المورفيم "تْسْ"، باختلاف طريقة توظيفه، عبر تحريك اللسان، لملمة الشفتين، مستويات الجهر والهمس والرفع والخفض، حسب تراكم تراث المتحرش، اكتسب معناه نفس الدلالة لدى لغات تواصل الشباب خلال العقود السابقة عن روافد المنظومة الرقمية، بحيث شكل صوتا أوليا قصد إثارة انتباه الفتيات، مطاردتهن، حسب دوي صدى الإشارة بالتفاعل الإيجابي أو موت ارتداداتها في المهد، أو على العكس تماما من الاحتمالين السابقين، قد تخلق "تْسْ" لبانثها متاعب غير متوقعة في حالة رفض الفتاة المعنية للسلوك، ثم قذفته بشتيمة مستفزة قوامها غالبا كلمة "حمار". ردة فعل مكرسة لغويا إبان الحقبة الكلاسيكية، تطورت بعده إلى مرادفات أخرى، نتيجة ربما انفتاح أسواق الإنتاج اللغوي، وقد لعبت بهذا الخصوص المسلسلات المدبلجة مرجعية ألهمت أجيالا ترعرعت طفولتها، وأينع شبابها على إيقاع عرض التلفزيون للدراما المكسيكية بداية التسعينات ثم توقفت كي تعقبها التركية، مثل: حقير، فقير، بئيس، تافه، بليد، مريض، متسخ، متوحش، متخلف، نذل، قليل الحياء، قليل الأدب.. نعوت حديثة التداول، قياسا لسياق تيمة حمار، رسختها يوميات تلك المسلسلات بالدرجة الأولى، فاستلهمها المخزون الإدراكي لشباب في طور اكتشاف العالم وخلقت تعددًا واضحًا بخصوص سلوك التحرش، تجاوزت بسنوات ضوئية وصف حمار. طبعا، لم يكن كل واحد يتقن توظيف نداء "تْسْ" باللياقة اللازمة قصد الإفضاء إلى غاية النتيجة المطلوبة؛ دون حدوث سوء تفاهم. دعوة، تمثل خطوة أساسية ضمن استراتيجية المتحرش، بعد ذلك، يحدد مستويات إقباله أو تراجعه. عاينت، خلال إحدى المناسبات، صداما بسبب اللازمة اللغوية للمتحرشين، وقد تكدسنا في جلسة تنافسية حامية الوطيس، نتبارى بشدة على لعب الورق. مرت شابة من غير ساكنة الحي، فلم يكن جائزا بتاتا؛ أخلاقيا أو مجرد عرفيا، التحرش بفتياته، بل وأكثر من ذلك، يفرض الوضع على جميع شباب الحي، ضرورة التصدي لسلوك من هذا القبيل، إن حدث وصادف أحدهم موقف التحرش بإحدى فتيات الجيران والأقارب والمعارف، من طرف غريب في منطقة بعيدة، مادامت أدبيات الشهامة تفرض عليه وجوب التدخل والدفاع عنها. التقط أحد الجالسين بسرعة طيفها، في غمرة تركيزه على مضمار كارتون لعبة الورق، فلم يتردد قط في إطلاق صيحته الهامسة: "تْسْ، تْسْ". التفتت العابرة نحوه، وصرخت في وجهه: "أنا لست قطة كي تناديني بهذا الأسلوب!" تمادى كازانوفا، راغبا في استعراض تغزله أمامنا: "بل أنت قطة القطط، يا قطة قططي". ضحك جمعنا باستفاضة، بينما احمر وجه الفتاة احمرارا خجلا، وأبانت ملامحها عن بواكير شرارات الغضب: "وأنت حمار حميري، ما رأيك يا حمار! هل توافق؟" انقلبت سخرية الضحك نحوه باحتشام، لأن كلمة حمار ثقيلة على الميزان، تأتي تماما على كرامة الشخص. حدسنا وقوع زلزال غير مسبوق في عين المكان. لكن الموصوف بالحمار باغتنا كليا ببرودته تماما، كما لو ابتلع قرصا مهدئا للغاية، فاندثرت حمولة شحنة أعصابه. ظل برهة ساكنا في مكانه، يقلب بين أصابعه أوراق اللعب، ثم رد عليها: "بل أنا فقط عند مرتبة جحش ولم أدرك بعد مستوى حمار، ألم تسمعي يا قطتي الشرسة عن نخبة مثقفي وفناني مصر الذين أسسوا 'جمعية الحمير'، ضمت أسماء بلغت قمة الذكاء والنجابة: طه حسين، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، الفنانة نادية لطفي...". غادرت الفتاة في منتصف كلامه، دون تعليق يذكر حيال تبرير غريب وعجيب، لم نفهم قط حينها كلمة من فحواه، فقد انتقل صاحبنا بمستوى الخطاب إلى درجة متقدمة للغاية عن بدائية معارف المتابعين لمجريات المشهد، الموصولين بالألفبائيات المعهودة لوقائع ثقافة "تْسْ" وما يندرج في إطارها. لم يكن الأفق غريبا عن ذاك الشاب الألمعي المعروف داخل الحي بتميزه الدراسي والفني، وتأبطه الدائم لبعض المنشورات المشهورة آنذاك مثل، مجلات: العربي (أحمد زكي)، القادسية، الطليعة، الموعد، الصقر، الوحدة، الوعي الإسلامي، الزحف الأخضر، سلسلة روايات عبير المترجمة، وكذا أغاثا كريستي، إضافة إلى إدمانه على القاعات السينمائية. (2) يمنع منعا كليا التحرش وملاحقة الفتيات داخل إطار تجمع ساكنة الحي، لذلك يختار من ابتلي بهذه العادة السيئة شد الرحيل صوب أمكنة المدينة الأخرى، أساسا الشوارع الرئيسة. رحلة، تقتضي استعدادا على مستوى المظهر، وتوظيف بعض الإشارات الشكلية التي تخبر رمزيا، غالبا تضليلا عن الهوية الأصيلة لصاحبها وحقيقة وضعه الاجتماعي، راهنا بكل سوء طويته على النجاح في إثارة اهتمام الفتيات والاستئثار بنظراتهن. تبدو حاليا، فظاظة هذه اللعبة الكلاسيكية متخلفة جدا، قياسا لما بلغه مكر أفخاخ المنظومة الاستهلاكية المدمرة تدميرا لصفاء الجوهر الإنساني؛ عبر خدع أنامل قفازاتها الحريرية المشبعة سمومًا. تعمد المتحرش ارتداء قميص أبيض، إذا كان الوقت صيفا فالأجواء مناسبة تماما، بينما تتداخل سبل خطته نسبيا خلال فصل الشتاء، مع ذلك يمسك بين طيات كفه بالمغناطيس الجاذب حسب توهمه، مثلما فعل كثيرون مع الهاتف المحمول خلال بداياته الأولى، أقصد الإظهار المقصود والتلويح وافتعال المكالمات المصطنعة جيئة وذهابا أمام التجميعات. بيت القصيد ولب القضية، تدبيره بأي طريقة من الطرق علبة فارغة لإحدى السجائر الأمريكية الشهيرة، الفارهة اجتماعيا وقتها، كي يضعها تمويها بمثابة ديكور وسط جيب قميصه الشفاف؛ المشار إليه أعلاه، أو يبقيها في يده، لكنه عمليا يدخن سجائر رخيصة من النوع الرديء اشتراها بالتقسيط، وبشق الأنفس، تماشيا مع قدرات الميزانية المعدومة أصلا أو الهشة بما يكفي. فعلا، لعبت هذه الخدعة قبل افتضاح أمرها، أدوارا تاريخية على مستوى حيل الإغواء والإثارة. (3) اختلفت جذريا مقومات الوسامة والحضور الفيزيولوجي حسب التقدير العام، بين حقبة السبعينات، سنوات تسيد أفكار وعقائد الهيبيز، ثورة 1968، الوجودية والعبثية، اليسار الجذري، الغيفارية، الثورة العالمية، البيتلز، بوب مارلي، جيمي هندريكس، الطيب الصديقي، ناس الغيوان، جيل جيلالة، المشاهب، ثم بداية الألفية الثالثة بتحولاتها الراديكالية. شغلت حينها، تصفيفات الشعر الكثيف، الكث، المجعد، اللولبي، مسعى جل الشباب المتطلع قصد تحقيق الانتماء إلى منظومة التمرد والثقافات الجديدة. أذكر، بأن أبناء الحي لم يخرجوا عن مبتغى هذا المنحى، لذلك تنافسوا تنافسا في سبيل رعاية شعر كثيف، والمحظوظ من أمكنه الأمر بغير مجهود كبير مع شعر مطواع ولين، بينما دأب الآخرون ذوو الخصلات العصية، على تجريب وصفة، تتمثل إضافة إلى التوقف تماما عن مشط شعره أو تنظيفه، في حتمية تبليله وترطيبه بخلطة ماء محلّى بالسكر. بهذا الصدد، بالغ أحد المتحرشين المتأهبين في الاعتماد على إكسير الخليط كي يحصل على تصفيف شعر لولبي أو مجعد بامتياز، غير أنه لم يحدس بتاتا كومة ذباب استمر في الدوران حول رأسه، وبمحاذاة أذنيه، بغية لعق الرحيق العجيب، مما أفسد عليه الحفل منذ البداية.