صورة الطفلة فاطمة أزهيو وهي تنزف دما ساعات قبل وفاتها ثم شريط فيديو لمراسيم دفنها حيث ظهر شقيقها الأصغر وهو يردد بالريفية "وداعا أختي" كانت كفيلة بتحريك وجع مرض السرطان في مناطق الريف شمال المغرب، وفتح نقاش لا يبدو أنه سيخبو بسرعة حول من المسؤول عن وفاة طفلة في ربيعها الرابع عشر؟ سرير الموت البداية كانت مع ظهور فاطمة على شريط فيديو وهي تطلب العون لإخراجها من نفق الموت القادم، فيديو سينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وسيدفع أبناء منطقة الريف إلى إعلان غضبهم والعشرات منهم توجهوا إلى مستعجلات المستشفى الإقليمي بمدينة الحسيمة حيث ترقد فاطمة ليتقاسموا معها دمهم الذي لا يمكن الجزم بأنه غير حامل لخلايا سرطانية نشطة. علي بنمزيان، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالحسيمة، صرح لهسبريس أن موظفي مستعجلات المستشفى تعاملوا بتهاون مع المتبرعين رغم أن حالة الضحية كانت متفاقمة، وأضاف المتحدث أن فاطمة ماتت نتيجة الإهمال وعدم كفاءة الطاقم الطبي المشرف على حالتها، بنمزيان أكده وزير الصحة الحسين الوردي بإقالته للمندوب الجهوي لوزارته وإعلانه فتح تحقيق في وضعية الصحة بجهة الريف. الشهادات التي استمعت إليها هسبريس تسير في نفس الاتجاه الذي يقول بان فاطمة قتلها الإهمال قبل السرطان، الأسرة متشبثة بخلاصة واحدة، عسر الحال وعدم قدرتها على تغطية مصاريف العلاج والتبرعات التي جمعها أفراد وجمعيات لم تمكنها من فتح أبواب حجرة العلاج الباهظة لم تكن وحدها من قتل فاطمة، بل إن الإهمال وعدم مبالاة الأوصياء على صحة المواطنين بحالة تقتضي تدخلا عاجلا، هي السبب في فقدان الأسرة لطفلتها، أمر يؤكده بنمزيان عندما يقول أن الحق في الحياة لا يمكن مقايضته بأي ثمن وان مسالة التكلفة الباهظة ليست مبررا على الإطلاق للتلاعب بحق يضمنه الدستور المغربي والقوانين الدولية، فيما ثمن الفاعل الحقوقي قرار وزير الصحة إقالة المندوب الجهوي. من جانبه، كشف مصدر طبي بالمستشفى الإقليمي محمد الخامس بالحسيمة لهسبريس أن المستشفى يتوفر على تجهيزات محترمة خاصة بعلاج السرطان، ورغم ذلك فإن نقص الأطر الطبية يحول دون استغلال هذه التجهيزات على الوجه المطلوب، وأضاف ذات المصدر أن النقص الحاد في الدم الذي عانته فاطمة سرع بوفاتها مشيرا إلى أن الضحية كانت تعاني حالة متقدمة من السرطان لم يكن ممكنا الحد منه بالوسائل المتاحة، أمر حمل فيه بنمزيان المسؤولية لوزارة الصحة وطالب بصفته رئيسا لرفع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بفتح تحقيق في ملابسات وفاة الطفلة وفسح المجال للقضاء ليقول كلمته في الموضوع. فاطمة تفتح ملف الغازات السامة التقديرات المتوفرة تشير إلى أن ما بين 65 و70% من المصابين بمرض السرطان في المغرب ينحدرون من منطقة الريف، معطيات أكدها الدكتور الحمداوي الناطق الرسمي باسم مجموعة البحث حول الغازات السامة بالريف موضحا أن المجموعة طالبت مرات متكررة وزارة الصحة بالكشف عن الأرقام الحقيقية الخاصة بمرضى السرطان في الريف، إلا أن الوزارة تفضل التعتيم على معطيات حاسمة قد تفيد كثيرا في معرفة مستوى انتشار الداء حسب الحمداوي. ولا يستبعد الباحث في الكيمياء محمد ش. أن فرضية وجود رابطة بين الانتشار المهول للسرطان في الريف والغازات السامة التي استخدمتها إسبانيا على مدى ثلاث سنوات بين 1923 و1926 واردة جدا، مبرزا أن استعمال الإسبان للغازات السامة والمواد الكيماوية الجرثومية برا وبحرا وجوا خاصة غاز الإيبريت (و يسمى كذلك غاز الخردل moutarde) ومادة الكلوروبكرين chloropicrine ، وغاز الفوسجين phosgène كانت لها آثار تدميرية قوية في الريف، وتأثيرات خطيرة على صحة المواطنين وبيئتهم على المدى البعيد والتي لخصها الباحث في التغيرات الوراثية ومرض السرطان. ورغم غياب دراسات ميدانية ومخبرية حول علاقة مرض السرطان بمنطقة الريف في المغرب، إلا أن دراسة أنجزتها الباحثة في علم الوراثة الطبية بجامعة ليفربول البريطانية كريستين جوسدن والتي قامت بدراسات ميدانية في حلبجة العراقية التي تعرضت لقصف بالمواد الكيميائية من طرف نظام صدام حسين، وهي نفسها تقريبا التي استعملت في الريف، تؤكد أن هذه الغازات تحدث خللا على مستوى الأنسجة وبالتالي حدوث خلل جيني ينتج عنه خلايا سرطانية تنتقل عبر الوراثة إلى الأجيال القادمة يؤكد محمد ش، وأشار الأخير أن علم الوراثة يثبت أن الأجيال المستقبلية في حالة انتقال مرض وراثي يكون أكثر ظهورا عندها منه عند الأجيال السابقة، وبالتالي زيادة عدد المصابين بالمرض، إضافة إلى هذا فان المواد السامة تتسرب إلى المحيط البيئي من غطاء نباتي ومزروعات وماء، وبالتالي احتمال مرورها إلى جسم الإنسان. مما يزيد من إمكانية حدوث اختلالات وراثية وظهور أمراض من بينها السرطان، ويسير الدكتور الحمداوي في نفس الاتجاه مؤكدا أنه رغم صعوبة الربط الجيني بين حالة فاطمة مع مجمل الضحايا إلا أن العلاقة بين الغازات السامة ومرض السرطان ثبت بشكل علمي. دراسة أنجزها مختبر التحاليل البريطاني "غولدشتاين" حول ثلاث مناطق استخدمت فيها نفس الغازات (منطقة الروكان الجزائرية، حلبجة العراقية ومنطقة الريف في المغرب) وهي الدراسة التي تؤكد وجود علاقة مباشرة بين الغازات المستخدمة من طرف إسبانيا والإصابة بمرض السرطان ويزيد من ثبوتها تنامي مرضى السرطان في هذه المنطق على نحو كبير وهو ما يصفه الحمداوي بالأدلة الإحصائية. العلاقة المباشرة بين الغازات المذكورة وتسببها في انتقال السرطان عبر المورثات الجينية من جيل إلى آخر تجعل فرضية العلاقة السببية قوية، خاصة وأن إسبانيا قصفت الريف بحوالي 400 طن من المواد الكيماوية مستعملة 333 طائرة في أبشع حروب الإبادة التي عرفها العالم، فهل يفتح موت فاطمة المأساوي الباب أمام مطالبة المغرب إسبانيا الاعتراف بماضيها الاستعماري والإقرار بمسؤوليتها عن انتشار مرض السرطان في الريف؟. هل تعترف إسبانيا بالمسؤولية؟ لم يسبق للمغرب أن تقدم بطلب رسمي للحكومة الإسبانية للاعتراف بمسؤوليتها في مقتل عشرات الآلاف من المغاربة أمطرتهم الطائرات الحربية بأطنان من المواد الكيماوية الفتاكة، باستثناء بعض التصريحات المناسباتية يطلقها مسؤولون مغاربة كلما توترت العلاقات المغربية-الإسبانية كان آخرها تصريح لسعد الدين الثماني وزير الخارجية السابق. الدكتور مصطفى بنشريف، الباحث في القانون الجنائي الدولي، يرى بأن استخدام الغازات السامة بالريف هو فعل دولي غير مشروع منسوب إلى إسبانيا وفرنسا كما تنص على ذلك صراحة اتفاقيات لاهاي 1899، 1907 واتفاقية جنيف 1925 والتي صادقت عليها فرنسا في نفس السنة واسبانيا لاحقا في 1928، وتكيف هاته الحرب بأنها حرب عدوانية رافقتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي تجد أساسها القانوني في النظام الأساسي لمحكمة نورنبرع (Tribunal de Nuremberg ) لسنة 1945 في الفصل 6، وبالتالي فإن مسؤولية إسبانيا ثابتة. بالعودة إلى قضية فاطمة يؤكد علي بنمزيان أن الموضوع الأساسي المطروح الآن هو الكشف عن حقيقة وفاة فاطمة وتحديد المسؤوليات بدل تعويم النقاش وتحريفه بالحديث عن مسؤولية إسبانيا حسب ذات المتحدث، لأن المسؤول الأول في نظر بنمزيان عن وفاة فاطمة هي الحكومة المغربية، ووزارة الصحة على وجه التحديد، ويجب التركيز على هذه النقطة في نظره، فيما يرى الدكتور الحمداوي أن وفاة فاطمة تفتح ملف الغازات السامة تلقائيا ويجعل الدولة المغربية مسؤولة قبل الكل ما دامت لم تطالب باعتراف إسبانيا بجرائمها، مضيفا أن فعاليات مدنية من بينها مجموعة البحث التي يمثلها راسلت عددا من البرلمانيين الإسبان لطرح الملف داخل البرلمان الإسباني كما سبق للمجموعة أن تقدمت بمشروع قانون للحكومة المغربية دون أن تعيره أي اهتمام حسب الحمداوي. ماتت فاطمة إلا أن أسئلة كثيرة بقيت عالقة..