان سقوطه أسرع من صعوده.