الحديث عن المدرسة وإصلاحاتها المتتالية، بما تقتضيه الموضوعية من تجرد، ليس بالأمر الهين، حتى في حال الادعاء، لصعوبة التخلص والانسلاخ من مرجعيات النظر، ومن خلفيات التأويل، ومن الدوافع والرغبات والمواقع، سواء في بعدها الفردي أو الجماعي. لأن الحديث، في حد ذاته، ما هو إلا تجلٍ سلوكي قولي من تجليات الوعي. والوعي الإنساني بطبيعته لا يتشكل وينمو خارج حدود الواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه، والبيئة التي تنتجه ويتفاعل معها. ومن ثمة يعكس الحديث عن المدرسة بهذا المعنى طبيعة الوعي، إن كان وعيا مزيفا أو وعيا حقيقيا ممكنا أو مركبا. إنه من مخرجات الوعي الذي يستبطن الانتماء والاتجاه والموقف، لا على أساس الحتمية، وإنما على أساس فاعلية الجدل والخلفية الثقافية والأخلاقية والقيمية المؤطرة للانتماء والاتجاه والموقف. إننا ككائنات اجتماعية نفكر بلغتنا ونتكلم من داخل بنية وعينا، حتى لو حاولنا ضبط مخرجات تفكيرنا وكلامنا في قضايا الحياة مع نوازعنا ومصالحنا الخاصة. في القضايا الوطنية الاستراتيجية يصير الانتماء للوطن هو المحدد لطبيعة الاتجاه والموقف وليس الانتماء الاجتماعي، بما لا يعني تحييده أو إخفاءه وإنما تأجيله. وهذا ما يفيد أن التناقض الرئيسي ينتقل من دائرة صراع البُنى الاجتماعية إلى تفاعلها وتكاملها من أجل الوطن أولا، ما دامت القضية قضية وطنية ذات أولوية. ولنا في ذلك أمثلة عديدة على رأسها وحدة الكفاح والنضال الوطنيين حين تكاملت وحدة وتطلعات وإرادة الملك والشعب بكل مكوناته من أجل استقلال الوطن. والإجماع الوطني حول المسيرة الخضراء الذي توافقت فيه إرادة الدولة والمجتمع بمختلف مكوناته لاسترجاع أقاليمنا الجنوبية في منتصف سبعينات القرن الماضي. والتوافق الوطني بين مكونات الأمة من أجل انتقال ديمقراطي مرن في مرحلة ما بعد منتصف تسعينات القرن الماضي. وفي مجال التربية والتكوين نستحضر ذلك التوافق الوطني النوعي، ولأول مرة في تاريخ المدرسة، من أجل ميثاق وطني للتربية والتكوين، يحدد الاختيارات الاستراتيجية لبناء منظومة وطنية للتربية والتكوين في نهاية القرن الماضي، فكان ميثاقاً تعاقدياً تأسيسياً بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين مختلف مكونات المجتمع من جهة ثانية. وهو تعاقد تأسيسي لأنه وضع الأسس والدعامات، وقدم تصوراً لوظيفة المدرسة ولعلاقتها بمحيطها وبشركائها. ووضعها في صلب مشروع التنمية، وحدد الطريق إلى ذلك، فجاءت الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية لتحدد معالم الطريق من خلال ثلاثة مداخل كبرى حاسمة لتفعيل مقتضى هذا التعاقد وتجديد النموذج البيداغوجي: وهي التربية على القيم عبر أربعة مسارات ضابطة ومخصوصة: مسار القيم الدينية ومسار القيم الوطنية ومسار القيم الحضارية ومسار القيم الإنسانية وحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً. ثم التربية على الاختيار لبناء المواطن المسؤول عن اختياراته في الحياة تجاه نفسه وتجاه الدولة والمجتمع والإنسانية جمعاء والبيئة الطبيعية. ثم تنمية وتطوير الكفايات لضمان التكيف المنتج وتحقيق الانسجام والملاءمة بين تطلعات وحاجات الفرد والمجتمع معاً، وتوفير حاجات المجتمع من الأطر والكفاءات اللازمة في مختلف المجالات لتحقيق التنمية والتقدم والازدهار. وبعد هذا الميثاق، وفي سياق وطني اجتماعي وسياسي ودستوري نوعي جاء ذلك التعاقد الآخر بين الدولة والمجتمع حول المدرسة الجديدة من خلال الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين في منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة لتجديد تلك الاختيارات، وتحين رافعات تفعيلها، وبناء مدخلات تنفيذها، وضبط سيرورات أداء منظومة التربية والتكوين ككل، وتدقيق المبادئ والأهداف والوظائف والغايات، وتحديد مقومات الانفتاح على الآفاق المستقبلية، والانخراط في روح العصر وفي عالم المعرفة واقتصادياتها. ورغم هذه الصعوبة في التزام الموضوعية، فإن النظر إلى موضوع المدرسة من حيث وضعيتها الراهنة وتراكماتها عبر تعدد التجارب الإصلاحية التي خضعت لها، إذا كان يستوجب بالضرورة الانحياز إلى الموضوعية وتغليب المصلحة العليا للوطن والمصلحة الفضلى للأمة، فهو لم يسلم من الانحياز مع مختلف هذه التجارب الإصلاحية بفعل طغيان الأنانية الحزبية من موقع السلطة التنفيذية أو من موقع اللوبيات المؤثرة في السياسات العمومية، أو من موقع الجهاز الإداري الذي شكل ولا يزال في قطاع التربية والتكوين سلطة ناعمة في حد ذاتها على حساب المصلحة الفضلى للوطن. واتخذت هذه الأنانية وهذا الانحياز في ذلك أنواعاً من الخطابات الاستهلاكية والشعبوية التي تخفي أكثر مما تبديه. كما اتخذت أشكالاً من التأثير على مسار تفعيل الإصلاح، بوضع العراقيل أو التحجج بإكراهات ضعف مصادر التمويل أو بتبطيء السيرورة أو بضعف الخبرة الوطنية أو حتى باعتماد تأويلات نصية تتجاوز المعنى المقصود والغايات المحددة. على كل حال يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار مرحلة ما بعد دستور 2011 بما اتسمت به من تقدم ووضوح في النص الدستوري وخاصة المتعلق منه بمنظومة الحقوق، وما حملته من مستجدات، وخاصة في موضوع الحقوق الأساسية ومنها الحق في تعليم عصري ميسر الولوج وذي جدوى. وفي موضوع تدبير السياسات العمومية واختصاصات السلط ومنها ما ارتبط بتوسيع مهام السلطة التنفيذية. وفي موضوع مؤسسات الحكامة ومنها ما تم إسناده من مهام الاقتراح والرأي والتحليل والدراسة والبحث والتقييم لمؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. وما إلى ذلك من المستجدات التي لا يمكن الحديث عن أي نموذج إصلاحي تخضع له المدرسة إلا في ضوء هذه المستجدات، لأنها ليست مجرد مستجدات في الإجراءات التنفيذية وحسب، وإنما هي مستجدات تمس جوهر الاختيارات الاستراتيجية في معالجة قضايا التربية والتكوين عامة، عن طريق توزيع الاختصاصات بين الجهاز التنفيذي المسؤول عن وضع السياسات العمومية في القطاع، والجهاز الإداري المسؤول عن تفعيل هذه السياسات من خلال إجراءات وأداءات تدبيرية، ثم مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كمؤسسة دستورية من مؤسسات الحكامة التي تحظى بالاستقلالية. كل هذا ضمن رؤية متقدمة لترسيخ الحق في التنمية، ودور المدرسة خاصة في ترسيخ هذا الحق ضمن رؤية استراتيجية للتنمية البشرية والرفاه المجتمعي. وهذا ما تستبطنه العبارة الدستورية "الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جدوى" من مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص والعصرنة والجدوى. وهي ذاتها من مقومات العدالة الاجتماعية في بعدها الفردي من جهة، وفعالية العلاقة بين المدرسة والتنمية في بعدها المجتمعي من جهة ثانية. وهي في الوقت ذاته منسجمة كل الانسجام مع المداخل الثلاثة التي أطرت النص المؤسس للمدرسة الجديدة والمتمثلة في الإنصاف وتكافؤ الفرص وضمان الجودة للجميع من أجل الارتقاء بالفرد والمجتمع. هذه المستجدات كفيلة على الأقل بتقليص هامش مراوغة النص والالتفاف عليه، وفي المقابل هي مستجدات كفيلة بكشف تلك الأنانية وذاك الانحياز. وتأكيداً على هذا، نقول: بما أن قضية التربية والتكوين تعد ثاني قضية بعد الوحدة الترابية بمقياس أولويات الأمة دولة ومجتمعاً، فهذا يعني أنها قضية، حتى وإن كان تدبيرها يتم من داخل دائرة السياسات العمومية بشكل عام ودائرة تدخل الدولة الاجتماعية بشكل خاص، فإنها تتموضع في منزلة بينية، أي منزلة بين المنزلتين. بين منزلة التدبير السيادي الاستراتيجي المرتبط من حيث مداه بالزمن الممتد عندما يتعلق الأمر بمستوى الرؤية وتحديد الاختيارات الوطنية الاستراتيجية المتعلقة بمنظومة التربية والتكوين. وهذا هو مجال التعاقد الوطني والمجتمعي. وبين منزلة التدبير السياسي المرحلي المرتبط من حيث مداه بالزمن الانتخابي عندما يتعلق الأمر بالمستوى التنفيذي والتدبيري والإجرائي. وهذا هو مجال اجتهاد الفاعل السياسي ومجال تدخله. ومن ثمة فهي، إلى جانب كونها قضية تحظى بعناية خاصة من طرف جلالة الملك، فإن هذه المنزلة البينية، من المفروض أن تجعلها محصنة في وجه قوة تأثير وتدخل الحسابات السياسية والإيديولوجية والحزبية المرحلية. ويجعلها في مقابل ذلك مرتبطة تمام الارتباط بدائرة التعاقد، في بعده الحضاري والسياسي، بين الدولة والمجتمع حول المدرسة ووظائفها، وبدائرة التعاقد، في بعده التاريخي والاجتماعي، بين مختلف بُنى المجتمع ومكوناته، على أساس ترسيخ الهوية والتاريخ المشترك، وقواعد العيش المشترك، والمصير المشترك. وذاك هو جوهر وجود المدرسة، وجوهر وظيفتها المستعرضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية والعلمية والتكوينية. على هذا الأساس، يتطلب الأمر أن يكون كل تدخل في شأن المدرسة، وقضايا التربية والتكوين عامة، منضبطاً للمستوى الذي يحدد صلاحيته، أولا، ثم الالتزام بمقتضيات التعاقد الوطني المرجعي لكل عمليات التخطيط والتدبير والأداء ثانيا. وهو ما دفع النص المؤسس للمدرسة الجديدة (الرؤية الاستراتيجية 2015-2030) إلى الدعوة في رافعتها الثالثة والعشرين التي دعت فيها إلى تعبئة مجتمعية مستدامة وخاصة في فقرتها 129 إلى "صياغة مضمون هذه الرؤية في قانون إطار يصادق عليه البرلمان ويُتخذ بمثابة تعاقد وطني يلتزم الجميع بتفعيل مقتضياته وتطبيقه والمتابعة المنتظمة لمساراته". وهو ما تحقق بالفعل بعد أربع سنوات من النقاش العمومي من خلال القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي الذي صادق عليه نواب الأمة سنة 2019. إلى ماذا ينتهي بنا هذا القول تحديداً؟ إنه ينتهي بنا، وبمنتهى الوضوح في الرؤية، إلى التأكيد على أن دولة المؤسسات هي دولة تحترم فيها الاختصاصات والالتزامات التي يكفلها القانون ويصونها التعاقد المجتمعي، كما تحترم فيه اختصاصات السلط المحددة بالنص الدستوري واختصاصات مؤسسات الحكامة التي أحدثت بمقتضى نفس النص الدستوري. وبذلك يكون اختصاص السلطة التنفيذية في مجال التربية والتكوين لا يتجاوز حدود التخطيط التنفيذي والتدبير الإجرائي المرتبط بمدى الزمن التكتيكي والانتخابي من خلال وضع وتنفيذ برامج بأهداف واضحة ومؤشرات محددة قابلة لقياس الأثر. وليس من اختصاصها تجاوز حدود النص المؤسس والالتزامات التي حددتها أحكام القانون الإطار 51.17. بل إنها ملزمة كذلك بالاجتهاد وابتكار الحلول وبتقديم تصورات عملية قابلة للتنفيذ لأجرأة هذه الأحكام بما تقتضيه من نجاعة في الأداء وفعالية في الأثر، مع احترام زمن الإصلاح وتقدير أهميته حق تقدير. وبذلك يتم التعامل مع هذا القانون، لا باعتباره نصاً إجرائياً وفقط، وإنما باعتباره مؤسسة مُوجِّهة لمسار الإصلاح قائمة الذات. وباعتباره بنية نسقية من الأحكام المترابطة والمتفاعلة والمتكاملة. ثم باعتباره إطاراً مرجعياً لوضع السياسات العمومية في قطاع التربية والتكوين، وإطاراً مرجعياً لبناء البرامج التنفيذية، وإطاراً مرجعياً لمواكبة نجاعة الأداء الإداري على مستوى مختلف هياكل الجهاز الإداري، وإطاراً مرجعياً لتقييم هذا الأداء وتقييم مخرجات هذه البرامج. ومن ثمة تقييم السياسات العمومية. وخاصة أن هذا القانون لم يكتف بتحديد الاختيارات والمبادئ والأهداف العامة والهياكل ومكونات منظومة التربية والتكوين والهندسات الموضوعاتية وحسب، وإنما تضمن كذلك الآليات اللازمة للتفعيل والمواكبة والتقييم والضبط والتعديل. وبذلك كان إطاراً لتحصين مسار إصلاح منظومة التربية والتكوين في مداه الممتد وضمان ديمومته ومواكبته ضد كل انزياح أو انحراف أو تجاوز أو تجميد قد تفرضه خصوصية الفاعل السياسي وتطلعاته وأنانيته في زمن من أزمنة المدى القصير الانتخابي، أو سعى إلى ذلك سعياً بشكل مباشر أو عن طريق التحايل والالتفاف. وهذا حقاً ما يجعلنا، كمواطنين وكفاعلين تربويين، فخورين وأكثر ثقة في الاختيارات الاستراتيجية لملك البلاد عندما كلف مؤسسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهي مؤسسة بتركيبتها الوظيفية مؤهلة للتفكير بشكل توافقي في مستلزمات وممكنات التعاقد بين الدولة والمجتمع، إلى بلورة رؤية استراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين. كما دعا الجميع إلى "تملك هذا الإصلاح والانخراط الجاد في تنفيذه" وإلى "صياغة هذا الإصلاح في إطار تعاقدي وطني ملزم، من خلال اعتماد قانون – إطار يحدد الرؤية على المدى البعيد، ويضع حدا للدوامة الفارغة لإصلاح الإصلاح، إلى ما لا نهاية". عندما نراقب التجربة الإصلاحية الحالية التي تمثلها خارطة الطريق (2022-2026) بشكل عام، والإجراءات التي تم التركيز عليها لإثبات صلاحية هذا النموذج الإصلاحي التحويلي الجديد بشكل خاص، وهي واقعة تحت تأثيرات وضغط السنة الختامية من عمر التجربة الانتخابية الحالية، وما يفرضه الالتزام بالشرط الزمني وطبيعة البرنامج الذي تعاقدت عليه أحزاب الأغلبية مع المواطنين، نجدها كتجربة إصلاحية، من حيث رؤيتها وطبيعتها ومقاربتها التدبيرية ومآلاتها، لا هي تستند إلى النص المؤسس للمدرسة الجديدة ورافعاتها، ولا هي التزمت بأحكام هذا القانون الإطار، بل إنها اختارت الانتقائية والاختزالية بدل الاندماجية والالتقائية والشمولية. واتخذت من نفسها مرجعاً مستندة إلى نتائج تقييمات دولية ووطنية اعتبرتها كافية ومبرِّرة، بعدما كانت قد أصدرت بشكل مجحف، أثناء عملية تشخيص واقع التجارب الإصلاحية السابقة وراهن المدرسة المغربية من حيث المؤشرات المعبر عنها وخاصة تلك المتعلقة بالتعلمات الأساس ونسب الهدر المدرسي، حكم قيمة لا علاقة له بالتشخيص العلمي، مفاده أن هذا النص المؤسس للمدرسة الجديدة، وهذا القانون الإطار نفسه، ينتميان معاً إلى المبادرات التي باءت بالفشل دون أن تتمكن من إحداث التغيير المطلوب. وبذلك يكون هذا النموذج الإصلاحي التحويلي قد اختار لنفسه طريقاً جديداً "لتصحيح مسار الإصلاح" إذ "أصبح من اللازم، اليوم، العمل على تقليص الفجوة الفارقة الموجودة بين السياسة التربوية وبين الواقع الميداني وما يجري داخل الفصل الدراسي." على حد ما تم التعبير عنه ضمن التشخيصات القبلية التي نشرها موقع "مدرستنا" الرسمي. وهذا الطريق، على ما يبديه الواقع ويؤشر عليه، تمت صياغته من خارج هذا النص المؤسس وهذا القانون الملزم، على عكس ما يذكره بعض المنتمين إلى دائرة قيادة هذا النموذج الإصلاحي. وهكذا يكون الاعتراف سيد الأدلة. وتكون التجربة الإصلاحية الجارية تمثل في حد ذاتها نموذجاً إصلاحياً آخر، بنَفَس مختلف، وخلفيات مختلفة. غايته تصحيح مسار الإصلاح، ما دامت فكرة "تصحيح المسار" نفسها تحمل في طياتها بعداً تعديلياً غايته إعادة ضبط مؤشر بوصلة الإصلاح بعدما زاغ عن سكته. وبذلك يكون الهدف من خارطة الطريق وبرامجها الإجرائية، ليس هو تسريع وتيرة تفعيل أحكام القانون الإطار، وإنما هو تجاوز هذه الأحكام وإعادة الاتصال بالنموذج السابق، أي التراجع وعدم الاعتراف بالمكتسبات التي تحققت في ظل مختلف المبادرات التي امتدت عقدين من الزمن بدءاً بالميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 وإلى غاية القانون الإطار 51.17 سنة 2019. لا ندري كيف استطاعت خارطة الطريق في المشاورات التي سبقتها، والتشخيصات التي قامت بها، والاستنتاجات التي انتهت إليها، أن تحكم على كل هذه المبادرات بالفشل علماً بأنه منذ سنة 2015 عرف القطاع المدرسي عدة إجراءات، كان ولا يزال أثرها ممتداً حتى مع إجراءات تنفيذ خارطة الطريق ذاتها. ومن هذه الإجراءات التي ساهمت في إحداث تحولات عميقة في مسار الإصلاح نذكر تلك التي أعقبت تجربة البرنامج الاستعجالي (2009-2012) في إطار ما عُرف بالتدابير ذات الأولوية التي اتخذتها السلطة المكلفة بالتربية والتكوين في القطاع المدرسي (2015) على مستوى المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي (منهاج منقح)، والهندسة اللغوية (تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية)، والعرض التربوي (الخيارات الدولية والمسارات المهنية). وتلك المبادرات التنفيذية والإجرائية التي تم اتخاذها في إطار المشاريع المندمجة في نسخها المتعددة (2016-2017-2018)، أو في إطار التصور الجديد لتكوين المدرسين الذي اقتضى إحداث مسلك الإجازة في التربية (2018)، أو في إطار برنامج العمل الملتزم به أمام صاحب الجلالة (2019)؛ أو في إطار تنفيذ مشاريع تفعيل مضامين القانون الإطار (2020). وأكثر ما يعزز هذا القول هو ما عرفته هذه المرحلة على مستوى النموذج البيداغوجي من مستجدات، حيث تم الاشتغال منذ سنة 2015 بجدية واجتهاد باعتماد مقاربة تشاركية صاعدة، من أجل بناء منهاج دراسي للتعليم الابتدائي حتى يصير أكثر انسجاماً ووظيفية، إلى أن صار جاهزاً من خلال وثيقة رسمية سنة 2021، بعد أن خضع للتجريب والتنقيح والتعديل وأضحى أكثر نضجاً من حيث مدخلاته وسيروراته ومخرجاته، بل إنه طور بشكل منهجي وعملي مقاربة التدريس بالكفايات عن طريق التكييف والملاءمة والانفتاح على كل المقاربات البيداغوجية الداعمة وخاصة في مجالات تدريس اللغات وتدريس الرياضيات والعلوم. وانفتح كذلك على الممارسات الفضلى والاجتهاد والمبادرة. وسمح بهامش معقول من الاستقلالية البيداغوجية للمدرس، آخذاً بعين الاعتبار في ذلك خصوصية الفئة المستهدفة وعلاقة المدرسة بمحيطها السوسيو-ثقافي، وفتح الفصول الدراسية على فضاءات أخرى داعمة للتعلم لتشمل الأنشطة المندمجة في إطار برامج العمل التربوي التي تعدها المؤسسات في إطار مشروع المؤسسة، وفق خصوصية كل مؤسسة تعليمية وإمكانياتها وخبراتها ومواردها وشركائها. كما تم إطلاق في هذه الفترة نفسها برامج ذات أهمية تثري هذا النموذج البيداغوجي عامة، ومنها بناء الوثيقة المنهاجية الموحَّدة والموحِّدة للتعليم الأولي، وبناء وثيقة الإطار المنهجي للتربية الدامجة. كما عرفت المرحلة ذاتها إدماج المهارات الحياتية الاثنتي عشرة في المنهاج الدراسي وفي الأنشطة المندمجة، وفق ما أقرته مبادرة تعليم المهارات الحياتية والمواطنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المعتمدة من طرف منظمة الأممالمتحدة للطفولة (Unicef). وهذه كلها مستجدات عرفها النموذج البيداغوجي واستهدفت الارتقاء به وتطويره بما يجعله نموذجاً فعالاً قادراً على إحداث الفارق في نوعية وجودة التعلمات، إن على مستوى التربية على القيم أو على مستوى التربية على الاختيار أو على مستوى تنمية وتطوير الكفايات النوعية ومهارات التفكير والمهارات الحياتية. لا ندري كيف عَدَّت التشخيصات التي بُنِيت في ضوئها خارطة الطريق كل هذه المكتسبات ضمن دائرة المبادرات الفاشلة؟ بل من حق المواطن المتتبع لمسار إصلاح المدرسة العمومية أن يتساءل عمن الذي أعطى الحق بإصدار هذا الحكم الجانح؟ على هذا الأساس، يبدو أن الأمر يتعلق بانحراف، ليس في منهجية مواصلة الإصلاح، وإنما في خلفياته وغاياته. ومن ثمة، يجب النظر إلى هذا النموذج الإصلاحي الجديد باعتباره نموذجاً يمثل في ذاته رؤية إصلاحية قائمة الذات، وليس مجرد إجراءات تنفيذية لتصحيح مسار الأداء. إنه نموذج يعيد الاتصال بمرحلة ما قبل التوافق الوطني الذي أنتج الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبالتحديد إعادة الاتصال بتوجيهات البنك الدولي ووصفته الإصلاحية التي تضمنتها مذكرته الجوابية المرفوعة للراحل الملك الحسن الثاني سنة 1995 والتي حملت توقيع رئيس هذه المؤسسة النقدية الدولية السيد جيمس د. وولفنسون، من حيث رؤيتها لقطاع التربية والتكوين ضمن القطاعات الاجتماعية وفعالية المدرسة وظيفياً في علاقتها بالتنمية الاقتصادية. بل وأكثر من ذلك، على مستوى النموذج البيداغوجي أعاد هذا النموذج التحويلي الجديد الاتصال بمرحلة السبعينات وثمانينات القرن الماضي والنماذج البيداغوجية التي سادت وقتها في دول الجنوب الخاضعة لتوجيهات صندوق النقد الدولي، وكان قد فُرض منها على المغرب إصلاح 1985 الذي تضمن نموذج التدريس الهادف بخلفياته السلوكية التوجيهية المقاولاتية، ونمطيته الديداكتيكية والبيداغوجية، وتطلعاته الضبطية والتحكمية والتنميطية للعلاقات البيداغوجية، باعتبارها أساساً داعماً للتربية الموجهة لبناء المواطنة المُوَجَّهَة. وخاصة أن البلاد حينها كانت تعرف توسعاً كبيراً للتيارات الاجتماعية والسياسية الراديكالية والإصلاحية المتغلغلة في بنية الطبقة الوسطى، التي مثل حينها المثقفون والمتعلمون عمودها الفقري، وبلغ أثرها وتأثيرها إلى الساحات الجامعية، بل وحتى إلى عمق الفصول الدراسية. وما نموذج التدريس المسمى بالتعليم الصريح إلا امتداداً لتلك النماذج التدريسية في نسختها المُحينة والتي بدورها تتخذ من السلوكية الجديدة إطارها النظري التوجيهي، ومن الممارسات التجريبية إطارها المنهجي الإجرائي. معتمدة في ذلك على نتائج الدراسات المعاصرة في العلوم المعرفية العصبية وخاصة على مستوى كيفية اشتغال الذاكرة ومراحل اشتغالها والوظائف التنفيذية وعمليات ومسارات التخزين ونشاط العصبونات وإمكانية التوجيه والتدريب والتشبيك التي تتيحها. بهذا، نكون قد حددنا طبيعة النموذج الإصلاحي الذي تراهن عليه السلطة التنفيذية في نسختها لما بعد انتخابات سنة 2021 لتصحيح مسار إصلاح منظومة التربية والتكوين من أجل إحداث التحول. وحددنا كذلك علاقة هذا النموذج بكل من النص المؤسس للمدرسة الجديدة والقانون الإطار 51.17. وحددنا كيف سعى هذا النموذج الإصلاحي إلى تجميد وتعطيل أحكام هذا القانون، بل وسعيه كذلك إلى التجميد غير المبرر لأشغال اللجنة الوزارية لقيادة إصلاح منظومة التربية والتكوين وما ترتب على ذلك من تعثر ملحوظ في إنتاج وإصدار النصوص القانونية الإجرائية التي نصت عليها أحكام القانون الإطار 51.17. وهي بمثابة مرجعيات أساسية موجهة لتدبير الإصلاح وتفعيل أحكام هذا القانون وخاصة منها المتعلقة بمهام الفاعلين الإداريين والتربويين، والإطار المرجعي للمناهج والبرامج، والهندسة اللغوية، والأطر المرجعية ودلائل الكفاءات والوظائف، والإطار المرجعي للجودة والتقييم الخارجي والداخلي المتعدد الأبعاد. بل ما يثير الدهشة أكثر هو التقدم في اتخاذ سلسلة إجراءات تتجاوز هذه الأحكام، بحيث يتم إسناد مهام وظيفية للفاعلين الإداريين والتربويين والمؤطرين دون إصدار مقررات تحدد المهام، وإحداث تغييرات في النموذج البيداغوجي دون الاحتكام إلى إطار مرجعي وقانون ضابط للهندسة اللغوية، والمقاربات البيداغوجية، أو حتى بتفعيل اللجنة الوطنية لملاءمة البرامج والمناهج. وإصدار النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية من دون إطار مرجعي للكفاءات والوظائف. وإسناد مهام تقييم جودة أداء المؤسسات التعليمية إلى جهات معينة من دون إطار مرجعي للجودة، وإسناد مهام التقييم الخارجي للتعلمات في إطار مشروع "مدارس الريادة" إلى جهة معينة من دون إطار مرجعي للتقييم. وهذا ما يفسر لنا كذلك اعتماد المجلس الأعلى للتربية والتكوين في التقييم الخارجي الذي أنجزته الهيئة الوطنية للتقييم للمرحلة التجريبية لمشروع "مدارس الريادة" (2024) نفس المعايير والمؤشرات التي اعتمدتها خارطة الطريق نفسها بدل أن يعتمد معايير ومؤشرات تُعنى أولاً بتحديد مدى القرب والبعد الحاصل بين هذه الخريطة وأحكام القانون الإطار لإبراز مدى التقدم الحاصل في تفعيل مقتضياته. لأن مهمة المجلس هي تقييم المنظومة في كليتها في ضوء أحكام القانون الإطار ومدى التزام الإجراءات التنفيذية بمقتضيات هذه الأحكام، وليس فقط تقييم مدى التزام هذه الإجراءات بما وضعته خارطة الطريق نفسها من أهداف ومعايير ومؤشرات. والأكثر إثارة في الموضوع هو أن التقرير الذي رفعته هذه الهيئة للمناقشة داخل أجهزة المجلس في الأيام الأخيرة من مرحلة السيد الحبيب المالكي، بعد تعيين السيدة رحمة بورقية على رأس هذه المؤسسة، ظل في حالة غياب عن ساحة النقاش العمومي، بل إن السلطة التنفيذية وخاصة لجنة قيادة مشروع "مدارس الريادة" لم تهتم حتى بخلاصاته واستنتاجاته وتوصياته وأخذها بعين الاعتبار للاستدراك والتعديل وإعادة توجيه مسار الإصلاح وإعادة ضبط مؤشر بوصلة هذا المشروع "النموذجي" الذي حظي بتعبئة إعلامية وتواصلية استثنائية. على هذا الأساس، ننتهي إلى أن مدرستنا العمومية تخضع لنموذج إصلاحي تحويلي جديد، يمتح مقوماته من خلفيات موجِّهة، ليست هي التي تضمنها النص المؤسس للمدرسة الجديدة، ولا التي أقرتها أحكام القانون الإطار. هو نموذج تعثر في تشخيصاته لراهن منظومة التربية والتكوين ببلادنا وإشكالاتها الأفقية الكبرى. وتبعاً لذلك تعثر في منطلقاته واختياراته، وارتهن إلى خلفيات سياسية مرتبطة بمدى الزمن الانتخابي على حساب الاختيارات الاستراتيجية الموجهة للإصلاح. وهي خلفيات، تبعاً لخصوصية الفاعل السياسي المهيمن على القرار التنفيذي، تدعمها اختيارات سياسية استراتيجية لها رأي آخر فيما جاءت به التجربة الدستورية الحالية من مستجدات، وخاصة على مستوى منظومة الحقوق الفردية والجماعية، رأي ينحاز إلى اختيارات اقتصادية واجتماعية وثقافية تؤطرها الرؤية الاستراتيجية للنظام الرأسمالي الليبرالي الجديد عالمياً، كما تدعمها المؤسسات النقدية الدولية ومنظمة التجارة العالمية والقيادات العالمية للشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات والمتحكمة في دواليب الاقتصاد العالمي، وعبره تتحكم في مختلف مجالات الحياة الفردية والجماعية ومستلزماتها من اقتصاد وثقافة واجتماع وقيم وتعليم وصحة وشغل وغذاء وماء وإعلام وأمن، وما إلى ذلك. وهي نفس الاختيارات التي يعتنقها الفاعل السياسي المحلي الذي يقود التجربة الحالية ويجتهد على طريقته الخاصة في ترسيخها بعدما هيمن على القرار التنفيذي والإجرائي. إن مدرستنا العمومية، إذن، أمام نموذج إصلاحي تحويلي جديد في رؤيته للمدرسة، وفي رؤيته للدولة الاجتماعية، وفي رؤيته للعدالة الاجتماعية والمجالية، وفي رؤيته للإنصاف والمساواة على أساس المواطنة، وفي رؤيته للمستقبل وقضاياه. ومن ثمة فهي أمام نموذج تحويلي ناعم للمدرسة، ومن خلالها للدولة والمجتمع، غايته ربط المدرسة وظيفياً بعلاقات الإنتاج وحاجات الاستثمار. وربطها اجتماعياً بطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع القائم. وربطها ثقافياً بالعولمة ونموذج الفردانية والأنانية القاتلة وبقيم الاستهلاك، وربطها سياسياً بنموذج المواطن المُنَمْذَج الذي لا يفكر خارج حدود رغباته الذاتية ومتعته الوهمية وإدمانه الاستهلاكي والتملكي الفاقد للمعنى وغير المحدود بالحدود. إنه زمن التحول السائل للمؤسسات، زمن التشظي واللايقين وهيمنة التفاهة كنظام تدبيري، قائم الذات، يقود الكائن البشري والحياة عامة نحو المجهول، في ظل نظام عالمي جديد قيد التشكل.