يذهب جل الباحثين والدارسين إلى أن الفرعونية حقبة تاريخية من تاريخ مصر، أو عصر من عصور تاريخ مصر القديم، عرف عند المؤرخين بالعصر الفرعوني، وقد أوصله بعضهم إلى ثلاثة ألاف سنة، حكمته خلال تلك الفترة ثلاثون أسرة. وهذا كله صحيح لا غبار عليه، والمتخصصون في ذلك من مؤرخين، وآثاريين (أنتربولوجيين)، واجتماعيين (سوسيولوجيين) يعرفون دقائق ذلك وتفاصيله. ولكن قلما من يلتفت إلى أن الفرعونية ظاهرة نفسية تتسم بالطغيان والاستبداد والعلو في الأرض، وإذلال الشعوب وقهرها والهيمنة عليها، والاستحواذ على خيراتها ومقدراتها، وهذا ما يحتاج فعلا إلى بحث عميق، أو بحوث عميقة تترصد الظاهرة وتحلل هذه النفسية الفرعونية المتغطرسة، فتضع بعد ذلك حلولا ناجعة للقضاء على هذه الظاهرة الخبيثة. وإذا شئتم أن تعرفوا جذرها اللغوي قبل الفرعوني فهي من مادة فرعن، فهذا الجذر اللغوي سليل مادة طغى، واستبد، وتكبر، وتجبر، وعلا. جاء في (لسان العرب) لابن منظور: "فرعن: الفرعنة: الكبر والتجبر...وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء وتكبر." ولفظ (تفرعن)، فقد أطلقه أهل اللغة على الرجل المتخلق بخلق الفراعنة، في جبروتهم وطغيانهم وكبريائهم، فقالوا: تفرعن الرجل، أي سار على منوال الفراعنة، واقتدى بهم. والعجيب أني وجدت عندنا في بادية شمال المغرب، منطقة جبالة بالذات، أنهم يطلقون على نوع من النبات (الفرعون)، حيث يطغى على نبات الفول أو سنابل الزرع، حتى يغطيها بالكامل، فيضعفها عن النمو، فتصير هزيلة وضعيفة أمام تغوله واستبداده، فيقول أهل المنطقة: "أكل الفرعون الفول، ولم يبق منها شيئا". وغالبا ما يحصل ذلك من جراء إهمال الفلاح حقله، أو تكاسله عن تعهده، باقتطاف النباتات الطفيلية ومنها "نبات الفرعون"، قبل استفحال أمره. وكذلك الشأن في ظاهرة الفرعونية في الحكم، فإنها تنشأ من غفلة الشعوب عن المراقبة، وضعف يقظتها عن المتابعة والمحاسبة، وتخليها عن مراجعة الحاكم فيما يقرر ويبدي ويعيد. وكأن له حظا من العصمة منشور، أو صكا من عالم الآخرة مذخور. وهذا هو السبب الحقيقي في هذه الظاهرة التي عبر عنها القرآن على لسان فرعون: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد." ففرعون هو القائد الملهم، والزعيم الرشيد، والمصلح السديد. وتنشأ الفرعونية القائمة على الاستبداد في الحكم، من غياب اختيار الحاكم بإرادة الشعب اختيارا حرا نزيها، تكون الشورى عماده المتين، والعدل قراره المكين. وهذا الأمر، وأعني به أمر الشورى، هو الذي ينبغي أن يسود الأمة والدولة والمجتمع، للقضاء على الظاهرة الفرعونية في الحكم، المستندة إلى الحكم الفردي الاستبدادي -أو طائفة من المستبدبن- الذي يتنكب سبيل الشعب، ويتنكر لإرادته واختياراته. من هنا ذهب الأحرار من علماء الأمة، وشرفائها الأبرار إلى أن الشورى واجبة في حق الحاكم في كل تصرفاته المتعلقة بتسيير الدولة، والنظر في شؤون مصالح الناس. وليس ذلك تفضلا منه وامتنانا على المواطنين، بل هو واجب بقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر."[آل عمران:159] يقول الإمام العلامة ابن خويز منداد: "واجب على الولاة المشاورة فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين، ويشاورون الجيش فيما يتعلق بالحرب، ويشاورون الناس فيما يتعلق بمصالحهم، ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها".(نقله العلامة الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير 4/148). من هنا كانت الشورى –كما قال ابن عطية الأندلسي- " من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام..." (المحرر الوجيز3/280). لأجل ذلك يرى العلماء أن الحاكم الذي لا يستشير، ولا يلتزم بما تسفر عنه الشورى، والمؤسسات الشورية الممثلة للأمة وإرادة الشعب، يجب عزله والتخلص من شره، إذ لا مكانة له شرعية داخل الدولة والمجتمع معا. والفرعونية سواء القديمة أو المعاصرة، لا تقوم على الشورى، ولا تلتفت إلى المؤسسات الشورية، بل تقوم على منطق التزوير والتدليس والتلبيس، ومنطق "ما أريكم إلا ما أرى"، وإرهاب الشعوب وتخويفها، وتكميم أفواهها، وسلب حرياتها، ومصادرة إرادتها. وهذا فعلا ما جنح إليه الانقلاب الفرعوني المصري، وساعده على ذلك مجموعة من المرتزقة، سواء كانوا سياسيين، أو إعلاميين، أو فنانين، أو علماء محسوبين على الأزهر أو غيره، فكل هؤلاء وغيرهم كانوا ولا يزالون في خدمة الانقلاب الفرعوني اللئيم. ولقد كان من مقاصد الشريعة الإسلامية تحرير العباد من الطغيان والاستبداد، والجور والفساد، حتى يكونوا عبادا لله وحده، الذي له عز وجل الخلق والأمر، لا الخلق وحده، امتثالا لقوله سبحانه وتعالى: "ألا له الخلق والأمر." وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه بوضوح وجلاء، متحريا في جوابه لرستم قائد الفرس، أجل مقصد شرعي يتوخاه الشارع من التشريع، فقال رضي الله عنه: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام." موازنة لطيفة بين الفرعونية القديمة والفرعونية الحديثة الفرعونية القديمة تقتل الذكور وتستحيي النساء، والفرعونية الجديدة تقتلهم جميعا ولا تبقي منهم أحدا، بل لا تكتفي بالقتل وإنما يصل بها الحقد، وتحملها الهمجية والوحشية إلى إحراق الجثث، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا عن قلب لا مس شيئا من الإنسانية، وتربى ولو على يسير من الرأفة والرحمة، بل لا يفعل ذلك إلا من كان قلبه أشد قسوة من الحجارة. الفرعونية القديمة تستعمل الجنود في القتل فقط، لأجل ذلك قال تعالى: "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين" بينما الفرعونية الجديدة في مصر تستعين بالبلطجية الخبيثة وبالقضاة الفاسدين وتطلق لهم العنان واليد الطولى في القتل والتنكيل والبطش بالمعارضين، ومحاكمتهم بالتهم الملفقة والمفبركة، أمام مرأى ومسمع العالم، وبحماية أمنية وعسكرية غير مسبوقة في التاريخ البشري، وبتأييد خليجي وقح ومخز، خال من كل القيم الإنسانية النبيلة، وبصمت دولي رسمي مريب لا تأخذه شفقة ولا رحمة أمام الإبادة الجماعية التي نطقت بها مؤخرا محاكم الانقلابيين، وإن سمعنا من بعضهم جعجعة الاستنكار، وشنشنة الإدانة، فإنا لا نرى طحينا بعدها. وهي محاكم تفتقد إلى الشرعية والنزاهة والمصداقية، مادامت تابعة وذيلا للانقلاب العسكري، حيث تأتمر بأوامره، وتسبح بحمده بكرة وأصيلا. الفرعونية القديمة أرادت بناء صرح عال ضارب بطوله في السماء، لعلها تطلع إلى إله موسى، أو تأتي بالأخبار من هناك، بينما الفرعونية الجديدة تحرق وتهدم وتفجر المساجد والكنائس، التي يذكر فيها اسم الله، ويجأر فيها المؤمنون بالدعاء، راكعين ساجدين خاشعين لله، والأدهى والأمر أن يحاصروا في المساجد وتصوب نحوهم البنادق والرشاشات والقنابل المسيلة للدموع، وتقصف مآذن الجوامع كما صنع بمأذنة مسجد الفتح برمسيس. الفرعونية القديمة استعانت بالعلماء السحرة، ووعدتهم بأن يكونوا من المقربين، بعدما طلبوا الأجر، لكن سرعان ما سطع نور الحق بين أيديهم، ولاحت قوة الوحي، وأشرقت دلائل النبوة بين جوانبهم، فانساقوا للحق مذعنين، غير مكترثين ببطش فرعون، ولا ملتفتين إلى تهديداته، فقمن بهم أن ارتقوا بعد حين في سلم الشهداء الأبرار، والعلماء الأحرار، فنزل في حقهم وحي يتلى إلى أن تقوم الساعة، ليحذو حذوهم، ويسلك سبيلهم، ويقتدي بهم شرفاء هذه الأمة من العلماء العاملين الربانيين. بينما الفرعونية الجديدة جاءت ببعض العلماء المرتزقة ليباركوا لها الانقلاب، ويتفننوا في "التأصيل" له، ويفتوا لها بقتل الأبرياء وشرفاء الحرية والكرامة، المتمسكين بالشرعية والديمقراطية، من أمثال شيخ الأزهر أحمد الطيب، ومفتي مصر علي جمعة، اللذان أبانا عن جهل مطبق بمعرفة الواقع وقواعد السياسة، وتنكبا عن سبيل العدل والإنصاف، وتلاعبا بالنصوص وليا أعناقها، ووظفاها لخدمة الطغمة الانقلابية المتفرعنة، وأبانا أيضا عن حقد دفين لا يليق بمسلم فضلا عن عالم، تجاه جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص. إن الفراعنة الجدد سينتهي أمرهم، وتستأصل شأفتهم، وتندحر فلولهم، ويخيب سعيهم، ويردون على أعقابهم خاسرين خاسئين، لأنهم "استكبروا وكانوا قوما مجرمين" ولأنهم "طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد"، وسوف يأخذهم الله -لا ريب في ذلك البتة- أخذ عزيز مقتدر. هذه سنة الله تعالى في الظالمين المستبدين المتكبرين المتجبرين، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تحويلا. ولكن على الشعوب أن تقاوم الظاهرة الفرعونية، وتتصدى للفراعنة، بعزيمة وإرادة قوية، وتنشد الحرية والنزاهة والإنصاف والعدل، وتتمسك بالكرامة والعزة، وتعتصم بحبل الله تعالى الذي لا ينفصم أبدا، ومن كان الله معه فممن يخاف، ومن كان الله عليه فمن يرجو؟ والعاقبة للمتقين.