من البشر إلى الحيوان الأليف أكره السياسة ومناوراتها، وأمقت الخوض في غمارها. لكن هناك دائماً، على أرض الواقع، ما قد يستفز غضبك وقلمك، ويجبرك على العودة رغم طول اختيارك الغياب. فوجئت -مثل الكثيرين- بمشروع قانون رقم 25.19، يقضي بتجريم من يطعم أو يسقي أو يعتني بالحيوان الأليف: الكلاب والقطط الضالة، وتغريمه مبلغاً مالياً يتراوح بين 1500 و 3000 درهم. وأنا على يقين أنني سأكون أول المجرّمين والمغرّمين؛ لأنني أبداً لا أستطيع أن أمتنع عن مساعدة هذه الكائنات التي ذنبها الوحيد أنها وجدت في الشارع، على هذه البقعة من خريطة الكرة الأرضية، حيث يعجز مدبّرو الشأن العام فيها عن إيجاد حلول عملية وإنسانية في نفس الوقت، تحافظ على الكائن وتحترم وجوده وحقوقه. وحل المشاكل يكون عندهم دائماً على حساب الحلقة الأضعف، سواء تعلق الأمر بالمواطن: المتقاعد، رجل التعليم، الموظف البسيط... أو ب"نصف المواطن"، وهو هذا الحيوان الأليف الذي لا حول ولا قوة له. ففي مواجهة أصوات المجتمع المدني والهيآت الحقوقية الوطنية والدولية التي تندد بعملية إعدام الكلاب والقطط الضالة، وأمام اقتراب موعد إستضافة التظاهرة العالمية لكرة القدم ببلادنا، ثم خوفاً على المشهد العام وخشية من الانتقادات التي ستطالنا بخصوص الوضعية المزرية لهذه الكائنات الضعيفة، لم تجد هذه الحكومة سوى حل واحد، وهو: تجويع القطط والكلاب الضالة، ومنع الناس من مساعدتها. اللعنة.... أهكذا تصاغ القوانين؟ أهكذا تتفتق عبقرية المسؤولين عن قانون: ظاهره حماية المواطن، وصيانة البيئة، والمحافظة على نظافتها، وباطنه التخلص من هذه الكائنات البريئة بواسطة "الإعدام النظيف" عن طريق التجويع، دون تكلفة مادية على الإطلاق، ودون رصاص حي؛ فيكونون في حل من دمها. يبدو أن المحاصرة والتجويع أصبحت سياسة عالمية عابرة للحدود، ونموذجاً للاقتداء؛ فهو "أنظف" وسيلة للقضاء على الضحية. فبالله عليكم، هل هذا هو الحل لمشكلة التكاثر العشوائي للحيوان الأليف الذي أصبح -من وجهة نظرهم- يهدد المظهر العام لشوارعنا ومدننا؟ أليس هذا حلاً همجياً لمشكلة لم تنتبه لها الهيآت المسؤولة التي كان عليها -منذ سنوات وعقود طويلة خلت- أن تضع حلولاً استباقية، على غرار الدول المتقدمة، تتمثل في إنشاء الملاجئ ومراكز الإيواء، مع التطعيم والتعقيم للحد من تكاثرها مع المحافظة على بقائها.. ألم يكن الأجدر الاقتداء بالنموذج التركي الذي لا يمنع أحداً من مساعدة الحيوان الذي يتمتع بكامل حقوقه في البقاء وعلى أفضل حال، على مسؤولية الدولة التي خصصت آلات في الشارع العام لإطعامه وسقايته، وهو يتجول بكل حرية، ويتشارك الفضاءات السياحية والساحات العمومية مع المواطنين ومع السواح، يحمل وسمه الأصفر في أذنه علامة على تطعيمه، ولا أحد يضطر أصلاً لإطعامه لأنه لا يشكو جوعاً؛ فالدولة متكفلة بكل احتياجاته. بالله عليكم، هل يعقل أن تمنع المساعدة عن القطط والكلاب الضالة قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتها والاهتمام بها؟ ثم، لو تكفلت الدولة برعايتها، هل سيكون هناك داع لمثل هذا القانون؟ طالما لن يبقى هناك حيوان ضال. لكن في غياب الملاجئ ومراكز الإيواء -وهذا أول الإجراءات التي ينبغي على المسؤولين القيام بها- مع إلزام المواطن بالتواطؤ ضد هذه الكائنات الضعيفة، فهذا -والله- قتل مع سبق الإصرار والترصد، هو اغتيال للبراءة في هذا الكون. رب قائل: هذا المشروع القانوني لمصلحة هذه ألكائنات، وذلك ربما لتقنين التبني. المفروض أن دور القوانين هو تخليق الحياة العامة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية، والارتقاء بها ضمن معايير منطقية، عقلية، وأخلاقية. والحال أن حكومتنا الحكيمة استهلت مشروعها هذا بمعاقبة المحسن قبل اتخاذ أي إجراء لحماية الكائن الضعيف. كنت سارفع القبعة لو فعلاً هيأت الظروف الملائمة قبل سن القانون الرادع، أما الردع قبل الإصلاح، فهذا -والله- عقم في المشاعر، ومنطق مختل يتنافى مع الفطرة السليمة ومع رجاحة العقل. ولو نظرنا إلى الأمر من الناحية الحقوقية، أليس عاراً علينا -ونحن في الألفية الثالثة- أن نلجأ لحكم الإعدام المبطن هذا في حق كائنات بريئة تتشارك معنا الوجود، الأرض، والوطن؟ أليس هذا وطنها هي أيضاً؟ أليس الوطن انتماءً وأماناً؟ ألم توجد هذه الكائنات على الأرض ملايين السنين قبل وجود الإنسان، تقدم له خدماتها دون شرط أو قيد أو مقابل؟ هل نسينا دور القطط في الحفاظ على التوازن البيئي من خلال الحد من تكاثر القوارض التي تهدد الأمن الغذائي للإنسان بمهاجمتها المحاصيل الزراعية، كما تهدد صحته بالأمراض مثل الطاعون؟ ألا تعتبر القطط مضاداً طبيعياً للاكتئاب، بأصوات الخرخرة التي تصدرها، وهي ذبذبات طاقة إيجابية للإنسان؟ ألم يقدس المصريون القدامى القطط واعتبروها رمزاً للآلهة والحماية والخصوبة؟ ألم يرد في الحديث الشريف: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات"؟ وأنه: "في كل كبد رطبة صدقة"؟ ألا يظهر مبدأ المساواة في قوله تعالى: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"؟ ومن الناحية الإنسانية، أليست مساعدة الحيوانات الضعيفة واجباً أخلاقياً ينبغي الالتزام به؟ فهل يجوز أن أمتنع عن مساعدة قطة مرضعة أو قطيطات صغيرة فقدت أمها.... هل أتخلى عن عشرات القطط المرابطة بباب منزلي، أطعمها وأسقيها وأعتني بها، ولو مرضت احملها للطبيب البيطري؟ هل أتركها لقدرها تموت جوعاً؟ هل أتخلص من القطة التي عقمتها، والتي تعيش بحرية متنقلة بين الخارج وبين منزلي؟ هل أتخلى عن الكلبة الصغيرة التي تاهت عن أمها، وانضمت لحظيرتي المتواضعة، تنتظر مني ما يسد رمقها ويطفئ ظمأها؟ هل أتخلص من الأكواخ الخشبية الصغيرة التي هيأتها لولادتها ولصغارها؟ ارجوكم، لا أحد يفتيني بتبني قطة واحدة داخل منزلي؛ لأن مساعدتي للقطط ليست تلبية لرغبة في الاستمتاع برفقتها كأنيس أو كدمية جميلة متحركة أتسلى وألهو بها، بل هو اهتمام بالقطط الضالة التي لا مأوى لها؛ لحاجتها هي لي و لغيري. ولا أحد يسترسل معي في موعظة: "الإنسان أولى بالمعروف من الحيوان". الإنسان مسؤول عن غيره من كل الكائنات التي خلقها الله، ومساعدتها واجبة، كانت إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، كل من موقعه وحسب ظروفه وإمكانياته، خاصة أمام تقصير المؤسسات. ثم إن الاهتمام بالحيوان لا يلغي الاهتمام بالإنسان ولا يعرقله. أعرف أن الكثيرين يرحبون بهذا القانون، لكنني مؤمنة بأنها قضية إنسانية، وأنا أناصرها. فحمايتهم واجب ومسؤولية، والاعتناء بهم رحمة، ووجودهم اختبار للإنسانية، وتجويعهم جريمة نكراء، حتى ولو كان المبرر هو تنظيف الشوارع والمدن استعداداً لاحتضان كأس العالم 2030. هو حل سحري وغير مكلف، بل مدر للمداخيل (بالغرامات)، كما لن يتطلب ميزانية ضخمة لبناء الملاجئ ومراكز الإيواء والتطبيب والإطعام: تجويع الحيوان وتغريم من يساعده. وهذا من باب: "ضرب عصفورين بحجر واحد". كلنا في انتظار هذا الحدث العالمي، ونحلم بوجه مشرق لمملكتنا الشريفة، لا تخدشه مشاهد مضحكة مبكية مثل تجفيف الملاعب "بالكراطات" تثير سخرية الإعلاميين في كل أنحاء المعمور. ثم، إذا كان هذا القانون يسعى لتنظيف الشوارع وتزيين مظهرها العام، واستبعاد أي تلوث بصري، فما العمل مع جموع المتسولين والمشردين والمرضى العقليين الذين يجوبون الشوارع، ويهددون أحياناً أمن المواطن؟ هل ينبغي تجويعهم هم أيضاً لإبادتهم؟ أم ربما من الأفضل إحراقهم، مثلما فعل "نيرون" حينما عزم على بناء روما جديدة، فأمر بإحراقها ليلاً والشعب نائم؟! فاللهم إني استودعتك أرواحاً بريئة تسبح لك. اللهم رفقاً بكائنات ضعيفة لا حول لها ولا قوة. اللهم احمها من القانون القاتل، ومن قسوة المواطن الذي لا يتورع عن تسميمها ودهسها بعجلات السيارات، لتتناثر أشلاؤها معلنة "موت الإنسان" قبل موتها. فلطفك يا الله. ختاماً، أعلن رفضي القاطع لهذا المشروع الذي حتماً سيمرر قبل إيجاد البدائل اللازمة لحماية الحيوان الأليف.