منذ سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، تصاعدت الآمال بإمكانية ولادة دولة سورية موحدة، مدنية وسلمية. غير أن ما تلا ذلك رسم ملامح واقع آخر، يشير إلى أن البلاد تسير نحو تقسيم فعلي، ولو مؤقت، يتخذ من نهر الفرات حدّا فاصلا بين رؤيتين متصارعتين، وسلطتين تتنازعان النفوذ والسلاح والهوية، كما يوضح تقرير لوكالة "رويترز". فالنهر الذي كان عبر العصور شريانا للحياة ومنبعا للحضارات، بات اليوم جبهة تماس دامية، تفصل بين معسكرين مسلحين، كل منهما يقف على ضفة من الجغرافيا، ومن التاريخ السياسي أيضا. فمن الغرب، تشير "رويترز" إلى هيمنة فصائل إسلامية على ما تبقى من "دولة دمشقالجديدة"، تحت رئاسة أحمد الشرع، القيادي السابق في تنظيم القاعدة، والمدعوم أميركيا وتركيا. وعلى الضفة الشرقية، تبسط القوات الكردية سيطرتها على منطقة غنية بالنفط والسدود، وتديرها بواقع شبه مستقل، ضمن إدارة ذاتية ترفض التبعية وتخشى تخلي الحلفاء الأميركيين عنها في أية لحظة. التوتر بين الجانبين تجاوز مرحلة الاحتمالات ليغدو واقعا ميدانيا. فالمواجهات، وفق ما وثّقه تقرير "رويترز"، منتشرة على امتداد مجرى الفرات، من منبعه في الشمال إلى دير الزور في الجنوب، حيث لا تفصل بين القوات سوى 200 متر عند أقرب نقطة، تُرصد فيها الأسلحة المشهرة والنفوس المتحفّزة. الجسر الترابي في دير الزور تحوّل إلى رمز لتوازن هش، لا تحكمه اتفاقات، بل حسابات ميدانية ومعادلات قوّة متقلبة. في هذا السياق، تنقّل فريق "رويترز" على امتداد أكثر من 1800 كيلومتر من خطوط التماس، لرصد خريطة السيطرة وتحوّلات الولاءات ومزاج السكان المحليين. فالتحالف العسكري الذي يقوده الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، رغم وصوله إلى السلطة بدعم إقليمي، يواجه تحديات داخلية وانقسامات ولائية، فيما تعيش الإدارة الذاتية الكردية قلقا متزايدا بشأن مستقبلها، خاصة في ظل انسحاب جزئي للقوات الأميركية. على ضفتي النهر، القادة يتحدثون بلغة السلاح. أحمد الهايس، قائد الفرقة 86 في الجيش السوري الجديد، يرى أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، وأن "التحرير" لم يكتمل بسقوط الأسد. أما القائدة الكردية سوزدار ديرك، فتؤكد أن قواتها لن تبادر بالحرب، لكنها لن تتوانى عن الدفاع عن مناطقها إذا اقتضى الأمر. وبين تصعيد ميداني وتهديدات متبادلة، تسقط تفاهمات التهدئة، ويُعاد الحديث عن احتمال المواجهة الشاملة. الخطورة لا تقتصر على الوضع العسكري، بل تمتد إلى البنية السياسية. في الشمال، تشتعل المعارك حول سد تشرين الحيوي، أحد أهم مصادر الطاقة في البلاد. السيطرة عليه تمنح أفضلية استراتيجية لأي طرف. وفي الجنوب الشرقي، تُظهر تصريحات الهايس رغبة دمشق في استعادة مناطق سيطر عليها الأكراد، بينما يرى هؤلاء أن تجربتهم في الحكم الذاتي هي نتيجة نضال تاريخي، لا مجال للتراجع عنه. المفارقة أن الطرفين يعتمدان، إلى حد بعيد، على داعمين خارجيين متعارضين. فواشنطن، التي كانت الحليف الأبرز لقوات سوريا الديمقراطية، بدأت تنسحب تدريجيا، ما دفع هذه القوات إلى تطوير قدرات دفاعية مستقلة، خصوصا في مجال الطائرات المسيّرة والأنفاق. في المقابل، تواصل أنقرة دعم الفصائل الإسلامية، وتموّل عددا من القيادات والمقاتلين، كما هو الحال مع معتصم عباس، أحد أبرز القادة الميدانيين، الذي يرتبط اسمه بتوسّع الفصائل الموالية لتركيا غرب النهر. في ظل هذا التصعيد، تتجلى المعضلة الأكبر في غياب مشروع وطني مشترك. فالمفاوضات الجارية في دمشق، التي تستهدف توحيد الجيش والإدارات، لا تحقق تقدما ملموسا. يقول الشرع إن "سوريا لا تقبل القسمة"، لكن الواقع يتجه نحو تثبيت الوقائع الميدانية. أما المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية، فرهاد شامي، فيؤكد أن الخلاف لا يقتصر على الجوانب العسكرية، بل هو اختلاف جوهري في هوية الدولة، بين نموذج ديني محافظ، وآخر مدني تعددي. المشهد المدني بدوره لا يقل قتامة. ففي مناطق الإدارة الذاتية، تتعرض بعض الفئات العربية لممارسات أمنية مشددة، بينما تتصاعد في مناطق الحكومة الجديدة الشكوك تجاه السكان، في ظل انتشار الفصائل العقائدية. تقول مريم، الناشطة الحقوقية من الرقة، إن الحياة هناك باتت "محصورة بين شبهة الولاء للأكراد، وشبهة الخيانة للدولة"، مشيرة إلى أنها عاشت تحت حكم الأسد، ثم "داعش"، والآن تحت الإدارة الكردية، لكنها لم تشعر بالأمان في أي مرحلة. تتحدث تقارير عن تصفية حسابات قديمة، وتبدلات في الولاءات، وعودة تكتيكات الحرب الباردة داخل المجتمع السوري. ووسط هذا المشهد، يعود شبان مثل طارق من منافيهم إلى الوطن ليصطدموا بواقع مختلف عن كل التوقعات. "ليتني لم أعد"، هكذا لخّص تجربته بعد عودته إلى دير الزور، حيث لا يرى سوى استمرار القلق وتبدل الأسماء دون تغير في الخوف. وترى "رويترز" في تقريرها أن سوريا تقف عند مفترق طرق مصيري: فإما السير في طريق الوحدة وبناء دولة مشتركة، أو تثبيت واقع الانقسام وترسيخ خريطة جديدة، قد تؤدي إلى مزيد من الانفجار في المستقبل. وبينما تُعقد جلسات التفاوض في دمشق، تُشيّد الأنفاق في الرقة، وتُحفر الخنادق على ضفاف الفرات، ويواصل النهر جريانه... لا كمجرى مائي فحسب، بل كحدّ فاصل بين رؤيتين لسوريا، وربما بين سوريا وسوريا.