في غزة، لم يعد الصحافي ناقلًا للخبر، بل صار هو الخبر نفسه: جثة على الإسفلت، أو بثًا ينقطع فجأة عند لحظة قصف إسرائيلي. مقتل أربعة صحافيين، بينهم متعاونون مع "رويترز" و"أسوشيتد برس" و"الجزيرة"، في قصف استهدف مجمع ناصر الطبي، ليس "أضرارًا جانبية" كما تحاول إسرائيل أن تسوّق، بل جريمة حرب مكتملة الأركان: اغتيال متعمد للحقيقة. منذ السابع من أكتوبر 2023، قُتل أكثر من 240 صحافيًا فلسطينيًا بصواريخ الاحتلال ورصاصه. رقم مرعب لا يمكن تفسيره ب"الخطأ"، ولا تبريره بالذريعة المكرورة: "نحقق في الأمر". الحقيقة أن إسرائيل تخوض حربًا مزدوجة: حربًا على أجساد الفلسطينيين، وحربًا على العيون التي توثّق تلك الأجساد وهي تُسحق تحت الركام. وحين تُستهدف خيمة الصحافيين أو مستشفى يُبث منه للعالم، فالرسالة واحدة: أُسكتوا الكاميرات، حتى لا يبقى سوى رواية القاتل. إسرائيل تعرف أن الصورة أقوى من ألف بيان رسمي، وأن عدسة صغيرة قد تهدم جبلاً من الأكاذيب. لذلك تريد محو الشهود قبل محو الضحايا. الأخطر من الجريمة هو صمت العالم. بيانات "الأسف" و"التحقيق الأولي" لا تعني شيئًا أمام سياسة منهجية تجعل من الصحافة في فلسطين أخطر مهنة في العالم. أين هي العواصم التي تتباهى بدروس "حرية الصحافة"؟ أين المؤسسات التي ترفع شعار "الصحافة ليست جريمة"؟ أليس من الجريمة أن يُترك الصحافيون بلا حماية، يُقتلون واحدًا تلو الآخر، فيما يكتفي العالم بعدّ الجثث؟ قتل الصحافيين في غزة لم يعد شأنًا محليًا. إنه اغتيال لحقّ البشرية جمعاء في المعلومة، ومحاولة لإعدام الشاهد الأخير على جريمة الإبادة. فحين يُقتل الصحافي، يُقتل الخبر، وتُمنح القاتل فرصة لإعادة كتابة الرواية كما يشاء. السؤال اليوم ليس: من سيحاسب إسرائيل؟ بل: هل بقي في العالم ضمير يجرؤ على أن يحاسبها؟ لكن الحقيقة التي عجزت إسرائيل عن محوها أن الكاميرا ستبقى، حتى لو تحطمت فوق جسد صحافي. والعدالة، وإن غابت اليوم، ستظل معلّقة في رقاب القتلة، لأن التاريخ لا ينسى.