لا يحتاج جون بولتون، المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى خصوم كي يثير الجدل؛ يكفي أن يتكلّم حتى يضع نفسه في مواجهة الجميع. الرجل الذي قدّم نفسه يوماً باعتباره "صقراً" في سماء السياسة الأمريكية، لم يكن سوى غرابٍ ينعق بالحروب أينما حلّ، من بغداد إلى بيونغ يانغ، ومن طهران إلى كوبا. اليوم، وبعد أن طواه الزمن خارج مراكز القرار، لا يجد لنفسه دوراً سوى الشكوى من سحب الحماية الأمنية عنه، أو ترديد شعارات قديمة عن نزاع تجاوزه التاريخ. بولتون الذي وصفته الصحافة الأمريكية ذاتها ب"المتعصّب" و"المتوحّش" و"الوقح" ارتبط اسمه بأكبر إخفاقات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في العقود الأخيرة. كان من مهندسي الكذبة الكبرى عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، ودافع بشراسة عن "الحروب الاستباقية" التي جرّت الشرق الأوسط إلى فوضى لم تنطفئ بعد. أرهب محللي الاستخبارات وحرّضهم على اصطناع الأدلة، فصار مثالاً على كيف يمكن للتطرّف الأيديولوجي أن يحلّ محل الكفاءة والمهنية. حتى الرئيس الأسبق جيمي كارتر وصف تعيينه مستشاراً للأمن القومي بأنه "أسوأ خطأ ارتكبه ترامب". لكن بولتون، الذي اشتهر بإشعال النيران، وجد نفسه في نهاية المطاف عالقاً في فخ القانون الأمريكي ذاته. فقد داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي منزله ومكتبه في إطار تحقيقات تتعلّق بالأمن القومي وتسريبات محتملة. وللمرة الأولى، بدا الرجل الذي طالما رفع شعار "لا أحد فوق القانون" في موقع من يتوسّل استثناءً لنفسه. صورة بائسة لرجلٍ كان يروّج للقسوة على الآخرين، فإذا به يشكو من وقعها عليه. وبولتون، العاجز عن الحياة بعيداً عن الميكروفون، اختار أن يستعيد حضوره عبر إحياء خطاب متجاوز عن الصحراء المغربية. تجاهل ما أقرّته الأممالمتحدة من استحالة تنظيم استفتاء لتقرير المصير، وتغافل عن دعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الحل الواقعي الوحيد، ليعود إلى تبنّي أطروحات فقدت أي سند سياسي أو قانوني. وبما أنّ ترامب اعترف صراحة بمغربية الصحراء، فقد رأى بولتون في معاكسة هذا التوجّه فرصة لإثبات ذاته، وكأنه يقرأ من كتيّب قديم وُزّع في منتصف القرن الماضي، لا من موقع رجل عاش في قلب القرار الأمريكي. أما الوجه الآخر لبولتون فهو ولعه الشديد بالدفاع عن إسرائيل، دفاعاً يصل حدّ التعصّب الأعمى. بالنسبة إليه، دعم إسرائيل "واجب مقدّس"، حتى لو كان الثمن تبرير قصف المدنيين في غزة أو إلباس الاحتلال ثوب "الحق في الدفاع عن النفس". وحين عيّنه ترامب مستشاراً للأمن القومي، ابتهجت تل أبيب علناً، ووصَفته ب"الصديق الحميم". ولم يكن غريباً أن يعلن مراراً أن سمعة إسرائيل العسكرية لم تتأثر رغم مشاهد الدمار والضحايا، بل ذهب إلى حدّ اعتبار الجيش الإسرائيلي قدّم نموذجاً "أقل كلفة على المدنيين" من حربي العراق وأفغانستان، في مفارقة تكشف مقدار الانفصال عن الواقع. هكذا يظهر بولتون دوماً: سياسي بلا حدود في التحيّز، بلا حساب للعواقب، يرى في الحرب حلاً جاهزاً، وفي التفاوض تنازلاً مذموماً. لا يؤمن بالمؤسسات الدولية ولا يحترم المعاهدات متعددة الأطراف، لكنه يطالب العالم بالانصياع ل"القوة الأمريكية" كما يتصوّرها. اليوم، وهو في السادسة والسبعين، يبدو بولتون مرهقاً من نفسه قبل أن يُرهق غيره. يتنقّل بين القنوات والمنصّات ليكرّر خطاباً فقد بريقه: يهاجم ترامب ثم يهاجم خصوم ترامب، يعيد فتح ملف الصحراء المغربية بتصورات بائدة، ثم يشكو من الFBI وكأن القانون الأمريكي فُصِّل ليناسبه وحده. إنها صورة رجل يتقلب بين دور "الخبير" ودور "الضحية" ودور "المعارض المبدئي"، في تجسيد حيّ لزمن أمريكي عاش على أوهام الحروب الدائمة، ثم انتهى إلى إرث من الخراب والخيبة.