رئاسة المؤتمر تصادم ولد الرشيد وبركة    المدير العام للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات : المغرب مركز أعمال من الطراز العالمي    الصحراء تغري الشركات الفرنسية.. العلوي: قصة مشتركة تجمع الرباط وباريس    على هامش المعرض الدولي للفلاحة.. إطلاق هاكاثون الذكاء الاصطناعي للفلاحة القادرة على الصمود أمام التغير المناخي    فضّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية: ماذا تقول قوانين البلاد؟    رئيس بركان يشيد بسلوك الجمهور المغربي    شبكة جديدة طاحت فالشمال كتبيراطي شبكات الاتصالات الوطنية وها المحجوزات    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    أكبر صيد أمني منذ عشر سنوات.. 25 طنا من الحشيش المغربي تدخل أوروبا    "طوطو" يشرب الخمر أمام الجمهور في سهرة غنائية    فيديو.. زياش يواصل تألقه ويقود غلطة سراي للفوز في الدوري التركي    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    رئيس اتحاد العاصمة صدم الكابرانات: المغاربة استقبلونا مزيان وكنشكروهم وغانلعبو الماتش مع بركان    البطولة الوطنية الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال27).. الشباب السالمي يتعادل مع ضيفه مولودية وجدة 0-0    ابتداء من الليلة.. أمطار ورياح قوية بهذه المناطق من المملكة    السعودية تحذر من حملات الحج الوهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي    عاجل... توقف أشغال مؤتمر حزب الاستقلال بسبب خلاف حول رئيس المؤتمر    تفريغ 84 طنا من منتجات الصيد البحري بميناء مرتيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2024    في ظل الوضع المائي المقلق ببلادنا.. حملة تحسيسية واسعة للتوعية بضرورة الحفاظ على الماء    المغرب يعتزم بناء مزرعة رياح بقدرة 400 ميغاوات بجهة الشمال    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    الملك محمد السادس يعود لأرض الوطن بعد زيارة خاصة لفرنسا    أنشيلوتي يدعم استمرار تشافي مع برشلونة    قميص بركان يهزم الجزائر في الإستئناف    عطلة مدرسية.. الشركة الوطنية للطرق السيارة تحذر السائقين    بيدرو روشا رئيساً للاتحاد الإسباني لكرة القدم    مندوبية السجون تغلق "سات فيلاج" بطنجة    مكتب الوداد يعلن عن تعيينات جديدة    مقتل 51 شخصا في قطاع غزة خلال 24 ساعة    مصرع 10 أشخاص في حريق بفندق برازيلي    الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط    للجمعة 29.. آلاف المغاربة يجددون المطالبة بوقف الحرب على غزة    هل ستعتمدها مديرية الناظور؟.. مذكرة تمنع تناول "المسكة" في المدارس    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    طلبة الطب يعلقون كل الخطوات الاحتجاجية تفاعلا مع دعوات الحوار    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها جلالة الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    الصين تؤكد التزامها لصالح علاقات مستقرة ومستدامة مع الولايات المتحدة    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    بوطازوت تفتتح فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان الشرق للضحك    سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    تطوان .. احتفالية خاصة تخليدا لشهر التراث 2024    "شيخ الخمارين ..الروبيو ، نديم شكري" كتاب جديد لأسامة العوامي التيوى        العرائش : انطلاق أشغال مشروع تهيئة الغابة الحضرية "ليبيكا"    احتجاجا على حرب غزة.. استقالة مسؤولة بالخارجية الأمريكية    الشرقاوي يسلط الضوءَ على جوانب الاختلاف والتفرد في جلسات الحصيلة المرحلية    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    السعودية قد تمثل للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأنيث الأنثى
نشر في هسبريس يوم 16 - 02 - 2010


(وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)
من سورة التكوير.
توطئة لا بد منها:
نؤكد على أن الإبداع ليس خيمياء سرية بل تفاعل منضبط بناء على معطيات حاسمة ومنهج واضح قابل للتطبيق. وتأتي الملكة لتضعنا أمام مرتبة من ذلك التفاعل ليس إلا. والتأويل يضعنا في صلب المسألة الإبداعية لأنه يوقفنا على أسرار تشاكل الحقائق العقلية مع الحقائق الكونية. لقد قطع القول الفلسفي الإسلامي مشوارا طويلا في محاولة تأكيد الصلة والتوافق بين الحكمة والشريعة دون أن يوقفنا على سرّ ذلك التوافق بما يشفي الغليل. ومثله ما جرى في نطاق الكلام عن توافق العقل والنقل تارة وتوافق الدين والعلم تارة أخرى. ولكنها في كل الأحوال لم تكن تلك سوى شعارات مجملة لم تحسم الأمر حسما تطمئن إليه العقول. كثيرة هي المشاريع الفكرية التي يمارس أصحابها بناءا نظريا متينا لكنهم غير واعين بحقيقة وحدة المنهج التي تلكّأت فيها العقول حتى أهملتها إهمالا لشدة ما واجهوه من مفارقاتها عند التطبيق ؛ فما كان لهم سوى إعلان تعدد المناهج. ونحن هنا نعتبر وحدة المنهج وتعدد التطبيقات والسياقات والحيثيات والوجوه. لأننا بالاستقراء نقف على خطوات التأويل في كل أشكال التحليل والإبداع المعرفي. يستوي في هذا ما يجري في مختبر الكيمياء وما يجري في مختبر الألسنيات. فالقائلون بتعدد المناهج يقفون على أعراض القضايا بينما القول بوحدة المنهج يقفون على جوهر المسألة. يختبئ صناع الفكر الإسلامي المعاصرين خلف شعار الإسلام هو الحل وكذا القرآن دستور الأمة. ولشدة الحصر في الإبداع أكسبوا هذا الشعار معاني لم تعد مستساغة. ومهما بلغت عصبية هؤلاء وولعهم بشعاراتهم، فإننا لا نقف على شكل من التناسب بينها وبين حكمة هذا الدين وعمق تعاليمه التي لم تجد عقلا متأملا ومستوعبا لأسرارها. وهناك من يسعى لنحت حلول مغشوشة للمجتمعات العربية والإسلامية تحت عنوان إسلامي ومحلي وتداولي بينما هو لا يفعل أكثر من إخضاع عقل الأمة لداعي أهوائه وبنيات أفكاره تحت طائلة دفق من الضوابط المغالطة فيما الحل أسهل وأيسر ؛ إذ آية يسره وهو مصداق قوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" أن تمكن المتلقي من منهج يمكنه من "ناصية" الإبداع وليس أن نقدم منهجا أشبه ما يكون بالجساسة التي قيل عنها أنه لا يعرف دبرها من قبلها ؛ فلا تستطيع أن تدرك إن كانت مقبلة أم مدبرة. وما عرضناه سابقا ونقدم له هنا مستويات في التطبيق هو بقصد تمكين أي قاري مخلص للمعرفة وليس للأصنام الفكرية المتبلدة ، من تطبيق منهج في القرآن يناسب القرآن ويقرّه القرآن وإن أعرض عنه أهل قرآن زماننا؛ ليس لنا فيه سوى محو أهوائنا للقبض على الآيات المبدعة ضمن آلية ناجعة لتثوير القرآن وجعله قادرا على استيعاب تحولات العصر وقضاياه. إن سامريي هذه الأمة هم من الكثرة بحيث تراهم يحوّلون الإبداع إلى نار مقدسة ما أن يقترب منها شخص حتى يمتلئ قلب زيوس قيحا وتصبح الكراهية للنقد والرأي النزعة الحاكمة المتحكمة. ثم سرعان ما يبعث زيوس بباندورا وصندوق الشرور ، وأحيانا من دون حتى التفكير في مبعوث يختفي خلف الغواية بل يقتصر الأمر إلى بعث بهاليل بأقنعة سوداء و مخالب صغيرة تحاول جهدها أن تخدش وجوه الحقائق عبثا. إننا أمة مريضة جدا. وعلاجنا هو بصدمة الفكر وفي الفكر وقلب الطاولة على أصنام المشاريع التي تتحول بفعل قسوة القلوب وتبلد العقول إلى سيف ديموقليس فوق الرؤوس، كما يجري العلاج بمواصلة وضع مشاريع الفكر العربي والاسلامي في محك النقد وعدم الانخداع بخصوصيات مجالات الاشتغال ومظاهر الاستعراض الخادعة لمحفوظات المقررات الأكاديمية التي تذكرنا بجمود المدرسانيين ، التي يمارسها بعض أرباب المشاريع التي تهدف خدمة شخوصهم البلهاء لا خدمة المعنوية السمحاء؛ لا سيما حينما يتعلق الأمر بمفكرين لم يفكروا إلا بعد أن أصبحوا شيوخا في خريف العطاء وحافة العمر، لم يضحوا بشبابهم الرعديد والجبان في سبيل كلمة واحدة من أجل الأمة. فالذي بخل بشبابه في جهاد المعرفة لا يمكن أن يتكرم في ذلك بشيخوخته وتخريفها ودائما كنا أمام مظاهر شيخوخة مبكرة . ومع ذلك ورغم مكر شرذمة من الأشقياء لن نخضع لاستفزازاتهم البلهاء وسنستمر في رسالة التنوير والتفهيم والتوضيح والمطارحة . إننا سنواصل التحدي لعرض ما كان معروضا وشاءت أدوات الدجل أن تحول دونه وبلوغ العموم ليبقوا لنا من كل ذلك سوى مظاهر بخلهم متجسدة في اختزالات وتنميطات بالية . فماذا يضير تلك النفوس العليلة أن يدلي المرء برأيه في صحراء قاحلة من التسامح وليس فيها سوى أفاعي ممتلئة سموما وعقول صممت على الكراهية وليس على التأمل والتفكير. نحن نطارح ولا نصادر على الآخر أن يطارحوا إلى الأقصى؛ فلا معنى لهذه المحاولات الهوجاء التي تسعى للاستفزاز بإقحام موضوعات طائفية غريبة عن موضوعنا أو "التشعبط" في الماتن وترك المتن أو إقحام اعتبارات مختلفة لا توجد سوى في رؤوس تحسب كل صحية عليها وأمرها مثل السامري: لا مساس!
وما نسعى إليه في هذه الجولة هو تقديم نموذج تطبيقي آخر عن فكرة التأويل ؛ موضوعه هذه المرة هو المرأة وقضيتها من خلال محاولة تأويلية ليس بالضرورة أن تكون هي المستوى النهائي بل هي أمكانية من إمكانيات عديدة لتأويل الكتاب وفق ضابطة حددنا طريقتها في مقال سابق.
تصحيح المنظور الديني إلى المرأة : رؤية تأويلية
يحيلنا المورد الأول للآية أعلاه ، على أن ثمة ظاهرة رهيبة شاعت في المجتمع العربي خلال العصر الجاهلي ؛ الظاهرة نفسها لا تزال شائعة بأشكال مختلفة وتعابير شتى. في البدء، كان ثمة اجتماع قبلي يتشكل من قوم جفاة ، جعل منهم المجال الوحشي أهل فظاظة، قساة القلوب، تستبد بأذهانهم نزعة ذكورية مفرطة حد الشطط. تلك هي آفة الآفات في الاجتماع العربي ، ولم يسجل التاريخ عن العرب من قوسة أنكر من ذلك. نزعة لا تسكن ذهن الفارس المغوار ، الصنديد ، حامي العشيرة... فحسب، بل تتعداها إلى أذهان النساء أنفسهن. نزعة ، ترى في المرأة مصدرا للهزيمة و مستودعا للعار وحمّالة حطب الشر تنويعة عربية على باندورا حاملة صندوق الشرور . وبما أن المبدء قاض يوجوب إزاحة العار من رحاب الاجتماع العربي ، إذن فعلى المرأة أن تزول و تغيب نهائيا لصالح هذه الطهرانية الذكورية الخادعة . تعدم المرأة و ذنبها الوحيد ، أنها ابتليت بالوجود في مجال سوسيو ثقافي يعاني من تخمة القيم و المعاييروالأحاسيس الذكورية إلى حد الشطط: الوأد تحت التراب ! وهو العار انفسه الذي صمم أسلوبا لدفع العار!
1
المرأة مصدر للعار؛ تلك قصة قديمة ليس العرب بدعا في ذلك . لم تصمد أمام هذا الاستئصال التاريخي حتى أقدم الكتب المقدسة لدى أتباعها. لقد عملت الممالك اليهودية على ترويض الكتاب المقدس كي يستجيب لهذا النفي الأبدي للأنثى. كما أن التقاليد الرومانية أقحمت تصوراتها في العهد الجديد . وبما أن القرآن ظل عصيا على هذا النوع من التطويع ، فقد تعرض إلى اجتياح شروح ذكورية بالغة في جنوحها اللامعقول. وهو ما أدى إلى تكريس ظاهرة هروب المسافات بين الجنسين.
2
أكل آدم من الشجرة الممنوعة. وعلى الرغم من أنه زود بعقل جبار، إلا أن المرأة بغوايتها حفزته إلى ارتكاب المحذور؛ هكذا تروي الحكاية المقدسة . أن يأكل من شجرة ظن بوحي من خصيمه إبليس أنها شجرة الخلد. هذه القراءة السيئة لمشهد يفيض دلالة ومعنى و يختزل قصة الخلق في ميلودراما غواية الأنثى، في أقوى تعبير ل " باندورا " أول كائن أنثى مارست الغواية استدراجا لايبيبميتيوس أخا بروميتيوس؛ لتكون أول كائن أنثى حل بعالمنا لغرض تنفيذ مؤامرة انتقامية ، فجرها امتلاك البشر للنارالمقدسة . إنها أي الأنثى اختراع زيوسي متأخر ؛ كائن مزيف ومخاتل وماكر ... ربما ما كان له أن يوجد لولا حادثة سرقة النار المقدسة ولولا لعنة زيوس على الإنسان. إنها كائن جزافي بامتياز! جاءت الأنثى ، إذن ، إلى العالم بأجندة تدميرية ، حاملة في جيدها كافة أنواع الشرور. لكم كان العالم سعيدا يوم كان عالما ذكوريا خالصا ، قبل أن تحل بفنائه لعنة زيوس الكبرى. لقد كانت المرأة اختراعا ذكوريا سبب تفجر الصراع بينهم، إنها مفارقة أن يكون هذا الشر اختراعا ذكوريا بامتياز .
3
حينما تعدم الأنثى وتغيب من دنيا العربي ، فهذا معناه أن على قيم الأنوثة أن تغادر المجال والذهن العربيين . لم يكن العربي حينئذ يدرك بأن الأنثى ليست الآخر النوعي الذي يتقاسم معه الوجود على الأرض. بل هي ساكنة أعماقه . هكذا فإنه حينما أصبح المجال ذكوريا خالصا اختل الاجتماع والنفس البشريين. إن وجود المرأة إلى جانب الرجل لا يعني أن الزواج قد تحقق في الاجتماع البشري ، بل إن عمق المسافات بين الجنسين جعل أحدها يجتاح مساحة الآخر.
يستبد العصاب بسيكولوجيا العربي حيثما تنامى الشعور بالرهاب من العار المتوقع ، كي تكون المرأة وبالتالي قيم الأنثى، خاضعة لآليتي النبذ اللاشعوري. فالعربي قبل أن يقدم على وأد الأنثى في التراب يقوم بقتلها و إقبارها في أعماقه . ظاهرة وأد البنات ، هي المثال الساطع لما يجري في ذهن العربي بصورة دائمية . تحيلنا عملية الوأد في التراب إلى مدلول آخر هو الكفر بالمرأة . فالفلاح يكفر البذرة في التراب. أي يواريها تحت التراب . فالوأد رديف الكفر لغة. أي الحجب والستر. لكأن العربي يقوم بعملية كفر وحجب لقيم الأنثى في ذهنه ولغته وثقافته خوفا من أن يستباح. إذن الوأد رديف للكفر. و الكفر بالمرأة مساوق لظلمها . إن الكافرين لهم الظالمون . لم يكفر العرب بربهم الأعلى ويشركوا به فحسب ، بل لقد كفروا بالمرأة أيضا، وكانوا أشد كفر بها. فكانت الممهمة غير ناجزة في سبيل إثبات الله و إثبات المرأة في الوعي وفي الاجتماع العربيين .
4
ومع ذلك يظل للأنثى حضور مكثف في اللاوعي الباطني للرجل . إنها الجانب اللاواعي من شخصيته. أما فعل حجبها ووأدها في اللاوعي فيتم بصورة غير سوية. إن وأد الإنسان العربي في جاهليته الأولى للمرأة في التراب إن هو إلا التجسيد الوحشي والبدائي لشيء مارسته الثقافات والحضارات ولا تزال تمارسه في حق المرأة بصورة رمزية لا يعاقب عليها القانون ولا تدرك مذابحها بصيرة البشر. فالمرأة لا زالت حتى اليوم توؤد رمزيا تحت الركام حية وربما هي اليوم مطلوب منها أن تحافظ على ابتسامتها وهي توارى تحت تراب حضارة لا زالت وفية لذكورتها. إنها عملية معقدة للغاية. فالراموز العربي يشبّه المرأة بالشيطان لجنبة غوايتها. ولهذا التمثييل دلالة تأويليةغاية في الأهمية. فهو إذ يعمل على طردها ، يداعبها سرا في أقوى لحظات انكساره وفقره الذكوري، وعلى مسافة من رقابة محيطه الذكوري المتسلط؛ معترفا بالحاجة إليها، ومعبرا بسلوكه المزدوج بأن شططه الذكوري المعلن هو محض عبث سرعان ما تفضحه اعترافات الإستفراد بالأنثى. وهذا مصداق قوله تعالى ، لمقام التشبيه المذكور: ًفإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤونً. يبدو من السلوك العربي الطارد لكل ما هو أنثوي ، أن ثمة قناعة مغشوشة بأن العربي يمكنه إقامة حياة تامة بمعزل عن الأنثى. إنها مجرد متاع ومتنفس لجنون الذكورة . وهذا يمكن تعويضه من داخل عالم الذكورة. يتساءل القرآن الكريم: ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ). أي بأي ذنب تقبر الأنثى وثقافتها في مقبرة الذكورة العربية؟! وبأي ذنب توؤد المرأة في مقبرة الحياة الاجتماعية وتوارى تحت أتربة الأدوار الد نيا والعطالة. بل حتى القرآن عالج تلك المفارقة بقوله: (ألكم الذكر وله الأنثى). حينما سمى العرب في بداية الدعوة الملائكة تسمية الأنثى إمعانا في القدح والتحقير. بلا ، إن ذنب هذه المرأة هو في كون الرجل العربي رسم لها صورة خاطئة ومرضية في ذهنه ثم حاكمها بموجبها . فالسؤال القرآني أعلاه لم يجب عنه العربي. ولذا بات سؤالا في محل تعجب وليس سؤالا يراد منه جواب، لأن العربي لم يكن يملك جوابا مقنعا غير واقع توحشه وبطشه وشطط في هذا الأمر . بل لشد ما عاند وأخذته العزة بالإثم. إن عملية الوأد اللاشعوري لصورة الأنثى في الذهنية العربية ولد في النفس العربية حالة الغم التي تفيد معنى العصاب. يقول القرآن : ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم ). ولما نستخبر عن سبب هذا الغم، يجيبنا القرآن نفسه: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم". أي أن الغم هو نتيجة قتل النفس . وهو الغم نفسه الذي يترتب على قتل الأنثى ووأدها في الأرض أو إقبارها في اللاشعور( وهو القتل المعنوي). وهي عملية وأد تتم بصورة لاشعورية وفي سرية كاملة: ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ). وهنا الأمر يتعلق بكتمان قتل الأنثى في أنفسهم ، وهو فعل بالنتيجة غير سوي ؛ (إن قتلهم كان خطا كبيرا) . إننا نتحدث عن الخطيئة الكبرى خطيئة آدم ولكننا ننسى أن الأمر في المجال العربي يتعلق بخطيئة كبرى تتعلق بموقف العربي من المرأة. وهي خطيئة تكاد تضارع خطيئة آدم التي وصفها القرآن بالعصيان فيما وصف موقف العربي من المرأة بالخطئ الكبير. إن السؤال القرآني السالف الذكر ، هو الخطوة الأولى في مسلسل إخراج ما يكتمه العربي . اجتماعيا، كان الوأد أمرا جاري به العمل ، غير مطروح للنقاش. نفسيا، ثمة غم يخفيه العربي . فالنجاة من الغم باستخراج ما تكتم النفس من جريمة الوأد اللاشعوري للأنثى أي الجواب عن سؤال: ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت). سؤال لا يزال مطروحا على العقل العربي. و هو أرضية الاعتراف الكبرى التي ترهص لإقلاع وعي حقيقي بالمرأة. ونهضة شاملة للأمة.
إن وأد المرأة وكبت قيم الأنثى في اللاوعي الفردي والجمعي العربي هو نتيجة استضعاف المرأة بوصفها غير قادرة أو مؤهلة لامتشاق السيوف وامتطاء المتون و الذود عن العشيرة. إنها بالأحرى من جنس ما يمكن غنمه في الغزو. من هنا فإن استضعافهم للأنثى ساعد على قتلها في ظل أنماط اجتماعية تسوغ هذا الطرد الهوسي للأنثى؛(إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلون). الوأد اللاشعوري للأنثى يؤدي إلى اختلال شخصية الفرد وهشاشة الإجتماع. فإذا كانت الأنثى أختا للذكر وقيمة متاخمة للذكورة ؛ (إنما الؤمنين إخوة ) و في الخبر : "النساء شقائق الرجال "، فإن قتلها يثمر ثغرة في جدار الذكورة المستعلية و الممانعة. الأمرالذي أنتج اللاتوازن الذي أدى بدوره الى خسارة الشخصية ؛ (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). خسارة شخصية وخسارة اجتماع وخسارة وجود ... فالخسارة نتيجة مؤكدة في كل أشكال القتل. و مصداق في وأد الأنثى قوي :( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم). والمقصود مصداقا كما لا يخفى هو قتل الأنثى . يتضح تماما أن وأد الأنثى و إقبارها لاشعوريا هو فعل سفهي يقوم على جهل فاحش. فالرجل العربي ذو النزعة الذكورية الطاردة للأنثى هو شاء أم أبى رجل سفيه ، إذن . والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف في المال ويسيئ تدبيره. بل إن القرآن يعلمنا بأن السفيه هو الضعيف: ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا") . والسفيه أيضا هو الشيطان :(وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا). ولذلك كان المبذرون إخوان الشياطين لأنهم ضعفاء لا يقدرون على تدبيرالمال، فهم مسرفون. وكأن العربي السفيه بطرده المرأة كان يتمثل حالة من الإسراف في هذا الاستغراق الذكوري. وبذلك يكون العربي قديما و حديثا قد ناقض ملة إبراهيم بصنيعه هذا: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه ) . إن النزعة التهوينية للأنثى في ثقافة العربي تعود إلي مهانة الدور الذي أناطه بها و إلى مهانة الصورة التي يحملها في ذهنه عنها . إذن هي استهانة راجعة إلى استحضار لاوعي لمظاهر العار والهزيمة، تلك التي تمثلها صورة الأنثى في المخيال العربي .
5
لقد اعتبر العربي نفسه حاميا لشرف العشيرة. وجاء الإسلام ليكسر القاعدة ويجعل الشرف مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة سواء بسواء ، بعد أن تبين أن الرجل هو من يخرم شرف المرأة. فالرجل الذي يحمي عشيرته لا يرى غضاضة في أن يخرق القاعدة ويعبث بشرف العشيرة الأخرى . لقد جاء الإسلام كي يجعل الشرف قضية إنسانية كونية . إذن شرف المرأة شأن تتولى المرأة حمايته ، ولكن أي امرأة في أي اجتماع ؟ المرأة التي تملك إمكانية حماية نفسها من سطوة الذكور، هي امرأة حرة داخل دولة القانون. الرجل كان دائما يحمي ذكورته وليس شرف المرأة. لا وجود إذن لذنب حقيقي وراء فعل وأد البنات. فالذنب الوحيد الذي يبرر فعل القتل هو الذنب الواقعي وليس المتوقع :(ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ) . أما ذنب المرأة فليس على المرأة بل هو من اختراع التصور الذكوري للأنثى وقضاياها في المجتمع العربي الجاهلي . بل إنها تمجد الفحولة والفروسية والذكورة . لم يكن من عادة العرب أن ينسبوا إلى الأنثى. وإذا حدث مثل ذلك فهو من باب المعيرة . ولكننا بعد الإسلام سمعنا عن الفاطميين وأبناء فاطمة. العربي فارس ومقاتل صنديد ؛ لكنه لا يقبل بالهزيمة على الإطلاق . هذا مبلغ علمه . أما الواقع فإن العرب قبل بالهزيمة مذ أدمن على وأد بناته. حقا لقد هزمته المرأة. لقد كانت الظروف الاجتماعية للمحارب تفرض عليه النظرة الدونية للمرأة بوصفها محمية لاحامية. فدورها الثانوي لا يتجاوز التنفيس عن رهق الذكورة ومعاناتها . لقد اعتادت المرأة العربية أن ترى نفسها متاعا تحت تصرف الرجل . وأن رغبتها إليه هي بدافع الحاجة الوجوبية بينما حاجته إليها هي تنفيسية. في بعض عادات بلاد الهند تحرق الأرملة نفسها فورا بعد وفاة زوجها. إنها تدور معه وجودا وعدما . والأمر سيان في المجتمع العربي الجاهلي. تلحق المرأة بباقي الموروث والأمتعة إما أن يملكها الوارث أو يبيعها ، فله الخيار. أما الآن فالرجل حتى وهو يدافع عن المسألة النسائية يفعل ذلك ليحررها من كثير من عوائق الوصول إلى شرفها. إن الذكورة كانت تحمي الأنوثة من غزو الذكورة مثلما يحدث في الدفاع عن أي متاع والمطلوب اليوم أن تمكن المرأة من الدفاع عن نفسها ضد كل مستويات الذكورة وأهوائها وليس فقط على نمط خاص من الذكورة، فافهم .
إن طبيعة الحرب، ونمط المعارك فرضت على العربي قدرا من استضعاف المرأة. وقد أصبحت محنته اليوم مضاعفة. يتعرض العربي إلى صفعة من الجندية الإسرائيلية الأنثى فتكون معاناته أكبر. وحينما كان صدام حسين يزهو متفاحلا، على أنه سيسبي المقاتلات الأمريكيات ، حصل العكس تماما ؛ حتى غدا الأمن القومي والشرف العربي بلا شوارب ( استعارة الوصف من مظفر النواب ) . لقد كانت شوارب العربي تعفر في التراب من قبل هؤلاء المقاتلات . لقد اختلطت الفروسية بالذكورة عند العربي حتى في زمن الحرب الإلكترونية. هكذا باتت المرأة فارسا مهاب الجناب . لقد لقنت التكنولوجيا درسا للعربي حتى لا يقرن أبدا بين الفحولة والحرب . فيرسي بهذا نظاما ظالما للمرأة بموجبه يستبيح كل حقوقها. لم يطور العربي وعيه بالتفوق والقوة؛ فالقوة ذكورة والذكورة قوة، والزواج بينهما أبدي!
يتعلم العربي كبت الأنثى منذ نعومة أظفاره. وحينما تحكي له أمه بعض القصص، فهي تحدثه عن مغامرات الفارس المغوار والصنديد الفذ . هكذا يتشكل مخيال الطفل العربي. إن الأم هنا تشكل خزانا حقيقيا لقيم الذكورة . ولتعميق هذه القيم ، كان العربي يتربى عادة في بيوت بدوية كي يتعلم اللسان العربي والشعر والفروسية وكل قيم الذكورة التي تتمتع برسوخ استثنائي في بيئة الأعرابي. والأعراب بهذا الخصوص وقد قلنا بأن الكفر بالله ساوق الكفر بالأنثى هم( أشد كفرا ونفاقا ). فهم أشد فتكا وكبتا للأنثى. ولعله من المديح وبالغ الفخار، أن يقول العربي لابنته : إنك فارس وإنك لرجل! لكنه من الذم والمعيب أن يقول: رأيت زيدا يبكي بكاء العذراء في خدرها. كل الأقاصيص التي كانت تروج في المجتمع العربي حاكية عن البطولة والمغامرة وقيم الذكورة. وقد كان حقا، ثورة في المجتمع العربي أن يأتي القرآن بأقاصيص أبطالها نساء. مثل سورة النساء ، أو سورة مريم ، أو الممتحنة ...أجل، فحيثما نما حب الله في النفوس، نما حب المرأة معه ! ألم يقل صاحب الدعوة : "حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة "؟!.
حينما يتحدث التحليل النفسي عن تعايش الذكورة والأنوثة في الشخص الواحد لم يكن يفعل أكثر من اكتشاف حقيقة معاشة. كل ما هنالك أن البعدين لا يتعايشان على قدم سواء. فقد قدر لأحدهما أن يسود فتسود قيمه أيضا. الجانب الأنثوي من الرجل Anima يقع على هامش الوعي، كما يسكن الجانب الذكوري من المرأة Animus منطقة اللاوعي . الأنوثة هي الجانب اللاواعي من الرجل، فيما الذكورة هي الجانب اللاواعي من المرأة. إنها لعبة حضور وغياب في منتهى المخاتلة والتعقيد ، تفرضها الوظائف العملانية والاجتماعية والخبرات الثقافية الجزافية.على أن الوعي ليس هو الشخصية كلها . أحيانا لا يمثلها على الإطلاق. إن وعينا، بالأحرى، تصيغه ثقافتنا وموروثنا وبيئتنا . فلو عاش الرجل العربي بيئة مختلفة لربما انفتح سلوكه ووعيه أكثر في اتجاه التسامح مع أحاسيس الأنثى، باعتبار أن حقها في الوجود يفرض حقها في التأنيث. هذا التأنيث الذي ترفضه الذكورة الجامحة بكثير من الإسراف. ما يجعل الاجتماع العربي واقعا في مواجهة أبدية ضد نظام الأشياء؛ ذاك النظام القائم على أساس تقاسم وظيفة التذكير والتأنيث لعالم يتوقف نهوضه على سنة التزاوج لا على سنة الطلاق الذي يهتز له عرش الرحمن وهو أصدق كناية عن أنه ينتج زلزالا انطولوجيا كبيرا. إذن نحن أمام معايير نسبية . ففي مملكة الأسود ، الأسد نائم واللبوءة تصطاد . الصيد في الأعم الأغلب ليس فعلا ذكوريا في مملكة الأسود . يخشى الرجل العربي أن يذرف دموعه ليس لأنه يعدم إمكانية للانفعال العاطفي ولكن مخافة أن تخدش ذكورته. إنها مفارقة كائن يسعى لاجتراح معجزة تذكير عالم متجذر في نظامه المزدوج. فالديمقراطية والحق في التعددية يبدآن من هذا الشعور والاستيعاب للبنية المزدوجة لأنطلوجيا الكائن. إذا كان القرآن الكريم قد نزل بهذه الحقيقة ازدواجية البناء الكوني فذلك حتى يبعد عن الإنسانية شقاوة الاستبداد الواحدي بالنوع:ً(طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). ومصداق هذا التذكير في آية كريمة :ً(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)ً.فكيف إذن، يستقيم التساكن بين المتنافرين والمتدابرين؟! أين هي الذكورة الجامحة من سنة الله في خلقه: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) ؟!
9
ليست المرأة أداة تنفيس بيولوجي للرجل وكفى. و ليست كائنا معدا للإنجاب فحسب. فبعد أن أتاحت تقنية الاستنساخ قدرة إنجابية للمرأة باستقلال عن الرجل ، أنى له أن يستمر في هذا الاختزال لأنطلوجيا الأنثى في انشحانات بيولوجية وغريزية آنية. فما دام أن الاستنساخ يتوقف على خلية جسدية وبويضة؛ تكون المرأة خلافا للرجل أقدر على الإنجاب باستقلال. وسوف يكون الرجل أحوج إليها منها إليه في عملية الإنجاب.إن للاستنساخ دلالة أخرى غير ما يروج حول مشكلاته العلمية والأخلاقية، كونه كشف عن آلية تظهر أن من مقدور المرأة أن تنجب باستقلال، في حين يتعذر ذلك على الرجل . وبذلك يضع الاستنساخ حدا لهذا السطو الاختزالي الذكوري لأنطلوجيا الأنثى القائمة مع الذكورة وليس نسيا من منسياتها. ومع ذلك فإن علاقة الرجل بالمرأة لا يمكنها أن تنتهي مع ظهور الاستنساخ طالما الرغبة والميل إلى بعضهما يمثل حاجة أسمى من أن تحصر في حاجة الإنجاب. وكما أن قيم الذكورة هي أقل من أن تحتكر الحياة ؛على الأقل لا يمكننا اعتبار وضعية المرأة حتمية فرضها وضعها البيولوجي لأنها بيولوجيا يمكنها الاستغناء عن الرجل . لا تستغني المرأة عن الرجل حتى تتذكّر ، ولا يستغني الذكر عن الأنثى حتى يتأنّث.
لقد شهد المجتمع العربي الجاهلي ظاهرتين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة؛ الاستضعاف الكامل للمرأة تحت وطأة ذكورة بلغت أوج الشطط. وهما ظاهرة وأد النساء وظاهرة الدعارة . يئد العربي المرأة تحت التراب ويحملها جريمته ، قبل أن تبلغ الحلم. إنها تستحق ذلك لأنها جاءت إلى العالم أنثى. أو لأنها حلت بفناء العربي الذي أراد للعالم أن يكون ذكوريا فقط يعانق آخره الأنثوي في دروب معتمة وفي إطار من السرية التامة. ذلك هو ذنبها الوحيد. وبعد ذلك لا يجد حرجا في أن يكرهها على البغاء، ويحملها جريمته.وقد جاء الإسلام بمنطق مختلف تماما؛ بأي ذنب قتلت ؟ هل لأنها امرأة ؟ أجل، لكن النساء شقائق الرجال.. أم لأنها امرأة لاحق لها في التحصن ، أجل ولكن (لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) !وهي جملة ليست شرطية ، فلا مفهوم لها كما ذكر الأصوليون، حتى وإن بدت في هيئة الشرطية. باختصار فإن الدعارة ظاهرة ذكورية ليس للمرأة فيها سوى الدور السالب . ثمة امرأة أكرهت ذكوريا ، اقتصاديا، اجتماعيا على عرض جسدها. وثمة زبون ذكر يطلب الجسد. إذن هي مسألة عرض وطلب. المجتمع ذكوري ، والقيم ذكورية ، والسلطة وإن كان اللفظ مؤنثا ذكورية؛ فكيف يتسنى للأنثى المستضعفة أن تخرق قوانين وحواجز هذا الاستفحال الذكوري ، كي تفرض رغباتها ؟ تلك إذن ، المفارقة. عمليا تزدهر ظاهرة الدعارة في المجتمع الفقير، وفي البلاد المتخلفة ، وفي الهوامش القروية المهاجرة ، والرابضة على تخوم المدن. حيث المناخ المساعد على تفكك الأسرة والغربة والفقر والجهل والأمية. إن المرأة العاملة، المستقلة والحرة والمتعلمة لن تكره على الدعارة. فالذين يصنعون الدعارة ويسوقونها هم الرجال الذين يصنعون الجهل والأمية. فالطريق إلى القضاء على الدعارة ليس في مزيد من حصر المرأة ووأدها ، بل بمزيد من تعليمها وتحريرها . فالمومس ليست حرة بل هي من الرقيق. ومتى ما تحررت، عرفت كيف تصون كرامتها وتحفظ شرفها.
في الخطاب النسائي المعاصر
في أغلب الأدبيات النسائية اليوم لاسيما التي تنحدر من الهيئات والمنظمات النسائية الغربية نلاحظ تضخما أيديولوجيا لا يمس جذور المشكلة النسائية. بل نقف على أسوأ نضال مهما بدت نجاعته المنقوصة. إن هو إلا رد فعل مرضي لأنثى ضيعت مشيتها فجعلت من الذكورة مثالا للأنثى النموذجية، و تختزل المرأة ضمن خطاب ذكوري مقنع. ما يعني أن الأيديولوجيا النسائية حتى اليوم هي من أكثر الأيديولوجيات خطرا على الأنثى . إنها بالأحرى نضالات تقوض حق الأنثى في التأنيث ، ونحن لا نطالب بتحرير الأنثى بأي ثمن بل ندعو إلى تأنيث الأنثى وفق شروط تضعها في مركز الأنطولوجيا المزدوجة. فتحرير المرأة وفق هذه المعايير هو تحريرها من آخر ما تبقى في حوزتها من قوة أنوثتها.إن في الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجال والنساء تكمن مغالطة أيديولوجية تتهدد الأنثى وتخضعها للترويض الذكوري كي تصبح ذكورة خالصة. أي حتى تصبح الأنثى مساوية للذكورة ، يتعين عليها أن تتحول إلى انخداع Simulacre ذكوري ؟ ربما العربي قاتل الأنثى كان أفضل من تغنى بها في غزلياته التعويضية. وكان يسمح للتأنيث لمساحات خاصة وإن ضاق مقامها. إن الخطاب النسائي ، وخلف لغة المعايير والمساطير والأجرأة ، ينطوي على رؤية فلسفية ماسخة لوجود المرأة . وهذا بالتأكيد لا ينفي أن ثمة حقوقا نسائية مجهضة لجهة إنسانيتها المساوية للرجل قطعا ، حيث لا كمال لأنطولوجته إلا بالمرأة ومعها. على هذا الأساس نعتبر الانطلوجيا العربية ، أنطلوجية ممزقة.
إن عمل المرأة وهو حق مشروع لها وحده لا يكفي . ففي مجتمع لاتزال تستبد به الذكورة سيصبح العمل وبالا على المرأة. لأنه لن يخفف عنها أعباء خدمة الذكورة. فعمل المرأة في الخارج هو هاهنا بمثابة عمل في السوق السوداء. فحتى لو كان الرجل فحّاما والمرأة طبيبة فإنه يتعين عليها بموجب طغيان الذكورة، خدمته في البيت؛ ألم تقرأ المثل:( Charbonier est maitre chez soi ). ً. المشكلة هي أن المرأة هذا الكائن الشاعري حامل سر الجمال الوجودي، وجد خلال حقبة كاملة من الحياة البشرية على هذا الكوكب في محيط من الظلام صنعته الذكورة واستسلمت له الأنثى تحت ظروف موضوعية شتى . إن مشكلة المرأة هي جزء من ظلام عم الاجتماع البشري ؛ مشكلة من صنع الأشرار . كانت المرأة ضحية الذكورة بكل أصنافها: ظالمون ومظلومون : الظالمون كرسوا نموذج المرأة الداعرة التي لا تحسن غير الغواية أو محو متاعب الاستبداد اليومي باسترخاءات الليالي الحمراء.أما المظلومون المسحوقون ، فقد تقمصوا شخصية الظالم المستبد فمارسوا تعويضا على أقرب كائن مستضعف بين أيديهم، أي المرأة . كانت المرأة ولا زالت مظلومة في المجتمعات التي تعيش تحت وطأة الاستبداد السياسي والذكوري. إن قصتها، كونها وجدت في عالم قل احترامه للجمال واشتد كفره به ، بعد أن لم يعد يتذكر بأن هذا الكائن الضامن لبقاء النوع وجماليته هو ريحانة وليس قهرمانة كما حكى علي بن أبي طالب(المرأة ريحانة وليست قهرمانة).
المرأة الحرة ، تحررا مغشوشا في الغرب كما يقدمه المشهد الهوليودي ، في تمثلها لمواقع الرجال أوتمثلها لفروسيتهم، المتقمصة لعنف الرجل بل حتى تفاهاته مثال المرأة التي تلبس لباس الكوبوي في لحظات شذوذها الفيتيشي الذكوري وركوب الجياد على طريقة رعاة البقر ولعب دور ال Pistolero ،والقرصان، تؤكد على أن تاريخ الأنثى الحديث ،هو بالأحرى تاريخ ترنح ذكوري بامتياز.وبذلك قدمت نموذجا سيئا ومرضيا عن المرأة المتحررة ؛ المرأة هنا تنحت هويتها الثالثة ، كامرأة مترجلةmasculinisee .
الآن فقط أصبح وضع المرأة في خطر. فحتى الأمس القريب ، كانت الأنثى رغم مواجعها ورغم شطط الذكورة وتعسفها، أنثى صامدة بلعبتها الأنوثية المثيرة ومخاتلاتها المحفوفة بالأسرار، وبألف ليلة وليلة من مكرها الأسطوري وغواياتها الساحرة. لكن،ها هي ذي اليوم ، وقد استسلمت لبؤسها التاريخي، حينما تمثلت الذكورة بوصفها تعبيرا عن تحررها. تظهر المرأة رجلة أكثر من الرجل في الدعاية الهوليودية . ولازلنا ننتظر اليوم الذي تسمح فيه النيوليبرالية للمرأة بدور أسمى من ذلك. فهل سبق أن توقع أحدنا وجود امرأة رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية ؟! هذا مع أن المرأة في أقسى فترات الطغيان الذكوري وأيضا أوضحه حكمت الشرق ، حتى أن ذكورية الهدهد لم تخف صدمتها أمام مشهد القوم الذين وجد امرأة بلقيس تحكمهم! ؟ لقد استسلمت المرأة للذكورة ليظل السؤال المطروح بإلحاح؛ أي مستقبل سيكون للأنثى إذا نجح الخطاب النسائي في تحقيق مطالبه دون أن يحدث ثورة في مفاهيمه وخطابه؟. إنني أخشى من مستقبل ذكوري بامتياز ، حيث ستختفي المرأة الأنثى من مشهدنا نهائيا . وحينئذ ماذا عسانا نحن الذكور أن نصنع في اجتماع مذكّر فاحش الذكورة؟ من جهة أخرى يبدو أن الطرد الهوسي للمرأة من اللاّوعي عبر تكريس ثقافة نفي الأنثى ووأدها يجعلنا نكرس نزعة الاكتفاء بمعاني الذكورة دون معاني الأنوثة مما يجعلنا أمام نسخة منوعة على مجتمع لوط ؛ وهو المجتمع الذي استحق أن يخسف به حينما تكرّست فيه ثقافة الاستغناء عن الأنثى. إننا لم نجد حتى الآن من أهل التفسير من تأمل قصة قوم لوط خارج المعنى التبسيطي الذي لا يتجاوز حكاية الممارسات الجنسية الشاذة خارج الدوافع والنوازع والخبرات اللاواعية التي جعلت شعبا بكامله لا يرى في المرأة شريكه ولم تبلغنا سلوكيات ذلك المجتمع خارج ما نقل إلينا باختزال حول ممارساته الجنسية التي كانت مجرد أعراض لثقافة عميقة وليس ذلك كل ما في الأمر. يعني لم نجد تثويرا لمعاني هذه القصة لنقف على أن الأمر يتعلق بثقافة تخريبية سادت ذلك المجتمع وهي لا تقف عند مجرد شذوذ جنسي معين بل تتعدى إلى ثقافة وأد الأنثى من الاجتماع والاستغناء بالذكورة عن الأنوثة. إن قوم لوط كانوا ذكوريين بامتياز ؛ فنزلت بهم اللعنة دفاعا عن المرأة وطلبا لحقها في التأنيث
* * *
إنه غاية القول في الأنثى، بل غاية الاعتراف. ومع ذلك فإنني لا أجد الشجاعة في أن أسمح لها بالشراكة على طول الخط. وهذا أكبر دليل على فصامية العقل العربي الذي لا يملك أن يتجاوز بالإحساس ما يتجاوزه بالتعقل. لأنني أحس بما يحس به كل عربي، ويخامرني هذا الكيمياء الذكوري وذاك التفاحل المستفحل. إنها كل شيء في الحياة لكنها أيضا مصيبة في انطولوجيتنا المتخيلة. إنها ليست قضية شخصية بل هي مسألة ثقافة راسخة رسوخ الجبال في اجتماعنا الثقافي. إن الذكورة اليوم تحس بأنها مستهدفة من قبل أنوثة مغشوشة هي في حقيقتها ذكورة مقنعة. بينما المطلوب أن تتصرف الأنثى خارج استبداد الذكورة وأيضا خارج استغلال الذكورة. فالصدام يصبح كبيرا حينما تشعر الذكورة بأن المسألة النسائية هي ورقة لذكورية أخرى. ها هنا يصبح الحديث ضروريا عن مشروع تأنيث الأنثى وأن تحقق الأنثى ثورتها الثانية ليس ضد استبداد الذكورة بل ضد استغلال الذكورة لقضية الأنثى. لا أخفي أنني أتطلع إلى غد مشرق تثور فيه المرأة على ذكورتي كأنثى لا كذكر. أي أن تخوض نضالها الأنوثي برجولة لا بذكوره. كم سيكون الغد جميلا إذا ما حاربت المرأة الذكورة بشعار اللاّمساواة ، لأنني لن أقبل أن تتساوى الأنثى مع الذكر ( وليس الذكر كالأنثى) ليس تمييزا في الحقوق ولكن تمييزا في أسرار الوجود. أعط المرأة كل حق وزيدوها واجعلوا حقوقها تفوق حقوق الذكورة ليس عندي مشكلة ولكن لا تحرموا العالم من أنوثتها فهي سحر العالم وجماله . ومع رسوخ هذه الانطولوجيا الممزقة، أرى أن الحداثة، هذه العبارة المنحوتة على صيغة الأنثى، من شأنها ومن شأن روائعها بل ومن شأن عنفها القاسى أن يهذب جموح ذكورتنا المسرفة ، ويصدمها بإكراهاته. إن الرجل العربي كان ولا يزال يحاكم المرأة بعدم امتلاك الأهلية الاجتماعية والعلمية والحربية، ولكنه في الوقت نفسه يزعجه أن تقف منافسا له في الميدان. فهلا صحا الرجل العربي من هذا السبات الذكوري ، بعد أن لم يغنه هذا الطغيان الذكوري في جلب الكرامة للأمة، أو يقوي شوكته في ظل هزائمه المنكرة؟!
أدرك أنه ليس العربي بدعا في هذا الذهان الذكوري. وأدرك أيضا أن هذا الوجه القاتم من الثقافة العربية لا يحجب الوجه الآخر المشرق لها. ومع ذلك نقول: إن تصحيح المنظور تجاه المرأة،هو السبيل الأخصر للتحرر من الاستبداد السياسي والمعيار الأدق لولوج الكون الحديث وهو الامتحان الأعظم لمعرفة إلى أي مدى تمكنت الحداثة من أهلها. إن عالما يكف عن جموحه الذكوري من شأنه أن يدنو قليلا من الديمقراطية والتعددية والتسامح والنصر. فالنصر من عند الله. والله هو من خلق العالم على قاعدة التذكير والتأنيث كل بقدر. لذا تساءل الخالق أمام شطط المخلوق وسلوكه الذي لم ينزل الله به من سلطان حينما قال:( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)!
[email protected] mailto:[email protected]
الدعارة كصناعة ذكورية ومصداق ظلامة المرأة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.