باكستان والهند توافقان على وقف إطلاق نار فوري    أنشيلوتي يفتح الباب أمام شابي ألونسو لخلافته في ريال مدريد: "أثبت أنه من أفضل المدربين في العالم"    الأوروبيون يسعون لهدنة مع موسكو    ما هو مصير البوليساريو بعد نهاية النزاع حول الصحراء الغربية؟    الترخيص بزيارة والد ناصر الزفزافي يجذب الانتباه إلى التعاطي الإنساني    ديستانكت ومراد يرويان خيبة الحب بثلاث لغات    من الرباط إلى طنجة.. جولة كلاسيكية تحتفي بعبقرية موزارت    مهرجان "كان" يبرز مأساة غزة ويبعث برسائل احتجاجية    "كان أقل من 20 سنة".. المنتخب المغربي يواجه سيراليون وعينه على مونديال قطر    نهضة بركان يستعد لنهائي الكونفدرالية وسط ترتيبات مكثفة بملعب بنيامين    وكالة الحوض المائي اللكوس تطلق حملة تحسيسية للتوعية بمخاطر السباحة في حقينات السدود    طقس السبت .. زخات رعدية بالريف الاطلس المتوسط    طنجة تستقبل العالم وشوارعها ما زالت تبحث عن التهيئة    بعد وساطة من أمريكا.. باكستان والهند توافقان على "وقف إطلاق نار فوري"    تنظيم استثنائي لعيد الأضحى بالمجازر.. هل يتجه الناظور لتطبيق النموذج المعتمد وطنياً؟    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    تقارير.. ليفربول وآرسنال يتنافسان على ضم رودريغو    اعتصام وإضراب عن الطعام للعصبة المغربية لحقوق الإنسان المقربة من حزب الاستقلال بسبب الوصل القانوني    الفيفا يرفع عدد منتخبات كأس العالم للسيدات إلى 48 بدءاً من 2031    ثلاثة فرق تضمن مباشرة أو عن طريق مباريات السد الصعود إلى دوري الأضواء    الرياض تحتضن منتدى المدن العربية والأوروبية بمشاركة مغربية وازنة    القضاء الأمريكي يجمد تسريح موظفين    الرئيس الموريتاني يستقبل رئيس مجلس النواب المغربي    بالقرعة وطوابير الانتظار.. الجزائريون يتسابقون للحصول على الخراف المستوردة في ظل أزمة اقتصادية خانقة بالبلاد (فيديوهات)    "لجنة طلبة الطب" تتوصل إلى تفاهمات جديدة مع التهراوي وميداوي    المدير العام لمجموعة الوكالة الفرنسية للتنمية في مهمة ميدانية بالصحراء المغربية    حمد الله يكشف المستور.. رفضت التنازل لبنزيما وهددت بالرحيل    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    المغرب يدفع بصغار التجار نحو الرقمنة لتقليص الاقتصاد غير المهيكل    غزة تموت جوعا... كيلو الدقيق ب10 دولارات ولتر الوقود ب27    إمبراطور اليابان الفخري يغادر المشفى بعد فحوص ناجحة    النصيري يستعيد بوصلة التسجيل بتوقيع هدف في مرمى باشاك شهير    مرصد يساءل تعثر التربية الدامجة في منظومة التربية والتكوين بالمغرب    تطور دينامية سوق الشغل في المغرب .. المكتسبات لا تخفي التفاوتات    أسعار النفط ترتفع    إيران وأمريكا تستأنفان المحادثات النووية يوم الأحد    زلزال بقوة 5,3 درجات يضرب العاصمة الباكستانية    بينما تسامحت مع زيارة نتنياهو لأوروبا.. 20 دولة أوروبية تنشئ محكمة خاصة لمحاكمة بوتين    فاجعة انهيار مبنى بفاس تعيد ملف السكن الآيل للسقوط إلى الواجهة وتكشف غياب المنتخبين    سيدي بوزيد. استمرار إغلاق مسجد الحاج سليمان يثير استياء الساكنة    بوزنيقة تستقبل زوار الصيف بالأزبال.. ومطالب للداخلية بصفقة النظافة    "أسبوع القفطان" يكشف المستجدات    البعوض يسرح ويمرح في طنجة.. والجماعة تبحث عن بخّاخ مفقود!    النظام الجزائري يمنع أساتذة التاريخ من التصريح للإعلام الأجنبي دون إذن مسبق: الخوف من الماضي؟    أسود الأطلس... فخر المغرب الذي لم ينقرض بعد    افتتاح فعاليات المعرض الدولي السابع والعشرون للتكنولوجيا المتقدمة في بكين    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    نصف قرن في محبة الموسيقار عبد الوهاب الدكالي..    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغة العين .. وصناعة الإعلام الترفيهيّ!

أقول للمرّة المليون: إن فضيحة لغتنا العربيّة اليوم، في هذا العالم المسمّى بالعربيّ، هي فضيحتنا الكُبْرَى! وهي فضيحة إعلاميّة تعليميّة مخجلة؛ فأمّا الإعلام، فحكاية فاضحة. وما من شكّ في أن صناعة الإعلام الترفيهيّ ضخمة في العالم اليوم، ولاسيما في عالم غير منتج، وطوفان الترفيه الرخيص فيه بات وسيلة تخدير شعبيّ عن هواجس مقلقة للحاكم والمحكوم، كالعالم العربيّ. ويصف تلك الصناعة (نعوم تشومسكي) بأنها- وبحسب الشرح الذي يتكرّم علينا به قادتها- يتمّ تكريسها لتحويل اهتمام الشعب نحو "أمور الحياة السطحيّة، كالاستهلاك الرائج"، وتلقين "فلسفة التفاهة" إلى الشعب(1).
وما أهلك الشعوب إلاّ اللعب بعواطفها واستغلال أهوائها وتلقينها "فلسفة التفاهة"، على حدّ تعبير تشومسكي.
وأمّا التعليم، فقضيّة باهضة الوضوح. ذلك أن أُمّة أُمّيّة، أو تغلب فيها الأُمّيّة، أو ما تمكن تسميته بتعليم الجهل والغفلة، لا مستقبل لها اليوم. والعصر لم يعد عصر الروّاد الأفذاذ من النظريّين، الذين تتبعهم قطعان المريدين، بل هو عصر الآلة، الذي يتطلّب فيه جهازٌ صغير واحد تجنيد جيشٍ عرمرم لا من المتعلّمين، بل من العلماء المتخصّصين. فكيف بصناعة ذلك الجهاز الصغير، أو تشغيل مصنع لصناعته؟! والعِلم ليس بالقراءة والكتابة والثقافة والحصول على الشهادات الورقيّة فقط، بل العِلم تربيةٌ وقِيَم، وهو إلى هذا منظومة من الضوابط الحياتيّة والحضاريّة. وأوّل قنوات العِلْم بمعطياته تلك: اللغة الحيّة، بمفهومها الكلّيّ.
وللذكرى التاريخيّة- التي ربما تنفع المؤمنين- فلقد كان رَأَى بعضُ روّاد الحداثة الشِّعريّة إشكاليّتنا العربيّة في الازدواج بين العامّيّة والفُصحى. وهي إشكاليّة تُمثّل ما أسموه لنا ب"جدار اللغة"، قائلين: إنها إحدى أبرز إشكاليّات حركة التحديث، والشِّعر الحديث تحديدًا، كما تحدّثت عن هذا مثلاً "مجلة شِعر" في عددها الأخير، (1964)، حينما أعلن (يوسف الخال)(2) مؤسّس المجلّة أن حركة مجلّة شِعر قد اصطدمت بالازدواجيّة بين "ما نكتبُ وما نحكي". ورأى أن الأدب الذي أنتجته الحركة كان أدبًا "أكاديميًّا"، ضعيف الصِّلَة ب"الحياة"، بسبب تلك الازدواجيّة. على أن من الحقّ الاعتراف أن قضيّة الخال ليست شِعريّة فحسب، بل هي أيديولوجيّة أيضًا، وقد كان يرى أن تطوّر اللغة العربيّة يجب أن يحاكي تطوّر اللاتينيّة إلى لغاتٍ قوميّة أوروبيّة مختلفة(3).
وما من جدار لغويّ عازل، ولا ازدواجيّة، إلاّ لسببين: سببٍ ذهنيّ، إذ الجدار في الحقيقة هو جدار ذهنٍ يسعى إلى عزل العربيّة عن الحياة لمآرب أيديولجيّة ودينيّة وثقافيّة متعدّدة، تُقيم صاحبها على صفيحٍ ساخنٍ من الرُّهاب من التراث، ومن العروبة، ومن العرب، ومن المسلمين. وهي عُقَد، لا علاقة لها بحقيقة العربيّة من حيث هي لُغة، إلاّ أنها تستشعر خطورة سيادة العربيّة خوفًا من ثقافة العربيّة؛ فهي رؤية تنبثق عن فكرٍ له مآربه ما فوق اللغة والشِّعر. وسبب آخر كامن في البنية التأسيسيّة المعرفيّة باللغة العربيّة، في مستوياتها المتنوّعة، القابلة لاستيعاب ما نحكي وما نكتب معًا. ولعلّ في تجربة (نزار قبّاني) الشِّعريّة خير برهان على قابليّة الفصحى لتكون لُغة يوميّة شعبيّة، إلى براهين قديمة يطول ذكرها.
قد يحتجّ قائل: إننا إذن حينما لا نرى الأمور على ذلك النحو الحدّي بين الفصحى والعامّيّة، كثنائيّة ضدّيّة- غير منحازين إلاّ للحقيقة اللغويّة والشِّعريّة- سنرى أن العامّيّة-- على الرغم من عدميّتها، ونزعتها إلى كلّ رثٍّ بالٍ عتيق، مهما فسد وأفسد، وناقَضَ العقل والعِلم واللغة ومبادئ الوحدة القوميّة والثقافيّة، تحت ذريعة كلمتين عبلتين هما: (التراث) و(الشّعب)-- ليست بشَرٍّ كلّها. وهذا أمرٌ بدهيّ، ولا حُجّة فيه لمحتجّ، وما من أمرٍ هو شرٌّ كلّه، دون نسبة إيجابيّة، حتى سمّ الأفاعي! غير أن خير العامّيّة يظلّ مرجوحًا بضدّه، اجتماعيًّا، ولغويًّا، وتعليميًّا، وحضاريًّا.
ولقد بات شِعر هذه العاميّة يغزو المنابر كافّة، وصارت إنجازاته- في ظلّ إعلامنا التسويقيّ- تُنشر على صفحات بعض الصحف الأولى، ولم تَعُد تكفيه صفحاتها الداخلية. وهذا للمفارقة يذكّرنا ببداية الصحافة، أيّام كانت بعض القصائد (الفصيحة طبعًا) تُنشر على الصفحات الأولى. وسبحان مقلّب الأحوال! كما صار الشِّعر العامّي مرحّبًا به في الأندية الأدبيّة، التي يُتوقّع عمّا قريب أن تصبح "أندية الأدب العامّيّ"، إذ لم تعد تتسع لتمطّي ذلك الشِّعر لا جمعيات الثقافة والفنون ولا غيرها. كما صارت المراكز الثقافيّة مراتعه الموسميّة، وقاعات المؤتمرات مسارحه النخبويّة، وصروح الجامعات منابره الأكاديميّة.
ومحصّلة طبيعيّة تلك لرحلتنا الرائعة في تعليمنا الداني والعالي، عبر عقود وعقود من الهبوط في الصعود والصعود في الهبوط، حيث لم يقدّم فينا التعليم ولم يؤخّر، ولم يغيّر ولم يبدّل، لا في الإنسان ولا في اللسان. كلّ معاقل الثقافة، إذن، باتت محجوزة للعامّيّة في المناسبات الشعبيّة الموسميّة وغير الموسميّة، لم يعد "يَمتَنِع مِن وُصولِها جِدارٌ مُعَلّى أَو خِباءٌ مُطَنَّبُ"!
والشِّعر النبطيّ صار مؤخّرًا لغة الأطفال في برامجهم ومسابقاتهم ومناشطهم المدرسيّة، كما أصبح لغة الدعاة الدينّيين أيضًا، ولغة المواعظ، وخطباء الجمعة، واللغة العليا لشِعر التسبيح والتوحيد وذكر الله تعالى!
لقد كنّا نقول منذ وقت غير بعيد إنه لم يبق للعربيّة الفصحى إلاّ خُطب الجمعات، والمنابر الدينيّة، أو الرسميّة، وإلاّ تلك الطقوس ذات الصبغة الدينيّة، ولغة الخطاب الإسلاميّ الدعويّ. كنّا نقول ذلك، ونُنعت في أوساط الناس بالمتشائمين، ويتردّد الاستدلال المتأوّل لتمرير التوسّع في العاميّة بقوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، [الحجر : 9]؛ ليُقال لا خوف على العربيّة، فهذا عهد إلاهي لبني يعرب بحفظ لغتهم! وكأنّا لا نرى ولا نسمع حال هذه اللغة (المحفوظة جدًّا) اليوم! حتى أوشكتْ أن تصبح تلك الآية حجّة أولى لدى كلّ دعاة العاميّة، ومن مختلف الديانات، وذريعة المنافحين عن طغيانها مهما بلغ(4)! نعم كنّا في تلك البقيّة الباقية من الحياء من الله وكتابه ورسوله وسالف لغة العرب نظنّ ونقول، قبل أن نقلبها في إعلامنا وحراكنا الثقافي من (لغة الضاد) إلى (لغة العين)!
حكاية دالّة:
سألني أحد العرب قائلاً: ... قرأت شعرًا نبطيًّا في أحد منتديات "الإنترنت" ولم أفهمه!
قلت: كيف؟
قال: مثلاً: "أبي".. الكلمة هذه اسمٌ أم فعل؟!
قلت: نحن في (عصر لغة العَيْن) يا صاحبي، فلا تبتئس لفعلٍ أو لاسم! لعلّ أصل "أبي": الفعل "أبغي"، وسقطت الغين في الطريق.
ثم سَرَدَ عليّ إشكاليّاته مع كلمات أخرى لا أوّل لها ولا آخر، بعضها يبدو مضحكًا، وبعضها لمفارقاته الدلاليّة لا يمكن أن أذكره هنا، لكن الإلف عمًى، فهو لا يدعنا نستشعر غرابة ما اعتدنا عليه.
كنت لصاحبي في العروبة بمثابة تُرجمان. وإذا كان هذا في شأن لهجة يضجّ بها الإعلام، والأفلام، والمسلسلات، والأغاني، ليلَ نهار، فكيف بغيرها؟ وكيف يظن من أَلِفُوا لهجتهم أنها سهلة، مأنوسة، واضحة لدى غيرهم، بل قد يتصوّرونها في لحظات نشوتهم أسهل من الفصحى؟!
ألا كفى سُباتًا أيها التعليم والإعلام!..
وللحديث بقيّة.
(1) انظر: " تشومسكي في مواجهة المُفترين عليه"، على موقع Le Monde diplomatique "لوموند ديبلوماتيك"- النشرة العربيّة، آيار/ مايو 2010‏: http://www.mondiploar.com/article3029.html
(2) (صيف- خريف 1964)، "بيان" العدد الأخير، مجلة "شِعر"، ص ص7-8.
(3) انظر: الخال، يوسف، م.ن، ص ص122-127؛ فرحات، أحمد، "حوار مع يوسف الخال"، الكفاح العربي، 14/11/ 1983. وانظر: باروت، جمال، من شِعر الرؤيا إلى الشِّعر اليومي: تيّاران في الشِّعر السوريّ الحديث، محاضرة ألقاها الباحث في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعيّة بباريس، في حزيران/ يونيو 2009، منشورة على موقع Le Monde diplomatique "لوموند ديبلوماتيك"- النشرة العربيّة، تموز/ يوليو 2009‏: http://www.mondiploar.com/article2628.html#nb10
(4) كنتُ ناقشتُ الاستدلال بالآية منذ نحو خمس عشرة سنة في عددٍ من السياقات، منها مقالة بعنوان "ظاهرة الضعف اللغويّ/ دوران الحلقة المفرغة (المجتمع- الجامعة- المجتمع)"، بمناسبة انعقاد ندوة "ظاهرة الضَّعف اللغويّ في المرحلة الجامعيّة"، 23- 25/ 5/ 1416ه، في جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، وسلسلة مقالات رديفة في موضوع اللغة والدارجة، نُشرت في جريدة "المسائيّة"، وجريدة "الجزيرة"، منذ عام 1416ه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.