لا شك أن التفكير في المدرسة هو تفكير في المستقبل بالضرورة، استنادا إلى الحاضر القائم باعتباره نسقا وإمكانا تاريخيا ومنظومة علقٍ شديدة التعقيد، قائمة في الآن، ممتدة الجذور في الماضي، كما هي مفتوحة على المستقبل. ارتباط المدرسة بحاجات وتطلعات المجتمع يجعلها في علاقة مباشرة بنموذج التنمية القائم والمستهدف. كما هي مرتبطة أصلا بمجموع الأنظمة المهيكلة للمجتمع. لهذا اختلفت النظرة إلى المدرسة من حيث وظيفتها ومهامها الاجتماعية، ومن حيث علاقتها بالدولة باعتبارها جهازا من أجهزتها، ومن حيث علاقتها بالبنى الاجتماعية السائدة باعتبارها آلية من آليات الارتقاء الاجتماعي. إن المدرسة بالمعنى الإيجابي ضرورة من ضرورات إقامة النموذج التنموي الكفيل بتحقيق الرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والارتقاء الثقافي والتحول الديموقراطي؛ ومن ثَمّ تحقيق تقدم معقول وحقيقي على درج سلم الكرامة الإنسانية والإنصاف والعدالة الاجتماعية لجميع المواطنين أفرادا وجماعات على حد سواء. توجد المدرسة، على هذا الأساس، في قلب النموذج التنموي. وهي وجه من أوجهه. وهذا ما يجعل نعت المدرسة بالجديدة يحمل أكثر من معنى، وخاصة إذا تم وصف النموذج التنموي بالجديد في مقابل آخر تقليدي. لهذا نقول، انسجاما مع هذا المعنى الإيجابي للمدرسة والنموذج الإصلاحي الذي نفكر من داخله، بأن المدرسة هي ضرورة تنموية تحكمها قواعد الارتداد والجدل، بما يعني أن تنمية المدرسة يفضي إلى تنمية المجتمع، وتنمية المجتمع تفضي إلى تنمية المدرسة. ومن ثمة فالمدرسة هي في صلب النموذج التنموي المنشود. عندما يضيق سُمك الطبقة الوسطى وتبدأ أطرافها الأكثر هشاشة في التفتت والتقهقر نحو الطبقة الدنيا. وتضعف قدرتها على تحريك المصعد الاجتماعي وتفقد بيئة العيش الآمن، يصبح إصلاح المدرسة العمومية في اتجاه التغيير، أو التحول، أو التجديد، بحسب ميزان القوى، طلبا اجتماعيا بامتياز، وضرورة من ضرورات التنمية. وضرورة تاريخية، من أجل تأمين استقرار المجتمع وضمان تحولاته الممكنة في اتجاه الرفاه والازدهار والتقدم. إن الخيار الأساس لتنمية المدرسة، كأساس لتنمية المجتمع، يستوجب إرادة سياسية حقيقية، هدفها الأساس مأسسة التعاطف والتضامن بين البني والطبقات الاجتماعية، في إطار عقد اجتماعي يعبر عنه دستوريا ويمارس سياسيا في ظل نظام ثقافي حاضن وناظم، يتمتع بالقدرة على إقناع كل البنى والطبقات الاجتماعية بهويتهم المشتركة وتوجيه المواطنين نحو مستقبلهم المشترك ومصيرهم الجامع، ويجعل الأمل في مستقبل أفضل في بيئة آمنة ومستقرة أمرا ممكنا. تلعب المدرسة دورا فاعلا وأساسيا في ترسيخ هذه الهوية المشتركة وفي بناء هذه الرؤية الحالمة بمستقبل أفضل، وتعمل على خلق فرص لبناء هذا المستقبل المشترك والمصير الجامع. لهذا يُعدّ الإصلاح الحقيقي للمدرسة خيارا استراتيجيا لإرساء مقومات مطلب التنمية الحقيقية باعتبارها مضمونا لهذا العقد الاجتماعي وباعتبارها ضامنة لمطلب الاستقرار الاجتماعي المتوازن والآمن. المدرسة الجديدة بهذا الإطلاق العام لا تفيد شيئا، بقدر ما تجعل المتلقي أمام تعبير إشهاري مخادع قد يضمر ما لا يبديه. لأن صفة "الجديدة" تحمل في رحمها أربعة أبعاد مفترضة: بُعد الهوية بما يجيب عن سؤال أي مدرسة نقصد؟ وبُعد التقييم واستبطان حُكم على أساس ما سيكون، وبُعد المقارنة في مقابل المدرسة التقليدية، وبُعد صناعة الأمل الذي عادة ما يُطعّم به المطبخ السياسي. إنها صفة ترتبط بسؤال ما، بالإكراه. وترتبط بحالة ما، راهنة. كما ترتبط بجهة ما، مستهدفة. لهذا نقول: هي "مدرسة جديدة" بأي هوية؟ و"جديدة"مقارنة مع ماذا؟ و"جديدة" بالنسبة لمن؟ وهنا يحضر السياق الذاتي والموضوعي للمدرسة؛ ويحضر النسق الذي تعد المدرسة واحدة من مكوناته؛ وتحضر منظومة العلق التي توجد المدرسة في صلبها. ويحضر الإمكان التاريخي الذي يشكل أفقا ممكنا يسمح بقراءة راهن المدرسة من خلال معادلة الواجب والممكن. أي الاستراتيجي والمرحلي في الرؤية والتصور والإطار الإجرائي للتفعيل. ومن ثمة، فالسؤال في ذاته سياقي نسقي مرتبط بالإمكان التاريخي ومنظومة العلق والمدى الزمني. والجواب بالضرورة، تبعا لذلك، يجب ألا يخرج عن هذه الخماسية حتى يتوفر فيه شرط الممكن. لأن الأجوبة الإسقاطية التي تحمل في طياتها صفة الواجب، هي أجوبة متعالية، هاربة إلى الأمام، خالية من شرط الواقعية، اختزالية، فاصلة. ومن ثمة، فهي أجوبة انطباعية، عاطفية، تأملية، إن لم نقل توهمية، أو طفولية، أو شعبوية تخفي أكثر مما تظهر في أحسن حالاتها. على هذا الأساس، لا تتحدد جِدّة المدرسة إلا بمضمونها وبخلفياتها الوظيفية. وهذا المضمون يتحدد أساسا من خلال مقومين اثنين أساسيين: نموذجها البيداغوجي، باعتباره جوهر عمل المدرسة من جهة، وبمنظومة الحكامة ونموذج تدبير الوظائف والمهام والعلاقات من جهة ثانية. أما خلفياتها الوظيفية فهي تلك الخلفيات المضمرة والموجِّهة لوظيفة المدرسة المحددة في التربية والتعليم، والتنشئة الاجتماعية، والتكوين، والتثقيف. وهي خلفية في جوهرها تستهدف جميعها إنتاج نموذج للمواطن(ة) والمواطَنة، بملمح محدد سلفا، في ضوء منظومة العلق التي تجمع الاقتصاد بالثقافة بالسياسة بالاجتماع ضمن شبكة شديدة التعقيد. لا يمكن أن ننظر للمدرسة، باعتبارها قضية اجتماعية من جهة، وباعتبارها جهازا من أجهزة الدولة من جهة ثانية، إلا من خلال هذه المنظومة. ولا يمكن، في المقابل، أن ننظر للمواطَنة والمواطِن في ضوء منظومة الإنصاف، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ودولة الحق والقانون إلا من خلالها كذلك. للإجابة عن سؤالنا المركزي: المدرسة الجديدة بأي مضمون؟ لا بد أن نتوقف عند المحطات المهمة من تاريخ هذه المدرسة الجديدة. على أساس أن هذا المفهوم ليس جديدا. لإن المدرسة في جوهرها تراكم خبرات ذاتية، وتفاعل نسقي موضوعي في ضوء الإمكان التاريخي، وفي ضوء منظومة العلق التي تستجيب لها المدرسة. على أن يكون التركيز على المدرسة العمومية دون غيرها. نعود قليلا إلى الوراء. فذاكرة المدرسة المغربية حبلى بالمبادرات والمخططات الإصلاحية التي تحتاج اليوم إلى من يعيد قراءتها، في ظل سياقها من أجل استخلاص النتائج، بما يساعد على تجنب التكرار والسقوط في بئر ضعف الفعالية والجدوى. وسنقتصر هنا على مرحلة ما بعد التوافقات الكبرى التي عرفتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي باعتبارها المرحلة التي ظهر فيها هذا المفهوم، أي المدرسة الجديدة. كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999، كما سبق لنا التأكيد في كتابنا الصادر سنة 2018 حول "المدرسة المغربية الجديدة: قراءة في سيرورة التجديد"، الجواب النظري الممكن في سياقه. حيث سعى، كما نصت على ذلك الفقرة التاسعة من قسمه الأول إلى تأسيس مدرسة مغربية وطنية جديدة. وفي قسمه الثاني حدّد مجمل الاختيارات الاستراتيجية لتحقيق هذه الغاية. من أجل مدرسة مفعمة بالحياة؛ منفتحة على محيطها؛ موحدة في اختياراتها؛ متنوعة في أساليبها؛ متعددة في عرضها؛ أصيلة ومتجددة في نموذجها البيداغوجي؛ حداثية في نموذجها التدبيري؛ متنوعة في نموذجها التمويلي. بعد سنوات من محاولات تفعيل الاختيارات الاستراتيجية التي جاء بها هذا الميثاق تبين أن استراتيجيات التفعيل لم تكن ملائمة، وأن رهان إصلاح منظومة التربية والتكوين له مستلزمات ومقومات وتدابير ذات أولوية لم تكن متوفرة بما يتلاءم وحجم الإكراهات والتحديات. المجلس الأعلى للتعليم أنجز تقريرا في غاية الأهمية سنة 2008، انتهى فيه إلى أن المدرسة المغربية تعاني خمس إشكاليات تعيق تقدمها. أجملها في إشكالية الحكامة على مختلف المستويات؛ وإشكالية مزاولة مهنة التدريس وانخراط المدرسين؛ وإشكالية النموذج البيداغوجي أمام صعوبات الملاءمة والتطبيق؛ وإشكالية الموارد المالية وتوزيعها؛ ثم إشكالية ضعف التعبئة حول المدرسة. وبهذا يكون التقرير قد جعل مقومي النموذج البيداغوجي والنموذج التدبيري ضمن هذه الإشكاليات المعيقة، إن لم نقل من أهمها. في نسخته المحينة، وفي عهد حكومة ما بعد دستور 2011، أنجز المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تقريرا آخر عن تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 2014، ثم قدّم سنة 2015، في ضوء ما توصل إليه من خلاصات، رؤيته الاستراتيجية 2015-2030، وسعى من خلالها إلى تأسيس مدرسة جديدة قوامها مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص، مدرسة الجودة للجميع، مدرسة الارتقاء الفردي والمجتمعي. ووضع جملة توجهات حدد من خلالها مضمون هذه المدرسة. وأوصى بصياغة هذه الرؤية الإصلاحية في قانون إطار يُتخذ بمثابة تعاقد وطني يُلزَم الجميعُ بتفعيل مقتضياته. جلالة الملك بارك هذه الرؤية الإصلاحية الاستراتيجية، ووجه تعليماته السامية في خطاب العرش لسنة 2015 من أجل "صياغة هذا الإصلاح في إطار تعاقدي وطني ملزم، من خلال قانون إطار يحدد الرؤية على المدى البعيد، ويضع حدا للدوامة الفارغة لإصلاح الإصلاح إلى ما لا نهاية". كما دعا جلالته الجميع إلى تملك هذا الإصلاح والانخراط الجاد في تنفيذه. ونبّه إلى أن "إصلاح التعليم يجب أن يظل بعيدا عن الأنانية، وعن أي حسابات سياسية ترهن مستقبل الأجيال الصاعدة". الحكومة المنبثقة عن انتخابات 2016، وتنفيذا للتوجيهات الملكية السامية، قدمت مشروع القانون الإطار 51.17 في نسخته النهائية المنقحة للبرلمان. صادق البرلمان على هذا القانون المهيكل بالإجماع سنة 2019. نقلت أحكام هذا القانون النصَّ المؤسس للمدرسة الجديدة من حالتها الأولى "رؤية" كما قدمها المجلس، ومن حالتها الثانية "الرؤية" بعد مباركتها من طرف جلالة الملك، إلى حالة ثالثة هي حالة التعاقد القانوني الملزم. وغطت هذه الأحكام منظومة النماذج المهيكلة للمدرسة الجديدة: النموذج المدرسي، والنموذج البيداغوجي، والنموذج المهني، والنموذج التدبيري، والنموذج التمويلي، والنموذج التقييمي. بالإضافة إلى المبادئ العامة والأهداف. وبذلك كان هذا القانون أول قانون من نوعه في تاريخ منظومتنا التربوية، يشكل مرجعية قانونية تعاقدية مجتمعية ملزمة للجميع. تُخرج الإصلاحَ من دوامته الفارغة. وترفع من شأنه، بما يحد من الأنانية والحسابات السياسية، أو على الأقل، هذا هو المطلوب. وخاصة أن هذا القانون لم يكتف بالمدى الممتد للإصلاح، وإنما حدّد مدى زمنيا قصيرا ومتوسطا، لا يتجاوز أفق الرؤية ذاتها. لكن، كما يقال، ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. وليس كل ما يضمنه ويقِرّه الدستور ويقنِّنُه وينظمه القانون تلتزمه به السياسة. فالسياسة ترتبط بالمصالح والحسابات الآنية وبحركية الواقع وبميزان القوى. ما بين سنة 2015 وسنة 2021، وعلى مدى ولايتين انتخابيتين، جرت مياه كثيرة تحت جسر منظومة التربية والتكوين. وسعت السلطات التنفيذية إلى تفعيل توجهات الرؤية الاستراتيجية وأحكام القانون الإطار. ومن أهم ما تم اعتماده في هذا الإطار نستحضر: حزمة من التدابير ذات الأولوية في أكتوبر من سنة 2015. حافظة المشاريع المندمجة لتفعيل الرؤية الاستراتيجية في يونيو 2016. برنامج العمل متعدد المستويات في يوليوز 2017. المخطط التنفيذي للبرنامج الحكومي في فبراير 2018. برنامج العمل الملتزم به أمام صاحب الجلالة في فبراير 2019. نظام قيادة وتتبع وتقويم مشاريع تفعيل القانون الإطار في شتنبر 2019. ثم الأطر المنطقية للمشاريع لتفعيل مقتضيات القانون الإطار 51.17 في أكتوبر 2020. بالإضافة إلى عدة إجرائية لمواجهة جائحة كوفيد-19 التي كان لها الأثر الأعمق على الاستمرارية البيداغوجية. وكان من بين أهم نتائجها كشف هشاشة المنظومة وحجم الفوارق من جهة، وتوسيع دائرة فقر التعلم من جهة ثانية. النموذج التنموي الجديد سنة 2021، وفي نفس السياق، جعل المدرسة في صلب هذا النموذج. ودعا إلى إحداث نهضة تربوية يتجاوز بها النظام التربوي المغربي أزمته الثلاثية الأبعاد: أزمة جودة التعلمات؛ وأزمة ثقة المغاربة إزاء المدرسة؛ وأزمة مكانة المدرسة التي لم تعد تلعب دورها في الارتقاء الاجتماعي. واقترح لهذه الغاية أربع رافعات لتحقيق هذا التحول الكبير داخل المنظومة. تتعلق الأولى بالرفع من الكفايات المهنية للمدرسين وتحفيزهم؛ وتتعلق الثانية بالهندسة البيداغوجية ونظام التقييم؛ وتتعلق الثالثة بالنموذج البيداغوجي؛ في حين تتعلق الرابعة بالحكامة المدرسية. وبهذا يكون النموذج التنموي، بدوره، حدد نموذج المدرسة الجديدة التي في ضوئها يمكن أن تحقق منظومة التربية والتكوين نهضتها المنشودة وتحولها الحقيقي. وهكذا تكون لجنة النموذج التنموي، ذاتها، وضعت مقومي النموذج البيداغوجي والنموذج التدبيري ضمن رافعات هذه النهضة وفي صلب هذا التحول. الحكومة المنبثقة عن انتخابات 2021 أوجزت، في برنامجها الحكومي، "وضع المدرسة في مفارقة: فمِن ناحية، ثمة إرادة سياسية معلنة – والدليل عليها حجم الميزانية المخصصة للتربية الوطنية. ومن ناحية ثانية، يبين الواقع أن المدرسة العمومية ما زالت عاجزة إلى حد كبير عن لعب دورها المزدوج المتمثل في نقل المعرفة والارتقاء الاجتماعي". وانتهت في تشخصيها للوضعية الراهنة لمسار إصلاح المدرسة العمومية، في مرحلة المشاورات حول المدرسة العمومية، إلى أن جميع المبادرات الإصلاحية، منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين بما في ذلك الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار 51.17 باءت بالفشل. أطلقت بعدها النقاش حول خارطة الطريق 2022-2026 لإنجاز تحول المدرسة العمومية. قدمت من خلالها نموذجها للمدرسة العمومية الجديدة، مدرسة الجودة للجميع. مدرسة التحول، مدرسة الأثر المحدد في مداه الزمني. واختارت لذلك مدى الزمن السياسي، في مقابل المدى الزمني الممتد. أي اختارت ما يتلاءم وعمر الولاية الانتخابية. وقدمت مضمون هذه المدرسة العمومية ذات جودة من خلال ثلاثة أهداف استراتيجية، هي الرفع من نسبة التحكم في التعلمات الأساس من 30% إلى 60%، مضاعفة عدد التلامذة المستفيدين من الأنشطة الموازية، ثم تقليص الهدر المدرسي بسبة 30%. واتخذت لتحقيق هذه الأهداف جملة من الالتزامات محددة الأهداف الخاصة، واتخذت لتفعيلها حافظة برامج إجرائية تغطي ثلاثة محاور ذات العلاقة المباشرة بالمدرسة هي: محور التلميذ ومحور الأستاذ ومحور المؤسسة. من أجل تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية، وتحقيق التقائية مختلف الالتزامات والبرامج الإجرائية، قدمت الحكومة نموذجا تطبيقيا عن هذه المدرسة العمومية الجديدة وذات جودة، من خلال مشروع "مدارس الريادة". اتخذت له قيادةُ المشروع أربع مقاربات: مقاربة علاجية اختارت لتفعيلها نموذج التدريس وفق المستوى المناسب أو المطلوب؛ مقاربة وقائية اختارت لتفعيلها نموذج التدريس الصريح؛ مقاربة التخصص اختارت لها توزيع المواد الدراسية إلى مجالات التخصص المتقارب بحسب الإمكانيات المتوفرة بالمؤسسة؛ ثم مقاربة تدبيرية واختارت لها شارت الجودة من خلال مشروع المؤسسة المندمج الذي يستند إلى مجموع المعايير المحددة على مستوى مختلف المحاور. وهكذا بعد أن تم إقرار هذه الخارطة، وحشد التعبئة المجتمعية حولها، أطلقت الحكومة النسخة التجريبية من هذا المشروع، خلال الموسم الدراسي 2022-2023، ثم النسخة التجريبية الموسعة بعد ذلك. وهو مشروع قائم الآن. يتم إرساؤه وفق ما تقتضيه سيرورة التكييف والملاءمة التي خضع لها كل من نموذج التدريس وفق المستوى المناسب، ونموذج التدريس الصريح في إطار ما يستلزمه التوطين والمغربة والملاءمة مع خصوصية النموذج المدرسي المغربي. المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كان قد وضع سنة 2018 إطار الأداء لتتبع تفعيل توجهات الرؤية الاستراتيجية. من أهم ما اعتمد فيه مؤشر تنمية التربية. وانتهى إلى تسجيل تقدم ملحوظ على مستوى البعد المتعلق بالإنصاف. في حين سجل بالمقابل بطءا كبيرا في تفعيل التوجهات المتعلقة ببعدي الجودة والارتقاء. دعا على إثرها إلى تسريع وتيرة الإصلاح. في تقريره السنوي عن سنة 2023 "عن حصيلة وآفاق عمل المجلس" جددت هذه المؤسسة الدستورية ذات الوظيفة الاقتراحية والتقييمية، دعوتها بضرورة تسريع وتيرة تفعيل أحكام القانون الإطار. وبعد عشر سنوات من عمر رؤيتها الاستراتيجية؛ وست سنوات من إقرار القانون الإطار؛ وثلاث سنوات على الانطلاق في تفعيل خارطة الطريق؛ عادت، في شهر مارس الماضي، إلى إنجاز وثيقة جديدة تحت عنوان "المدرسة الجديدة تعاقد مجتمعي جديد من أجل التربية والتكوين". تدعو من خلالها إلى تعاقد جديد حول المدرسة، بمضمون قديم جديد، يحافظ على ثوابت المدرسة الجديدة كما وضعت توجهاتها الرؤية الاستراتيجية وأقرتها أحكام القانون الإطار. وفي نفس الوقت تم تطعيم مضمون الدعوة بتحيينات تتعلق بما عرفه العالم من تحولات، وبإشارات استشرافية حول مدرسة المستقبل. لم تكتف وثيقة المجلس بهذا التحيين والاستشراف، وإنما ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث رامت التذكير المؤسساتي الرسمي بمضمون المدرسة الجديدة كما حددها النص المؤسس. وسجل في نفس الوقت تأخر السلطات التنفيذية في تفعيل أحكام القانون الإطار، بل سجل خروج العمليات التنفيذية المنجزة من خلال خارطة الطريق عن مسار الإصلاح. بما يعني انزياحا في الجوهر، وليس فقط في التدابير الإجرائية. ومن ثمة، ما عادت أحكام القانون الإطار مرجعية موجهة لأفعال الإصلاح، ولا توجهات الرؤية الاستراتيجية باعتبارها النص المؤسس للمدرسة الجديدة، وإنما الإطار الإجرائي لتفعيل خارطة الطريق هي المرجعية الأساس لتوجيه مسار الإصلاح. أو لنقل بطريقة أخرى: تم تأجيل تفعيل أحكام القانون الإطار إلى وقت لاحق، والاكتفاء بمعالجة القضايا الأكثر أولوية كتدابير أولية جديدة على غرار تلك التي اعتمدتها الوزارة الوصية سنة 2015 في اللحظة التي كانت الرؤية الاستراتيجية قد خرجت للوجود. وهذا هو ما يناسب السياسة أكثر ويتلاءم مع خياراتها، إجراءات محدودة في الزمن لكنها تحدث أثرا قابلا للاستثمار. وفي موازاة ذلك أنجزت الهيئة الوطنية لتقييم المنظومة التابعة للمجلس تقريرا تحت عنوان "التقييم الخارجي للمرحلة التجريبية لمشروع مدارس الريادة". انتهت فيه إلى الوقوف على إيجابيات المشروع وسلبياته ومعيقات تعميمه. وخلصت إلى تسجيل ملاحظات وتأكيد استنتاجات. كان من أهمها: 1. تأكيد انزياح المشروع عن مضمون المدرسة الجديدة، موضوع التعاقد الوطني والقانوني الملزم. 2. رغم النتائج الإيجابية المسجلة لفائدة المشروع على مستوى تحسين بعض المؤشرات المرتبطة بالتعلمات الأساس عن طريق تقليص حجم التعثرات المتراكمة، وعن طريق أداء تقييمي أكثر فعالية وأكثر تفريدا؛ فإنه لم يحقق تقدما حقيقيا على مستوى جودة التعلمات من خلال نموذج التدريس الصريح الذي اعتمده لغاية الوقاية. 3. إذا كانت المؤشرات المرتبطة بالمقاربة العلاجية قد ساهمت في تقليص الفوارق بين جماعات المتعلمين على مستوى التعثرات، كميا ونوعيا؛ فإنها أيضا ظلت بعيدة عن تحقيق تقدم في مجال الإنصاف، وخاصة في اتجاه فئة المتعلمين في وضعية إعاقة، وفئة المتعلمين في وضعية تحكم. 4. المقاربتان العلاجية والوقائية تقومان في جوهرهما، معا، على تسقيف التعلمات في معارف محددة ومهارات ذهنية دنيا. 5. المقاربة الوقائية من خلال نموذج التدريس الصريح لم تحقق أي تقدم يذكر، بل دفعت بعض المتعلمين إلى التراجع في درجة تقدمهم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية إن كانت تحقق تقدما في المستويات الدنيا فإن العكس هو الحاصل حيث تتراجع كلما اتجهنا إلى المستويات العليا. 6. المشروع، في جوهره، استهدف على مستوى نموذجه البيداغوجي التعلمات الأساس والمهارات الذهنية الدنيا فقط، وعلى مستوى نموذجه التدبيري اعتمد تدبيرا مركزيا يجعل المؤسسة التعليمية مجرد حلقة نهائية في السلسلة التنفيذية. ومن ثمة غيب دور الأكاديمية الجهوية ومصالحها الخارجية ودور المؤسسة المحوري. 7. المشروع، ذاته، يحمل في رحمه إكراهات بالجملة، تجعل تعميمه في مدى زمني معقول، يواجه صعوبات متعددة. وحتى إن تم تجاوز بعض هذه الإكراهات، فإن المؤشرات الكمية التي قد تواصل تقدمها ستظل تخفي وراءها ضعف المؤشرات النوعية المرتبطة بالجودة المنشودة، وخاصة أن هذه الإكراهات ليست إكراهات طارئة مرتبطة بفقر في التعلم الناتج عن تعثر طارئ؛ ولكنها إكراهات بنيوية تصبّ في مدى قدرة المنظومة على تحمل مواصلة توفير تأطير القرب والمواكبة المهنية للمدرسين وللمشروع عامة ميدانيا بنفس النوعية الحالية، وبنفس الأداء. وفي مدى قدرة المقاربة الوقائية على استيعاب جماعة الفصول الدراسية المتعددة المستويات. وفي مدى قدرة السياسة العمومية الالتقائية على مواصلة تعميم البنية التحتية الملائمة بالوسط القروي النائي والأكثر صعوبة. وخاصة إذا كان المشروع في مرحلتي التجريب الأولي والموسع يمضي وفق دوائر يقع الوسط الحضري في مركزها، يليه الوسط شبه الحضري والمؤسسات التعليمية المتوفرة على الحد الأدنى من الشروط. بما يعني أن مرحلة التعميم ستواجه صعوبات بنيوية بالجملة. الخلاصة التي ننتهي إليها بعد هذا العرض المختصر لأهم ما تضمنته الوثيقة التقييمية هي أن نموذج المدرسة الجديدة وفق نصها المؤسس، ووفق أحكام القانون الإطار، يختلف جوهريا عن نموذج المدرسة الرائدة الذي أسست له خارطة الطريق، إن على مستوى النموذج البيداغوجي، أو على مستوى النموذج التدبيري ومنظومة الحكامة. أضف إلى ذلك، أن خارطة الطريق توجهت قصدا إلى المدرسة التابعة للقطاع العام دون المدرسة التابعة للقطاع الخاص؛ في حين أن المدرسة في سياق النص المؤسس للمدرسة الجديدة تحيل "على مجموع مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي" دون تخصيص. وهي المدرسة التي يتحدد مضمونها في جملة اختيارات استراتيجية وجملة مقومات ورافعات. على هذا الأساس يبدو أن المدرسة المغربية اليوم، على الأقل في المدى الزمني القصير والمتوسط، أي الزمن السياسي، ملزمة بالسير على ثلاث مسارات، وليس على مسار واحد يستبطن هوية موحدة قاسمها المشترك المواطنة، ويتطلع إلى تحقيق مصير مشترك مضمونه المساهمة في الارتقاء الفردي والاجتماعي والتنمية الشاملة بما يحقق الرفاه الاجتماعي والازدهار، وتقليص الفوارق الاجتماعية عن طريق تحريك المصعد الاجتماعي. وهذه المسارات هي: مسار النموذج البيداغوجي لمدارس القطاع الخاص الذي اختارت السلطة التنفيذية تحريره وإطلاق عنانه عن طريق تجنبه أو تأجيل الخوض في قضاياه؛ مسار النموذج البيداغوجي لمدارس الريادة التابعة للقطاع العام الذي اختارت الحكومة أن تجعل منه نموذجا إصلاحيا في إطار التزاماتها لكسب رهان الكتلة الناخبة من جهة، ورهان مباركة القوى الداعمة داخليا وخارجيا. مسار النموذج البيداغوجي لمدارس القطاع العام التي لم يدركها بعد مشروع مدارس الريادة. وهو النموذج الذي كلف بناؤه الكثير من الجهد على امتداد عشر سنوات من العمل والتجريب والتنقيح وخاصة في التعليم الابتدائي الذي كان من أهم ما تحقق في هذا الإطار وثيقة المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي الذي يمكن اعتباره، بحكم الخبرة التي تشكلت على امتداد ثلاثة عقود من الممارسة، منهاجا وصل من النضج في تفعيل الاختيارات الاستراتيجية وفي رؤيته البيداغوجية وآليات تصريفها مستوى متقدما. قد يبدو الاختلاف منذ الوهلة الأولى واضحا عند مقارنة النموذجين، نموذج المدرسة الجديدة ونموذج المدرسة الرائدة، على الأقل، أن النص المؤسس لنموذج المدرسة الجديدة يضع اختيارات استراتيجية تعنى بالزمن الممتد وتحمل في طياتها بذور التجدد، والتحيين، والقابلية للتكيف، والملاءمة. في حين الخلفية الموجهة لخارطة الطريق عامة، ومشروع مدارس الريادة خاصة، اختارت أهدافا محددة تعنى بالزمن القصير، أي المدى الزمني السياسي. وهذا الفرق بين المديين ليس اختلافا عارضا، ولكنه اختلاف جوهري يضرب في الأساس الغاية التي جاء من أجلها القانون الإطار جملة وتفصيلا. لأنه اختيار تدبيري تكتيكي يجعل إصلاح المدرسة العمومية في قلب الزمن السياسي وليس في قلب زمن الإصلاح نفسه. لكن إذا نظرنا للموضوع من زاوية أخرى، زاوية براغماتية، إن صح التعبير، نجد أن المدرسة المغربية عامة، والمدرسة العمومية خاصة، بسبب جملة إكراهات موضوعية تشل حركتها، وتعيق تقدمها، وتضعف قدرتها على تحقيق الفعالية والمردودية المنشودة، لا تحتاج فقط إلى منظومة اختيارات استراتيجية يتطلب تفعيلها مجهودات جبارة، وميزانية ضخمة، وتعبئة مجتمعية قوية، وتغييرات جوهرية في بنى تنظيمية وإدارية، كما تتطلب إعادة بناء منظومة من الإجراءات القانونية والأدبية يتطلب إعدادها وإقرارها الكثير من الجهد والوقت؛ وإنما تحتاج، كذلك، إلى سياسية تدبيرية واقعية، وبرامج تدخلية إجرائية شديدة الدقة والنجاعة. وإلى تدابير ذات الأولوية، تقلص من حدة فقر التعلم، وتعيد الحيوية إلى المدرسة، وتقلص من حدة وباء الهدر، وتعيد بناء الثقة في المدرسة. بما يعني أن المدرسة في حاجة إلى إطار منهجي إجرائي جديد يتضمن حزمة أداتية واقعية محكمة وناجعة تسهم في بناء منظومة التزامات وظيفية دقيقة المهام والمسؤوليات، تتحدد من خلال معايير ومؤشرات وسلوكات سريعة الفعالية، لها أثر قابل للملاحظة والقياس. وخاصة أن إكراهات المدرسة اليومية لا تنتظر، وتتطلب التدخل الاستعجالي لإنقاذ جيل مدرسي بكامله تعرض لوباء فقر التعلم متعدد المصادر. وأن التقييمات الدولية التي ينخرط فيها المغرب، لا تنتظر ولا ترحم. وهي ذات أهمية بالغة في دعم وتعزيز ثقة شركاء المغرب من المنظمات الدولية، في قدرة المدرسة المغربية العمومية المستهدفة على إنجاز تحولاتها المطلوبة، والتكيف مع تحولات السوق الاقتصادية العالمية ومستجدات الثورة الرقمية والتحديات الإيكولوجية. لهذا، إن كان لا بد من التقييم الدوري في هذا السياق لسيرورة الإصلاح، ومن خلاله تقييم صلاحية خارطة الطريق كسيناريو للتدبير الحكومي لقطاع حيوي هو القطاع المدرسي، فإنه يجب التقييم على مستويين: مستوى أول، يتعلق بالنجاعة والمؤشرات المحققة في علاقة بالمعايير المرتبطة بمشروع مدارس الريادة، وما سيحدثه من أثر على مستوى تطور مؤشرات الأداء والنجاعة، كأساس لبناء شبكات إجرائية لتقييم الأداء المتعدد المسارات والأبعاد، وفق منظومة الجودة، لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مستقبلا. ونقصد هنا مؤشرات الأداء في بعدها السداسي: أداء التلامذة، وأداء المدرسين، وأداء هيئة التدبير الإداري، وأداء هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم، وأداء المؤسسة، وأداء الأكاديمية الجهوية ومصالحها الخارجية في إطار الجهوية المتقدمة كمبدأ دستوري. مستوى ثان، يتعلق بما هو استراتيجي يستهدف تقييم مؤشرات التقدم في تفعيل أحكام القانون الإطار، وخاصة الأحكام ذات الصلة بالقطاع المدرسي. ونقصد بذلك ما يتعلق بمقومي النموذج البيداغوجي ويرتبط به مقوم فرعي هو مقوم التقييم. والنموذج التدبيري ويرتبط به مقوم فرعي هو مقوم الموارد البشرية. وتلك هي المقومات التي على أساسها يمكن تحديد مؤشرات التقدم، وعلى أساسها يمكن تحديد مدى التزام خارطة الطريق بأحكام القانون الإطار. ننتهي، في ضوء ما سبق، وقد تقدمت بنا عملية تفكيك الوقائع، إلى تسجيل ست خلاصات: 1. الخلاصة الأولى: سُجل تقدم على مستوى نجاعة الأداء في ضوء الأهداف المرحلية والمعايير المحددة المرتبط بالمدى الزمني المرحلي، أي الزمن السياسي. وهو تقدم يحسب في ميزان الالتزام بالبرنامج الانتخابي، ويحاكم على هذا الأساس. ومن ثمة، فإن جوهر الإصلاح الذي عرفته المدرسة، في هذه المرحلة، هو إصلاح سياسي يرتبط بالزمن الانتخابي. لكنه، في المقابل، مجموعة إجراءات تفكيكية لنموذج المدرسة الجديدة. لأنه ببساطة يمثل انزياحا عن جوهر الفعل الإصلاحي نفسه. وانحيازا واضحا في توجيه المدرسة نحو نموذج آخر غير الذي حدده النص المؤسس. لذلك فإن ما يجري على أرض الواقع لا يخرج عن دائرة التدبير الموجه بخلفية سياسية مرحلية تستبطن توجها اقتصاديا واجتماعيا ومصالح قوى اجتماعية معينة. ويخفي، تراجعا خطيرا عن مضمون المدرسة الجديدة. ويجعل المدرسة العمومية غارقة في تقليديتها المستدامة، استراتيجيا، على مستوى النموذج البيداغوجي والنموذج التدبيري. ومن ثمة فهي خطوة تراجعية تقهقرية تعيد عقارب ساعة إصلاح المدرسة إلى ما قبل زمن الميثاق الوطني الذي وضع اختيارات استراتيجية حاسمة لمدرسة مغربية وطنية جديدة، ترجمتها الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية في نموذج بيداغوجي يسعى بشكل مندمج وتوليفي أفقيا عبر جميع المواد الدراسية، وعموديا عبر مختلف المستويات الدراسية، إلى تنمية وتطوير الكفايات والتربية على القيم والتربية على الاختيار. وهو عكس ما يستهدفه النموذج البيداغوجي لمدرسة الريادة الذي استهدف فقط التعلمات الأساس والمواد الدراسية الأداتية: العربية والفرنسية والرياضيات. وأسقط من حساباته مجالا دراسيا كاملا هو مجال التنشئة الاجتماعية والتفتح على أساس أن مواده الدراسية ليست أساسية وليست أداتية، ولا تحتاج إلى مقاربة جديدة. وهذا فهم سطحي واختزالي، وفي نفس الوقت هو فهم ملغوم يحمل في طياته ما يحمل من خلفيات. 2. الخلاصة الثانية: اختارت لجنة قيادة مشروع مدارس الريادة من بين ما اختارت لتفعيل هذا المشروع نموذجا بيداغوجيا بدعامتين أساسيتين، علاجية ووقائية. فاعتمدت لهما نموذج التدريس وفق المستوى المناسب لتفعيل المقاربة العلاجية، ونموذج التدريس الصريح لتفعيل المقاربة الوقائية من جهة، واختارت من جهة ثانية، نموذجا تدبيريا يتمثل في نموذج إجرائي من نماذج مشروع المؤسسة المندمج. هما اختياران سعت من خلالهما لجنة القيادة إلى تمكين مختلف الفاعلين الميدانيين من منظومة آليات إجرائية محدثة للأثر السلوكي المباشر القابل للملاحظة والقياس. ومن ثمة، فهي في جوهرها منظومة لتقييم الأداء، مدعومة بمنظومة مسار للتدبير المدرسي. هذه المنظومة المعلوماتية الإعلامية الشبكية الحية الشاملة والمندمجة التي تضمن إمكانية صعود المعلومة عبر السلم الإداري من المحلي إلى المركزي. وتضمن إمكانية المراقبة والتتبع الدوري والمنتظم لجماعة الفاعلين التربويين والإداريين، على مستوى مختلف الهياكل التدبيرية للمنظومة محليا وإقليميا وجهويا ومركزيا. بذلك تكون قيادة المشروع مكنت الأساتذة من مقاربة بيداغوجية سلوكية قصدية وموجهة، ومن آليات تصريفها بشكل موحد، يجعل إمكانية تقييم أداء مهمة التدريس ومخرجاتها وفق معايير ضابطة ومؤشرات محددة عملية ممكنة. ومكنت مدير المؤسسة من مقاربة تدبيرية إجرائية بمعايير محددة ومؤشرات واضحة ودقيقة تجعل تقييم أداء مهمة التدبير الإداري عملية ممكنة. ومكنت هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم من منظومة إجرائية لتدبير مختلف المهام، قابلة للتتبع وتقييم الأداء المهني، عملية ممكنة كذلك. كل هذا لم يكن ممكنا في السابق. مما كان يجعل تقييم الأداء المهني ليس في المتناول مهما توفرت الإرادات. ومن ثمة فهي أمور بالتأكيد إيجابية في بعدها الإجرائي، وخاصة أن تقييم الأداء المهني أصبح عملية محورية للارتقاء في المسار المهني والترقية المهنية. يمكن على هذا الأساس اعتبارها نقلة نوعية في ممارسة المهام من جهة، وفي بناء أدوات تقييم الأداء المهني لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من جهة ثانية. 3. الخلاصة الثالثة: يقوم مشروع مدارس الريادة كفضاء تلتقي فيه مختلف برامج الإطار الإجرائي والتزامات خارطة الطريق على الأثر. لذلك اعتمد منظومة من الإجراءات والسلوكات القابلة للملاحظة والقياس تعتمد البعد الكمي للجودة على حساب بعدها النوعي. والمثال على ذلك هو أن النموذج البيداغوجي في هذا المشروع اعتمد التدريس وفق المستوى المناسب الذي يرهن جماعة المتعلمين في فئات مرتبطة بالمستوى المحدد سلفا للموضعة، وليس بمستوى التقدم الفردي لجماعة المتعلمين كأساس للموضعة داخل هذه الفئات وخارجها، بما يسمح فقط بتجاوز التعثر، ولكنه لا يسمح بتحقيق التفوق على سلم الإتقان. واعتمد التدريس الصريح، وهو ذلك الابن المتحور من نموذج التدريس الهادف الذي كان قد أوصانا به صندوق النقد الدولي في المشروع الإصلاحي لبداية الثمانينيات من القرن الماضي زمن التقويم الهيكلي. ينتمي نموذج التدريس الصريح أو القصدي أو الموجه إلى براديغم التعليم وليس إلى براديغم التعلم. ومن ثمة فهو نموذج للتدريس التقليدي. والدليل على ذلك أنه يسعى بشكل مثير إلى الحد من الاستقلالية البيداغوجية التي تستوجبها الأنشطة، ويكثّف من أنشطة التعليم والتدريس على حساب أنشطة التعلم. ويعتمد استراتيجيات التعليم التي من طبيعتها التنميط والتوحيد على حساب استراتيجيات التعلم التي من طبيعتها التنوع. ومن ثمة، تكون المقاربة الوقائية وقائية لأنها حدّت من الاستقلالية البيداغوجية. وقلصت من حجم التفاعلات البنائية باعتمادها النموذج الاستعراضي عن طريق العارض الرقمي القائم أصلا على التنميط والكم المعرفي. وهذا من شأنه أن يجعل الحصة الدراسية نمطية ومغلقة، وغير منفتحة على وضعيات الحياة، وعلى الخصوصية المجالية وعلى خصوصيات الفئة المستهدفة، وعلى استراتيجيات الفهم والتقييم، وعلى تنمية الخيال والإبداع. وهذا من شأنه أن يحدث الاعتياد المفضي إلى الرتابة. وأن يجعل جماعة المتعلمين في حالة سكون، وفي حالة ملل، وفي حالة صمود يتنافى مع طابع الومضة الذي صار سمة من سمات العصر الرقمي وجزءا من حياة المتعلم والمدرس معا. وخاصة مع المقاربة الوقائية. في حين أن المدرسة الجديدة، وفق نصها المؤسس، وأحكام القانون الإطار الملزم، سعى نموذجها البيداغوجي إلى تنمية وتطوير الكفايات النوعية والمهارات الذهنية العليا وخاصة المتعلقة منها بمهارات التعلم الأساسية (التفكير الناقد – الإبداع – حل المشكلات). ودعا إلى جعل المتعلم في قلب التفكير والاهتمام والفعل، ومحور مختلف العمليات التربوية. وإلى اعتماد بيداغوجية التعلم والمقاربة بالكفايات في التدريس من أجل تنمية وتطوير الكفايات النوعية، والتربية على القيم، والتربية على الاختيار. وفي إطار تحيين هذا النموذج عززت المقاربة البيداغوجية بتنمية وتطوير المهارات الحياتية. واعتمدت على مستوى الأنشطة المدرسية نوعين من الأنشطة هما الأنشطة الفصلية والأنشطة المندمجة. لكل منهما مقارباته البيداغوجية لكنهما يلتقيان في تنمية وتطوير نفس الكفايات النوعية ونفس المهارات الحياتية ويعززان التربية على الاختيار والتربية على القيم. 4. الخلاصة الرابعة: اختارت قيادة المشروع على مستوى النموذج التدبيري مقاربة تدبيرية تقوم على صيغة إجرائية من صيغ مشروع المؤسسة المندمج. وهي صيغة جعلت العملية التدبيرية معزولة عن عمقها التربوي والعلائقي، أي معزولة عن الحياة المدرسية كحياة لمجتمع التعلم. وجعلت مدير المؤسسة غارقا في البحث عن تكييف المؤشرات مع الالتزامات على حساب التراكم الذي يقتضيه تدبير القرب وخصوصية المؤسسة. وهو ما يجعل هذه الصيغة التدبيرية أقرب إلى الصيغة التدبيرية المقاولاتية والأداتية على عكس التدبير المدرسي الذي هو في جوهره تدبير علائقي وتربوي يشكل في حد ذاته مجالا من مجالات التعلم وتنمية المهارات الحياتية، وليس فقط تدبيرا لمعطيات ومؤشرات كمية. إن المدرسة الجديدة، وفق نصها المؤسس، وأحكام القانون الإطار الملزم، سعى نموذجها التدبيري إلى تعزيز استقلالية المؤسسة مع اعتبار مشروع المؤسسة اختيارا تدبيريا استراتيجيا يحقق تدبير القرب. يجعل المدرسة منفتحة على محيطها وشركائها. كما يدفعها في اتجاه تحمل مسؤوليتها كاملة، وليس مشروع المؤسسة مجرد مجموعة عمليات إجرائية وآليات تدبيرية مرتبطة بحزمة من المعايير والمؤشرات. إن مشروع المؤسسة وفق ما راكمته النصوص المؤسسة، هو إطار منهجي لتدبير الشأن التربوي بالمؤسسة، أي هو إطار لتدبير الحياة المدرسية في مجموعها، وبمختلف أنشطتها، وفق مقاربة تشاركية يلعب فيه جميع الفواعل المدرسية وجميع مجالس المؤسسة الدور الحيوي والجوهري. وهذا ما يفيده التعريف الذي اعتمده القانون الإطار حين يقول بأن "مشروع المؤسسة هو الإطار المنهجي الموجه لمجهودات جميع الفاعلين التربويين والشركاء، باعتباره الآلية العملية الضرورية لتنظيم وتفعيل مختلف العمليات التدبيرية والتربوية الهادفة إلى تحسين جودة التعلمات لجميع المتعلمين، والأداة الأساسية لأجرأة السياسات التربوية داخل كل مؤسسة للتربية والتعليم والتكوين مع مراعاة خصوصياتها ومتطلبات انفتاحها على محيطها". 5. الخلاصة الخامسة: يستهدف مشروع الريادة تحقيق الجودة للجميع. وإذا وقفنا على أهم المسارات التي يعتمدها لتحقيق هذه الجودة نجد أن أفق الجودة التي تكفلها المقاربة العلاجية هو تمكين جميع المتعلمين من تجاوز تعثراتهم وفق مرجعية معيارية محددة سلفا يتم قياس أثرها بمؤشرات كمية. وأفق الجودة التي تكفلها المقاربة الوقائية هي تحكم جماعة المتعلمين في حزمة معارف ومهارات ذهنية دنيا بشكل موحد ويتم قياسها كذلك بمؤشرات كمية. وأفق الجودة التي تسعى إلى تحقيقها المقاربة التدبيرية هو تحسين المؤشرات على صعيد المؤسسة إن على مستوى التعلمات الأساس، أو على مستوى عدد المنخرطين في النوادي المدرسية، أو على مستوى تقليص مؤشرات الهدر في المؤسسة. ومن ثمة فهي جودة كمية. في حين أن الجودة كما حددها النص المؤسس للمدرسة الجديدة يقصد بها "تمكين المتعلم من تحقيق كامل إمكاناته عبر أفضل تملك للكفايات المعرفية والتواصلية والعملية والعاطفية والوجدانية والإبداعية". بما يعني تجاوز حدود التعلمات الأساس إلى تنمية وتطوير الكفايات ارتباطا بالقدرات والذكاءات الفردية بما يجعل كل متعلم يحقق تحسنه المستمر على أساس الاستحقاق والإنصاف ومن ثمة فهي مقاربة كيفية للجودة. 6. الخلاصة السادسة: سجلت مؤشرات نجاعة الأداء في علاقة بالمعايير انزياحا كبيرا وجوهريا يجعل نموذج المدرسة التي تستهدفها خارطة الطريق في جهة، ونموذج المدرسة التي تحددها أحكام القانون الإطار في جهة ثانية. كيف ذلك؟ باختصار شديد، تم بناء النموذج البيداغوجي لمشروع مدارس الريادة من خارج أحكام الباب الخامس من القانون الإطار المتعلق بالمناهج والبرامج والتكوينات وخاصة المادة 28 منه. والدليل على ذلك تاريخ ميلاد النموذج البيداغوجي في مشروع مدارس الريادة قبل تاريخ إحداث اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج الذي هو يوم 27 فبراير 2024، ما يعني قبل إنجازها للإطار المرجعي للمنهاج والدلائل المرجعية للبرامج والتكوينات. وتم بناء النموذج التدبيري لمشروع مدارس الريادة من خارج أحكام الباب السابع المتعلق بمبادئ وقواعد الحكامة وخاصة المادة 40 منه. والدليل على ذلك هو أن المشروع لا يسعى إلى إرساء استقلالية المدرسة باعتماد مشروع المؤسسة أساسا لتنميتها المستمرة وتدبيرها الناجع، وإنما جعل المؤسسة مجرد حلقة أخيرة في التراتبية الإدارية المكلفة بتنفيذ الإجراءات. وتم إعداد النظام الأساسي الخاص بموظفي الوزارة المكلفة بالتربية الوطنية من خارج أحكام الباب السادس المتعلق بالموارد البشرية وخاصة المادة 37 منه. والدليل على ذلك هو أنه لم يتم بعد إعداد الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات، مما يجعل السؤال حول المهام المنصوص عليها في المادة 15 سؤالا مشروعا. وأن هذه المهام ستكون موضوع التزام وظيفي صريح بعد تفعيل المادة 67 في ضوء هذه الدلائل المرجعية. وتم بناء منظومة التقييم من خارج أحكام الباب التاسع المتعلق بتقييم المنظومة والإجراءات المواكبة لضمان الجودة وخاصة المواد 53-54-55 منه. والدليل على ذلك هو أنه لم يتم بعد إقرار الإطار المرجعي للجودة. بعد أن وقفنا بالملموس على الفرق بين نموذج المدرسة الجديدة تبعا لنصها المؤسس وأحكام القانون الإطار الملزم من جهة، ونموذج مشروع مدارس الريادة تبعا لخارطة الطريق من جهة ثانية، أصبح السؤال في جوهره ليس هو أين يكمن الفرق أو لماذا هذا الفرق؟ ولكنه على الشكل التالي: ما الخلفيات الموجهة لهذين النموذجين؟ ما دام الفرق يخص الجوهر ولا يخص فقط التدبير والإجراءات وسيناريو التنفيذ. إنه سؤال تحول المنظومة نفسه في أي اتجاه؟ حتى لو أخذنا مفهوم التحول بالمعنى الذي اقترحه الفيلسوف إدغار موران في كتابه التفكير الشامل حين يقول: "التحول يعني ليست هناك قطيعة مطلقة مع الماضي". علما بأن التحول الحقيقي للمنظومة بالمعنى الذي يريده المجلس الأعلى ولجنة النموذج التنموي هو إنجاز القطائع الضرورية، لكن في إطار الاستمرارية. بما لا يعني القطيعة مع النص المؤسس للمدرسة الجديدة، وإنما القطيعة مع الإطار المنهجي لتصريف التوجهات والأحكام، القطيعة مع السياسات العمومية التنفيذية والإجراءات التدبيرية. القطيعة مع الحسابات السياسية التي ترهن أجيال المستقبل وتجعل الإصلاح يدور في دوامة إصلاح الإصلاح. إن الخيار الممكن هو السعي إلى ملاءمة السياسات العمومية والتدبيرية مع متطلبات تصريف النص المؤسس للمدرسة الجديدة، حتى لا تتجه هذه السياسيات وهذه التدابير في اتجاه آخر مغاير يقطع مع النص المؤسس، ويبني مسارات جديدة للتحول. السوسيولوجية رحمة بورقية، وهي اليوم على رأس مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أمام أربع خيارات: إما أن تسعى في اتجاه تقديم جواب ممكن، ينتصر لفائدة إصلاح المدى الممتد المتعلق بالزمن الاستراتيجي للإصلاح وفق أحكام القانون الإطار51.17، عن طريق إنجاز تقييم شامل وشجاع يكون بمثابة بوصلة لتوجيه مسار الإصلاح من جهة، ويرفع من سرعة سيرورة تفعيل هذه الأحكام من جهة ثانية؛ إما أنها ستنتصر لفائدة إصلاح المدى القصير المتعلق بالزمن السياسي على أساس مؤشرات التقدم المحرزة وتعمل في اتجاه تعميقها وتطويرها من أجل تطوير وتدقيق منظومة الأداء وفق إطار جديد للنجاعة؛ إما أنها ستسعى إلى إيجاد أرضية توافق جديد بين المديين، مدى الإصلاح الممتد الذي أرساه القانون الإطار والمدى الزمني السياسي الذي اختارته السلطات المكلفة بالقطاع المدرسي، عن طريق تأويل جديد لمسار الإصلاح وسيرورته، في ضوء الممكن الذي يسمح به السياق والنسق والإمكان التاريخي ومنظومة العلق؛ وإما أنها ستعمل على تجاوز المقاربة التقييمية لمسار الإصلاح في الوقت الراهن، آخذة بعين الاعتبار ميزان القوى، وتتفرغ للمقاربة الاستشرافية والتفكير في مدرسة جديدة أفقها سنة 2050. فأي الاختيارات سيكون الجواب الممكن عن سؤال: المدرسة الجديدة بأي مضمون في سياق التحول الحالي؟