عندما يقوم الإسلام السياسي باستنساخ مقولات ماضوية لتزكية خطابه، فإنه يعيد التذكير بتاريخ تكوين اللغوي تراثيًا والتراثي لغويًا؛ أي بالبحث عن تراكمات ثقافية يزكي بها شرعية هويته، حتى يؤدي وظائفه في اختراق التراكمات السياسية المرتبطة بالاجتهادات الفردية اليومية وتفاعلاتها الاجتماعية. وذلك من أجل قولبتها في إطار مقدس ولبوس ديني يجدد به لغته، ومعه تصير عملية التلقي قادرة على إعادة تشخيص آليات جديدة، يتحكم فيها الديني بسلطة تهيمن على اليومي، وبإكراهات أسطرة الواقع وتحويله إلى نمط متخيل غير متجاوز في اللاشعور الجمعي. الراحل محمد أركون عمل على استغوار فكر راهن على البحث في العقل الإسلامي، وهو الذي رفض الحديث عما يسميه بجيوسياسية إسلامية كما تحددها النظرة الثيولوجية الأرثوذكسية. وهو الذي انطلق في أبحاثه ودراساته من أن القرآن نص متعدد المعاني ومفتوح على الدلالات، لكنه يقر باختلاف قراءته بسبب تعددية الجماعات العرقية الثقافية التي استمدت من الإسلام عناصر مشكلة لهوياتها، فأصبحنا اليوم نتحدث عن إسلام سعودي وآخر باكستاني وآخر مغربي... إلخ. حيث يرى أن الفكر الإسلامي تراجع عن نقد مفهوم الأرثوذكسية في الإسلام، مما يعكس القوة التوحيدية للإسلام بحكم أن الأرثوذكسية تعني الاستملاك الأيديولوجي للرسالة الدينية. ترى أين تتجدد الأيديولوجيا الدينية في الإسلام عند أركون؟ علماً أن أركون ينفي ذلك بشدة، لأن الدين يتجاوز من كل الجهات ما نسميه بالأيديولوجيا ضمن الخط الماركسي. فهو يرى أن الدين ظاهرة تخترق التاريخ والمجتمعات والثقافات وتتعداها، فهو بتحديده اللساني والسيميائي يجيش الأسطورة والرمز والحكمة والمجاز وحكايات التأسيس عكس الأيديولوجيا في الفكر الحديث. فهي ليست إلا طموحات أو مزاعم تستخدم مفاهيم غامضة وغير محددة، وغالبًا ما يتم استنفادها وتفتقد مرجعياتها السيميائية والمعنوية. فالإسلام أبان عن قوته خارج إطار إنتاج الأيديولوجيات، طبقًا للعلاقات والصراعات الطبقية بالمعنى الماركسي للكلمة. أركون لا يستثني بقية الديانات الأخرى، فهو يسمي اليهودية والمسيحية والإسلام بأديان الكتاب، بالمعنى المثالي والمقدس للكلمة، أي إنها تستند على نص شفوي في الأصل ولكنه أصبح فيما بعد نصًا مكتوبًا، ليصبح مرجعًا مطلقًا. علماً أن محمد أركون له موقف تاريخي من أن الدين بشكل عام كخطاب لم يبلور لكي نتحدث عنه بشكل علمي من أجل تجاوز نظرية أن الأديان ليست إلا مجرد أيديولوجيات... فمحمد أركون كان ذكيًّا في التمييز، مثلاً، بين الإسلام والمسيحية؛ ذلك أن الإسلام كدين يعتمد الكتاب أي القرآن كمرجع شامل، عوض المسيحية التي تركز على شخصية المسيح بدعوى أنه يمثل الكلام الإلهي مجسدًا، لكنهم يضطرون إلى الرجوع إلى الأناجيل خلال ممارساتهم العملية، رغم أنها لا تتوفر على نفس مكانة القرآن الكريم لأنها نقلت إلينا عبر أشخاص مختلفين، ثم إنها ليست متماثلة. يرى أركون أن القرآن والأناجيل يلتقيان في أنهما قد تعرضا لنفس عملية الاجتزاء والانتقاء والتركيبات والإسقاطات والاستنباطات من أجل الإجابة على مطالب المخيال الفردي والجماعي. فخطاب الأيديولوجيا أو الأرثوذكسية كما يسميها محمد أركون في كتابه "العقل الإسلامي" حاضرة بين تياري الشيعة والسنة مثلاً. فبعد وفاة الرسول الكريم لم تعد هناك أي سيادة أو سلطة، وهي غالبًا ما تحكمت فيها شروط سياسية واجتماعية وجغرافية. كما يستدل على الأرثوذكسية الدينية بنماذج مما يسميه، مثلاً، بالتنوع الإثنولوجي؛ فالصبغة الدينية، مثلاً، لسكان الجبال في المغرب كانت سابقة على الإسلام في المغرب، والمرابطون هم من أدخلوا إليها الإسلام، لكن مع ترسيخ العقائد المحلية السابقة على الإسلام عن طريق إضفاء الصفة الإسلامية عليها، عكس السهول التي عرفت بسهولة كبيرة انتشار ما يسمى بالإسلام الشعبي المتمثل في الزوايا. هذا الاستدلال الذي يمارسه أركون هو استدلال داخل مكون الإسلام السني، لكنه قد يختلف أثناء الحديث عن الصراع التاريخي بين السنة والشيعة، مثلاً. لكن أركون كان واعيًا بأنهما ينتميان إلى ما يسميه بالنواة الصلبة للإسلام من خلال المرجعيات المشتركة بينهما والمتمثلة في الرسول الكريم والقرآن الكريم والتي لا خلاف بخصوصهما، لكن الخلاف هو خلاف ثيولوجي يتعلق بالذاكرة والتراث المختلفين، والذي تحكمت فيه شروط جغرافية أيضًا؛ فالسنة يعتمدون البخاري مثلاً، والشيعة يعتمدون الكليني الذي سجل تراث الأئمة الاثني عشر، بالإضافة إلى وجود خلاف بخصوص تفسير النص. فالسنة يستحضرون التفسير الحرفي والنحوي للقرآن، في حين أن الشيعة يعتمدون التأويل الباطني. لقد نجح محمد أركون في التأسيس لقراءة جديدة في تاريخ العقل الإسلامي، ومن استنتاجاته الكبرى أن المجتمع هو الذي يولد التعبير الديني عبر منعطفات تاريخية وأوساط اجتماعية تكون فيها الظاهرة الدينية قوية جدًّا، وهو ما يظهر من خلال حضورها اليومي في الخطاب الفكري والسياسي العالمي.