توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    المكسيكية فاطمة بوش تتوَّج ملكة جمال الكون بعد جدل واسع    زلزال بقوة 5,5 درجات يضرب بنغلادش    اليوم.. فتيان الأطلس يواجهون البرازيل بأمل المرور إلى نصف نهائي المونديال    أهلية الترشح لمجلس النواب وتوسيع حالات التنافي وتمويل الأحزاب في صلب المناقشة التفصيلية لمشاريع قوانين المنظومة الانتخابية    سفير عمان يثمن تمسك المغرب بالسلم    مهرجان الذاكرة المشتركة بالناظور يتوج أفلاما من المغرب وبولندا وأوروبا الغربية    توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    القافلة الجهوية تقديم آليات جديدة متاحة لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع في الجهة    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    حوالي 756 ألف مستفيد من دعم مربي الماشية توصلوا بأزيد من 3 ملايير درهم    الحاجب يستقبل محطة جديدة لمعالجة المياه العادمة بجماعة أيت نعمان    إطلاق المنصة الوطنية لرصد وفيات الأمهات والمواليد الجدد لتعزيز الجودة والحكامة في المنظومة الصحية    متابعة الرابور "بوز فلو" في حالة اعتقال وإيداعه السجن المحلي لصفرو    بوريطة يتباحث بالرباط مع نظيره الغاني    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    تفكيك شبكة لترويج المخدرات بطنجة وتوقيف ستة من أفرادها    "الأحرار" يصادق على تصوره للحكم الذاتي تمهيداً لرفعه إلى الملك    "الأحرار" يضع مقترحات الحكم الذاتي    بوريطة يستقبل رئيس الجمعية الوطنية لجمهورية تنزانيا المتحدة    تتويج أشرف حكيمي بجائزة أفضل لاعب إفريقي.. إشادة واسعة من قبل وسائل الإعلام الفرنسية    نبيل باها: "اللاعبون مستعدون لمواجهة البرازيل والفوز بالمباراة"    ملف إسكوبار الصحراء .. النيابة العامة تكشف اختلالات خطيرة في العقود الموثقة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء سلبي    الكاف يتجاهل المدرب محمد وهبي    المغرب يترأس المجلس الدولي للزيتون    تحقيق إسباني يكشف استعمال النفوذ للحصول على صفقات في المغرب وخلفيات ذكر اسمي اعمارة ورباح    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    الحكومة تقر "تنظيم مهنة العدول"    بايتاس: 756 ألف مربي ماشية استفادوا من دعم بقيمة 3,17 مليار درهم    المغرب يحل ثالثا وفق مؤشر الأداء في مجال التغير المناخي (CCPI)        جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    السكتيوي يعلن الجمعة لائحة الرديف    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    منظمة الصحة العالمية تحذر من الزيادة السريعة في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية    ناسا تكشف عن صور جديدة للمذنب 3I/Atlas القادم من خارج النظام الشمسي    غوغل تطلق أداة جديدة للبحث العلمي    وزارة الاقتصاد والمالية تصدر ميزانية المواطن لسنة 2026    تدشين غرفة التجارة المغربية بإيطاليا في روما    مناورات مشتركة بين قوات المارينز الأميركية ونظيرتها المغربية تختتم في الحسيمة    مونديال 2026.. جزيرة كوراساو الضيف المفاجأة    منتخبات ‬وفرق ‬وطنية ‬تواصل ‬التألق ‬وتخطيط ‬متواصل ‬يجعل ‬من ‬كرة ‬القدم ‬رافعة ‬تنموية ‬كبيرة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    كأس ديفيس: المنتخب الايطالي يتأهل لنصف النهاية على حساب نظيره النمساوي    منظمة الصحة تحتاج إلى مليار دولار    معمار النص... نص المعمار    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن تشكيلة لجنة التحكيم    لوحة لغوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يباع في مزاد على الإطلاق    مهرجان الناظور للسينما والذاكرة المشتركة يخلد اسم نور الدين الصايل    الأكاديمية الفرنسية تمنح جائزة أفضل سيرة أدبية لعام 2025 إلى الباحث المغربي مهدي أغويركات لكتابه عن ابن خلدون    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    الإنعاش الميداني يجمع أطباء عسكريين‬    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع افتراضي عربي
نشر في هسبريس يوم 17 - 05 - 2010

أستعير مفهوم "افتراضي" من علم الكمبيوتر والإنترنت، وهو ما يقابل المصطلح الإنجليزي Virtual وهو ما يمكن مشاهدته على صفحات الكمبيوتر، وقد لا يكون له صلة بالواقع، كأن يقوم الشخص برحلة افتراضية إلى الفضاء، أو بزيارة مدينة أخرى، أو الانتصار في حرب كونية.
وأستعير من لغة المناطقة مفهومين، هما: القوة والفعل. وأقصد هنا أن المشروع العربي ليس قائماً بالفعل بل هو قائم بالقوة حتى الآن، ومن هنا أصفه بالافتراضي، وقد لا يعجب هذا القول بعض القراء، ولكني أبادر إلى القول: إن المشروع العربي، مشروع القومية العربية، مشروع الوحدة أو الاتحاد العربي قائم بالقوة، بمعنى أن جميع مقوماته كامنة في أعماق الذهنية العربية، والوجدان العربي، والنظام الفكري العربي.
إن مقومات هذا المشروع من دائرة القوة إلى دائرة الفعل ما زالت متجذرة، ولعل أهم مقومات هذا التحول ودوافعها ومسوغاته هو الفشل الذريع والمدمر الذي منيت به الاتجاهات التي ساهمت مساهمات أساسية في إجهاض أجنة كادت أن تكتسي لحماً، وأقصد بذلك الفكر المهيمن القطري الإقصائي الانعزالي المنغلق، والذي حقق أحلام المستعمر الأوروبي في التجزئة والتشرذم. ولكن هذا الفكر القطري أثبت فشلاً هائلاً. أفشل هذا الفكر القطري بذور تجربة قومية الخمسينات، وهو يتآكل الآن (القطري) من الداخل.
كلنا نعرف حقائق التاريخ الاستعماري في المنطقة العربية، ورسومه لهذه المنطقة، وتقطيع أوصالها، بحيث خلَّف وراءه الدولة القطرية التي أصبحت تحمل شعار " ... أولا" مستقيلة من حمل الهم العربي على مساحة العالم العربي من المحيط إلى الخليج. أسس للدولة القطرية جيش من الدعاة والمثقفين وأجهزة الإعلام، وأجهزة الأمن التي تحقق تلك الرسوم. وحين حاولت الدولة القطرية استبدال الهوية القطرية بالهوية الدينية (الخلافة) أو الهوية العربية (القومية) فشلت في تأسيس تلك الهوية القطرية التي أصبحت وبالاً على القطر بحيث أن القطر الواحد الآن أصبح مهدداً بعدة إثنيات وقبليات (من القبيلة) والعشائريات والطوائف الدينية (الأمثلة كثيرة تكاد تعم جميع الأقطار العربية)، وأصبحت أقطارنا العربية تكاد تجتاحها أعاصير هوجاء تؤدي إلى تشرذم أصغر من القطر، وقد يصل الأمر إلى عنصرية حتى على صعيد القرية الواحدة والإقليم القطري الواحد.
أرادت الدولة القطرية أن تطوع الدين الإسلامي والحركات الإسلامية التي تنطلق من كون الإسلام دعوة إنسانية عامة، إلى غلقها لتخدم الأهداف القطرية المشوشة والمضطربة، فانتهينا إلى جماعات إسلامية متطرفة في محاولة لإثبات الذات أحياناً، أو في محاولات متشنجة لرد الحيف والضيم كما يرى منظرو تلك الجماعات. ليس الحيف الغربي فقط هو المسؤول عن التطرف الديني في بلداننا، بل إن دولنا العربية ساهمت بأشكال مختلفة في هذه الظاهرة.
من المؤكد أن القراء الكرام ما زالوا يذكرون الفتاوى السلطانية المتناقضة التي صدرت بخصوص الحرب العراقية الإيرانية، وبخصوص التحالف العربي الإسلامي (إن جاز التعبير) في الحربين الأمريكية على العراق، وأخيراً فيما يتعلق بالحرب التي تصدى فيها حزب الله للعدوان الإسرائيلي في صيف عام 2006، ثم في التعامل مع حصار الفلسطينيين في قطاع غزة، وفي غيرها من المواقف التي انقسمت فيها الفتوى بين سلطانية، وأخرى مناقضة لها، تحمل غير ما طيف أحياناً. محاولة إخضاع الفكر الإسلامي والاتجاه الإسلامي بالعنف والقوة إلى منطق الدولة القطرية وأجندتها المرتبطة أحياناً بمشاريع مشبوهة، أدت فيما أدت على هذا الصعيد إلى التأسيس للمجموعات المتطرفة، التي تصادمت بشكل دموي وعلني وما زالت في مواقع قُطرية مهمة من وطننا العربي، وليس المثال الجزائري هو المثال الوحيد، وإن كان الأكثر دموية ونصوعا. وما زال مثال العراق مع اختلاف في الأسباب أحيانا، قائما.
ومن جهة أخرى فشلت الدولة القطرية في أرساء ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية سياسية واجتماعية وثقافية، وليست ديقراطيات (لأنها متلونة في الدول العربية) البرلمانات التي نعرف كيف تتشكل وتتكون وتنتخب، ليست هي الديمقراطية كما تشوش علينا السلطات بها. وقد أعود للتفصيل لهذه الأمور مستقبلاً.
وفشلت الدولة القطرية في الحفاظ على أمن القطر والوطن من الأخطار، وما زالت بعض بقاع من أقطارنا العربية تحت الاستعمار الأجنبي التقليدي، وكثير منها تحت استعمار بعناوين وألوان جديدة للاستعمار من مصطلحات مقصودة كالتحالف والصداقة والاستثمار الأجنبي. ووجدت الدولة القطرية أنها على الرغم من المليارات التي صرفت على العسكر والتسلح أنها لا تستطيع حماية الوطن، وأن تلك الأموال قد ذهبت هباء منثوراً، فلجأت إلى القوى الأجنبية لحماية قطرها، فوجدت نفسها أمام مأزق جديد يتمثل في بعدين: سياسي عسكري يتمثل في مواقف سياسية ممالئة للأجنبي ومتماهية معه وخادمة لمصالحه، وقد تكون متناقضة مع مصالح شعبه، وهي في الوقت تحقق مصالحه الذاتية في البقاء، ففتح البلاد أمام قواعد عسكرية في عودة إلى صورة أسوأ من صور الاستعمار التقليدي. ويتمثل البعد الآخر في توقيع صفقات التسلح بأرقام فلكية التي فاقت فيها المنطقة العربية أي مكان آخر في الدنيا، وأخذت المليارات تصب في عجلة الصناعة السلاحية الغربية، ثم اكتشف أن تلك الصفقات لا تحمي الأوطان، وبالتالي العودة إلى مربع الحماية الأجنبية الأول.
ومن الطريف والمحزن والمبكي أن أقطاراً عربية لجأت للأجنبي لحمايتها حتى من شعوبها، ولجأت أقطار عربية أخرى لحماية ذواتها، أقصد أنظمتها من إسرائيل، ففزعت إلى بوابة البيت الأبيض لتكتشف أن تلك البوابة في واشنطون لا تفتح إلا من خلال البوابة الإسرائيلية، وبالتالي أصبحت الدائرة مغلقة والعودة حتمية للتعامل المباشر، أو التحالف المباشر، بطريقة أو أخرى، مع إسرائيل، وليكتشف النظام العربي عامة، أن أوراق اعتماد القبول في واشنطون تمر من تل أبيب وليس العكس. وأخذ تحقيق المصالح الأمريكية صفة خدمة المصالح القطرية، وليس الأمر كذلك مطلقا إلا إذا اختصرنا المصالح القطرية واختزلناها، بهذا المفهوم الضيق، بمصلحة نسبة مجهرية في شعبنا العربي.
التقى النظام العربي بأشكاله وصوره المتنوعة المختلفة في نقاط التقاء كثيرة، فلم يعد هناك فرق بين نظام ملكي أو جمهوري، أو أميري، أو سلطاني، ليس على صعيد التوريث، وبقاء الحاكم على كرسي الحكم حتى الموت فقط، بل على أصعدة أخرى. أصبح النظام العربي يجاهر بأنه النظام الشرعي الديني التاريخي والإلهي أحياناً، وبالتالي فإنه يتميز بالعصمة، وهو يمثل العبقرية الوحيدة دينيا، وسياسيا، واجتماعيا، وسياسيا، وثقافيا؛ ولذلك أصبح الحكم في الأقطار العربية على اختلاف تسميات أنظمتها محكومة بالعائلة على قمة الهرم، يدور في فلكها مجموعة، وطبقة من الإداريين والمنظرين الذي أصبحوا يتوارثون مواقع الآباء والأجداد في مواقع الحياة والأنشطة المختلفة، أما بقية المجتمع، وفئاته الأخرى، فمحكوم عليها بقدرية تهميشية في كل شيء، وما عليك إلا أن تنظر على وزراء اليوم، ونواب اليوم، ورؤساء البلديات اليوم، ومدراء البنوك والشركات ومؤسسات الدولة والجيش والأمن، لتجد أنهم أبناء رجال المؤسسات نفسها بالأمس وأحفادهم. إنهم يحملون جينات متميزة لا يملكها غيرهم من أبناء الشعب. وأصبح التحالف بين هذه القوى لسلب ثروات الدولة، وتسخير قواها الشعبية لمصالحها، ونهب المال العام، وبيع القطاع العام الذي بدا وكأنه سيكون منتجاً لمصلحة الشعب، ليصبح إقطاعاً لمصلحة الطبقة الحاكمة ومتنفذيها وأقاربهم وأنسبائهم وأنسباء طليقاتهم.
فشلت الدولة القطرية في الاستفادة لمصلحة مجتمعاتها من مصادر الثروات الطبيعية والبشرية، فتصرفت بالثروات الطبيعية التي أصبحت نهباً للشركات الدولية والأطماع الأجنبية، التي تعود إلينا أحيانا بأضعاف أسعارها، سواء بتغليفها وتعليبها أو بتصنيعها وأعادة تصنيعها، وأهملت الثروات البشرية المنتجة والمفكرة والمبدعة والمخترعة، بحيث وجدنا ملايين من الشباب الذي هاجر وترك البلاد إلى غير رجعة ليبني لمجتمعات أخرى، وبذلك خسرنا مرتين: حين تركناه يهاجر وخسرناه كقوة إنتاج، وخسرناه حين أصبح منتجاً في مجتمع آخر نُضْحِي تابعين له في كل صباح جديد. فهل يعرف أحد كم جنديا، بل قائدا، من الجيش الأمريكي الذي احتل العراق من أصول عربية؟ أليس من الفضيحة أن نجد مجندين عرب من غير فلسطينيي الداخل، فيما يسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي؟ أنا هنا لا أتحدث عن رواية عائد إلى حيفا، بل أتحدث عن واقع.
وبدل أن تحقق الدولة القطرية العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوزع الثروة الوطنية على شعوبها، تصرفت بتلك الثروة، كما تصرفت بالإنسان والوطن، لأن عقلية إدارية وسياسية طريفة يمارسها النظام القطري: الدولة، والأرض، والحكومة، والشعب، ملك (من المُلكية) للحاكم وطبقته، يتصرفون بها كيف شاءوا، ولذلك تنقل ثروات البلاد لتستثمر في الخارج بدون قرار أو رأي وأحيانا بدون معرفة الشعب، وليت هذا الاستثمار للدولة، بل هو لفئة تملك مقاليد الحكم والنفوذ. وأنفقت الأموال وعقدت الصفقات وأخذت السمسرات على وكالات وهمية، أو مضاعفة الأثمان، ليستفيد المنتفع الأجنبي والوسيط المحلي. وأصبح تعبيرات "شريك استراتيجي"، و"المصالح المشتركة"، "والحليف الصديق" من التعبيرات المضللة التي تحاول أن تلغي ذاكرتنا. وصرفت المليارات على مغامرات فردية من كل الأنواع قام بها الحكام لأنهم تخيلوا أو اندفعوا لاتخاذ موقف ما، فدعوا أثمان غرورهم ونزواتهم وقصر نظرهم ليس من جيوبهم أو دمائهم أو عرقهم، بل من ثروات الأمة ومن دمائها وعرقها وجهدها، ولم يجدوا من يقول لهم لقد أخطأتم، وحين يجرؤ أحد لقول قريب من ذلك، فحرام عليه رائحة النسيم، وضوء الشمس، والماء البارد.
الدولة القطرية العربية تحتفظ بعضويتها في جامعة الدول العربية (هذا هو الاسم الرسمي الذي يرسخ منذ البداية رؤية بريطانيا للمنطقة) وفي الوقت نفسه تحتفظ باتفاقيات دفاعية تتناقض كلياً مع ميثاق الجامعة العربية وأهدافها. أليست هذه الاتفاقيات الثنائية بصرف النظر عن تسمياتها، والتي تفتح المجال للوجود الأمريكي والإسرائيلي المكثف في المنطقة العربية، متناقضة مع اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي هي إحدى مظلات جامعة الدول العربية؟ لا أستطيع أن أفهم، ورما كان من غير المعقول الجمع بين معاهدة الدفاع العربي المشترك، وما سمي "الإطاحة بالنظام في العراق" الذي كان يجب أن يجري على أيدي العراقيين فقط إن كان لا بد من ذلك.
ومن جهة أخرى، هل يمكن أن يدلني أحد أن دولة عربية قطرية، وقعت اتفاقية بهذا المستوى من الخطورة، سراً أو علناً، ثم عرضت تلك الاتفاقية على مجلس النواب أو الشورى أو الاستشاري فيها، وأعطته الفرصة ليقول رأيه الحقيقي فيها؟ هل عرضت أية اتفاقية بمستوى كامب ديفيد، أو أوسلو، أو التعاون الأمريكي الخليجي على الشعب ليقول رأيه؟ لا حاجة لذلك، فهؤلاء (الشعب) هم رعية. هذا هو التصور. رعية تابعة للراعي، ومنصاعة لأمره ولو إلى الجحيم، وبدون رأي. لماذا يصر المسؤولون الإسرائيليون مثلاً، وهم ليسوا مثالاً لنا بالطبع، على القول: لا بد من العودة إلى المجتمع الإسرائيلي ليقرر ذلك؟ وماذا كان ويكون موقفنا حين يكون الأمر ثنائيا؟ يا ليت الممثل العربي، والمفاوض العربي، يترك لنفسه مساحة وراء ظهره ليكرر القول ذاته، ويفعله.!!
فرق هائل بين الأول والثاني: الأول يعرف أنه سيحظى بدعم برلمانه وشعبه لأنه يحقق له، أما الثاني فإنه يعرف النتيجة سلفاً كذلك؛ إن مشروعه مرفوض والاتفاق الذي وصل إليه مرفوض لأنه مفرط وأضعف من أن يحقق شيئا، فيعود بما عاد خجلا مما فعل فلا يكاد يبين عنه، لأنه يعرف ما جنت يداه، ولا نعرف حقيقة ما جرى إلى من الطرف الآخر أو بعد فوات الأوان، ولعل أغرب مثل هو عودة السلطة الفلسطينية إلى ما يسمى "المفاوضات غير المباشرة". الأمريكيون يقولون لا ضمانات، والإسرائيليون يكررون ليل نهار لا ضمانات ولا وقف لبناء المستوطنات، ومع ذلك ينبري رجال السلطة بالقول إن هناك ضمانات: يا خلق الله اكشفوا عن تلك الضمانات إن كنتم صادقين.. فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فإنكم كاذبون كاذبون كاذبون. هذا هو تشويه الوعي وتزوير التاريخ ومخدر يعطى للدماغ لتبقى الشعوب العربية في غيبة عن الوعي تراد لها.
النظام العربي القطري فشل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، فلا اقتصاد منتج، ولا بناء مجتمع منتج، بل هناك غرس وتعزيز لفكر الاستهلاك، ويكفي أن تنظر إلى الأسواق العربية كلها، فما هو المنتج المحلي بينها، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا نستورد المواد الأولية المكونة لتلك الصناعات الهزيلة. هذا على المستوى اليومي البسيط للمنتج الاستهلاكي الشعبي اليوم، أما على الصعيد الاقتصادي الاستراتيجي فدولنا تحت الصفر، بل في تراجع كل يوم في اعتمادها على المنتج الأجنبي الذي يمكن أن يقدم لنا ما استنفدت صلاحيته، وحتى هذا لا يعطينا منه إلى النزر اليسير، ويتفق هذا الأمر مع التقدم العلمي والتقني والقصور فيه. انتهى إنتاج القطن في مصر، وتراجع إنتاج الغذاء في دولنا العربية كلها، وأصبحت الميزانيات تذهب لاستيراد كل شيء بعد أن تم القضاء على كل عوامل الإنتاج من أي نوع كان.
جامعاتنا والعلوم التقنية متخلفة، وفرص الإبداع والابتكار محاربة ومقموعة، وأجهزة البحث وميزانياته لا تتعدى ما ينفقه أحدهم على غانية، ومصانعنا متخلفة ورديئة الإنتاج، وتقنياتنا ليست من صنعنا وأسرارها ليس ملكنا، فماذا نتوقع؟ منذ الستينات، أي ما يقارب أربعين سنة، وأنا أسمع من الدول "التقدمية" العربية إن "الاتحاد السوفياتي" والغرب كلاهما لا يعطينا السلاح المتقدم الذي نحمي به بلداننا ولا التقنيات المتقدمة حتى لصنع حبة دواء؛ فماذا فعل أولئك الشاكون المولولون؟ هل أسسوا مصنعاً واحدا ينتج مادة البارود فقط؟ في المقابل: ماذا فعلت كوريا والصين ورومانيا وجنوب إفريقيا وإسرائيل في هذه السنوات الأربعين على مستوى التقنيات العسكرية والمدنية؟ بل ماذا تفعل إيران وفي مقابلها ماذا نفعل نحن؟ نكتفي بالصراخ والتسول على باب البيت الأبيض مرورا بالكنيست.
قيل لي ولجيلي حين كنت شاباً كل شيء من أجل التحرير، كل شيء من أجل فلسطين، كل شيء مسخر للمجهود العسكري في الصراع مع الصهيونية، فلا تنمية ولا تقدم ولا مستوى تعليمي ولا بنية اقتصادية، ولا تنمية اجتماعية قبل أن ينتهي "الصراع العربي الإسرائيلي!!". انتهى الصراع العربي في بعض الأقطار العربية قبل استقلال تلك الدول، أي أن لا صراع بأي صورة بينها وبين إسرائيل. ودول أخرى لم تفعل في ذلك الصراع غير التشدق بالكلام، ودول أخرى أنهت ذلك الصراع منذ ثلاثين سنة. فماذا فعلت كل هذه الأنواع من الدول؟ ما زالت تتسول وتتوسل السيد الأمريكي.
ماذا فعلت كوريا الجنوبية اقتصاديا في ثلاثين سنة وهي مقسومة بين كوريتين، كوريا الشمالية تدق لكوريا الجنوبية طبول الحرب كل يوم. هل توقف الكوريون الجنوبيون عن الإنتاج والتنمية والتطوير واحتلال موقع اقتصادي متقدم بحجة الخطر الكوري الشمالي؟ الجواب عندكم. هل توقف التايوانيون، وهم الجزيرة الصغيرة عن إنتاج تقنيات المعلوماتية والألكترونية لأن القارة الصينية على حدودهم وليست بحاجة إلى أكثر من أن تبتلع فاها لتبتلعهم؟ هل عجز الإنتاج التقني والعلمي الصهيوني عن الابتكار لأنه محاط بمحيط عربي لا يكاد يبلغ بمقاييس الكم شيئا أمامه؟ بالعكس. كان الخطر هو الحافز لدى هذه الشعوب والدول لمزيد من الإنتاج، ولمزيد من الاختراعات، ولمزيد من التنمية، ولمزيد من التقدم والتطور.
هل معنى ذلك أن المشروع العربي الوحدوي على النمط الأمريكي أو الأوروبي أو حتى العربي الوحدوي التقليدي انتهى وولى إلى غير رجعة؟ لا أبداً. إنه ما زال قائما بالقوة، ولا يحتاج سوى التحول من القوة إلى الفعل، وما زالت عناصره ومقوماته كامنة. صحيح أن الصراع بين القوة والفعل ليست قصيرة وليست سهلة، ولكنها متفاعلة بشكل دائم، وسيأتي اليوم الذي يتعب فيه الطرف الفاعل الآن ويعجز أكثر مما عجز، لتصل المنطقة إلى صيغة ما ستختلف بالتأكيد عن الصيغة الحالية القاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.