في مقالي الثاني عن "روائح مقاهي المكسيك"‘ اشتغلت على مسألة الانتماء الأجناسي لهذا العمل السردي، وخلصت إلى أنه، ومن خلال المؤشرات النصية التي يقدمها لقارئه، (أنا السارد أو الرؤية مع/حضور الحقل الدال على التذكر/ حضور السرد الاسترجاعي- الاستذكاري) ينتمي إلى الكتابة السيرية وليس الروائية، مادام أن الفرق بين السيرة والرواية ،هو هذه المسافة التي تفصل بين الذاكرة التي هي منبع ومحرك الكتابة السيرية، وبين التخييل الذي هوعصب الكتابة الروائية.هذا لايعني أن السيرة تخلو من عنصر التخييل ، تعتمد عليه لملئ بعض البياضات الناتجة عن النسيان أوترميم بعض الثغرات الناجمة عن سقوط بعض الأحداث من الذاكرة. . بعد مسألة الانتماء الأجناسي ، ومن خلال استنطاقي لهذا العمل السردي، لاحظت حضور ظواهر أخرى أكثرإثارة للانتباه، بل أكثر استفزازا للقارئ الذي يتوخى الموضوعية في التحليل والعقلانية في الأحكام. وهي ترتبط بالنسيج اللغوي والأسلوبي والتركيبي لهذا العمل، إيمانا منا بأن العمل الأدبي لايسمو بمحتواه فقط ولا يكتسب صفة الأدبية بما يقوله، وإنما كذلك بطريقة القول كما يذهب إلى ذلك البنيويون (تودوروف/جاكبسون/رولان بارط ..)أي أن شكل التعبير محدد أساسي لأدبية النصوص. فبما يتميز شكل التعبير في هذا العمل السردي؟ ليس قصدي من هذه القراءة، تبخيس وتسفيه هذا العمل السردي والتقليل من قيمته، فذلك مالا أفكر فيه ولن افكرفيه، وإنما القصد بالدرجة الأولى، وهذه هي وظيفة النقد الأدبي في نظري،هو إثارة الانتباه للثغرات ومكامن الخلل في العمل الأدبي،من أجل تصحيحها وتصويبها من ناحية ،وتنبيه الكاتب إليها للوعي بها وتجاوزها في أعمال قادمة، ذلك أن مفهوم الكمال غير موجود في مجال الكتابة الإبداعية، فالكاتب مهما كانت تجربته وثقافته ،يبقى دائما وأبدا يتطلع إلى الأفضل،وهو يستعين في ذلك بمرآة النقد لذلك نراه يتابع ما يكتب وينشر عن أعماله، بل أنه يلجأ إلى استشارة الآخرين(نقاد/ أدباء/لغويون) ويطلب رأيهم في استعمال كلمة أوجملة أو صورة...وقد كان المرحوم محمد شكري يستشير بعضا من عشيرة النقاد كما سبق أن صرح بذلك في أحد استجواباته. إن النقد في نظرنا،هو بمثابة منارة توجه الكاتب وتنير له عتمة الكتابة، بحكم أنه يعيش ويتأثربأنماط وأنواع خطابية وكتابية متنوعة ،ويصدر في كتاباته عن نصوص تفعل فعلها فيه دون وعي منه(التناص) يختلط فيها الغث بالسمين والسوقي بالجيد واللهجي بالفصيح،ويسير في طريق مليئة بالألغام والأشواك لا يسلم منها المتمرسون من الكتاب فالأحرى المبتدئون. بناء على المقولات والأفكار السابقة،ومن أجل تصحيح مسار هذه التجربة السردية (روائح مقاهي المكسيك) بما يفيد كاتبها مستقبلا،سأحاول تتبع ورصد بعض الظواهر التي تمثل ثغرات معيبة في هذا العمل ،والتي استعصى على بعض "نقاد اليوم" ملاحظتها، رغم كثرتها إما نفاقا وتزلفا وردا للجميل بالجميل أو لخلل في أجهزة الرصد والملاحظة والتحليل،فتعاموا عن مكامن الضعف وهي مصيبة ابتلي بها المشهد الأدبي والنقدي والذين أضحيا يخضعان لمنطق العلاقات والمجاملات والترضيات وليس لمنطق الاستحقاق والكفاءة والإبداعية فأصبح" البعض ينفخ في البعض". إن الظواهر المعيبة التي رصدتها في هذا العمل تتجلى على أكثر من مستوى: 1-على مستوى اتساق العمل: نعني بالاتساق ترابط أجزاء الكلام/العمل السردي بوسائل شكلية ولغوية متنوعة تضمن له تماسكه وأدبيته وإمتاعه فكلما كان العمل متماسكا كان أكثر جمالا وإمتاعا.غير أننا ومن خلال قراءتنا لهذا العمل،وقفنا على مجموعة من الثغرات التي جعلت منه عملا يعاني من التفكك والتشتت إن على مستوى العلاقات بين جمله أو على مستوى العلاقات بين مقاطعه السردية والوصفية.ومن مظاهر هذا التفكك على مستوى الجمل: أ-مشكلةالإحالة:وهي علاقة دلالية بين عنصر محيل قد يكون إسم إشارة أو ضميرا وبين عنصرمحال عليه .والإحالة من العيوب البارزة في هذا العمل السردي حيث يذكر العنصر المحيل ولانجد أثرا للمحال عليه .وإليك عزيزي القارئ بعض الأمثلة الدالة على ذلك: 1-يقول السارد:(ألفيت المائدة خاوية على عروشها،لأبلعها وأصرها قنبلة،كما العادة في قلبي وأتظاهر بعدم الاكترات متجرعا إياها ببكاء كتوم...)ص 40 فالضميران في أبلعها وأصرها على من يحيلان ؟ 2-(أما بعض النساء فكن يحضرن قدور العشاء على الكوانين حث يتفنن في ضبط توازنها على ثلاثة أحجار فوق نار مستعرة لم يؤججها إلا النفخ في أفواههن،وقد انهمرالدمع وسال المخاط من أثر الدخان،فيستشري فيها بين عشية وضحاها اللغط والصخب، فتسمعأنين البقاريج وهرهرة القدور ...)ص 29 فالضمير الها في فيها يبدو منقطعا عما قبله ولا يحيل على أي محال عليه سبقه في الكلام والتالي بدت جملة(فيستشري فيها بين عشية وضحاهااللغط والصخب)نشازا وظهر التفكك واضا بينها وبين ما سبقها . 3-(لتنضد بعد رشها بالملح في علب كرتونية خاصة بانتظار شحنها في شاحنات مخصوصة لتشد الرحال في طريقها نحو أهل فاس الذين يتفننون بها في تحضير الخليع والمروزية ويباع بأثمنة باهضة بعدما اقتنوها من المتسولين بأثمنة زهيدة.) إن هذا المثال وغيره –وهو كثير في هذا العمل-لديل قاطع على العطب الذي يعاني منه العمل على مستوى الإحالة، وتوظيف الضمائر،فالضمير المستترفي الفعل يباع على من يعود؟وكذلك الأمر في الضمير المتصل بالفعل(اقتنوها). 4-(كان الليل قديما طويلا طويلا جدا وخاصة ليالي الشتاء والأيام تدب وئيدة أكثرمما هو عليه الآن) ص 38 فالضمير المنفصل هو لامكان له في هذا المكان لأن الجملة الأخيرة تتحدث عن الأيام والضمير الأنسب في هذا المقام (هي) وليس هو الذي أعاده الكاتب على الليل. 5-(وأضاف قائلا إنه سمع من أهل الدوار أن ابنه مازال غارقا في السجون،فعلا حيث كلما كثر عليهم المساجين نقلوهم من سجن لآخر..)ص58 فالضمير في (عليهم)منقطع عما قبله ولا صلة تربطه بالكلام السابق. إن ما أوردته من أمثلة ،هي قليل من كثير ولايتسع المقام لاستخراج جميع الأمثلة التي تمثل هذا العيب (الإحالة) والذي يؤثر سلبا على اتساق هذا العمل، الشئ الذي ينتج عنه تفكك صارخ وفاضح بين الكلمات والجمل، فتطفو الركاكة وتغيب الفصاحة ويتراجع البيان الذي يقوم عليه كل خطاب أو تعبير. لقد فوجئت كثيرا بالمستوى اللغوي والأسلوبي لهذا العمل ،وصدمت كذلك من بعض "الكتاب" و"النقاد" اللذين يتقنون فنون المحاباة ويتوارون وراء أقنعة المجاملات، ويتقنون حفلات "التنكيف"( وليس التوقيع) وكأني بهم لم يقرؤوا هذا العمل، وأكاد أجزم بأنهم لم يقرؤوه بالفعل، أوأنهم قرؤوا فيه مايريدون وما يرضي صاحبه، وتلك آية من آيات انهيار النقد والنقاد وسقوط الأخلاق. يتبع