الثّقَافَةُ المُقَنَّعَة

كَانَ أحَدُهُمَا جَدِيدَ عَهْد بالمَدِينَةِ , رُبَّمَا يَحْتَرِفُ البِنَاءَ .. أوْحَتْ بِذَلِكَ بَشْرَتُهُ المُحْتَرِقَة , وجِلْدُهُ المَنْحُوتُ بالكدمَاتِ والجُروحِ المُتَنَاثِرَة .
كَانَ فَاتِحًا فَاهُ .. مُندَهِشًا غَايَةَ الاندِهَاشِ بِكَلَامِ زمِيلِهِ الذِي بَدَتْ عَلَيهِ أمَارَاتُ التَكَيُّفِ مَعَ وَاقِعِهِ الجَديدِ بالمَدِينةِ .. بِبِذْلَتِهِ الخَضرَاءِ العَدَسِيَّةِ , وَقَمِيصِهِ الذِي كَانَ يَوْما مَا أبْيَضًا .
رَكِبْتُ الحَافِلَةَ عَصْرَ يَوْمٍ حَافِل .. فَوَجَتُهُمَا عَلَى تِلْكَ الهَيْئَةِ ..
الحِيرَةُ كَسَتْ وَجْهَ البَنَّاءِ وَهُوَ يُحَاوِلُ فَهْمَ كَلَامِ صَاحِبِهِ , الذِي تَشَعَّبَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَوَاضِيعَ كَثِيرَة مُتَضَارِبَة .. يُقَدِّمُ الدَّلِيلَ عَلَى مَوْضُوع يُناقِضُ رَأيَهُ فِيهِ , ثُمَّ يَنتَقِلُ مِنْهُ إلَى آخَرَ فِي غَيْرِ انتِظَام .. وَصَاحِبُهُ لَا يَزالُ مُتعَجِّبًا .. يُحدِّثُ نَفسَهُ بِعِظَمِ وغزارةِ المعرفةِ التي يمتلكُها صاحِبُه , والتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِعَابِهَا !!
وما دَرَى المسكينُ أنَّ صاحبَهُ يَهْذِي .. وينطقُ بما لا يُفهَمُ حقًّا .. ولا يُسْتَبعَدُ أن يكونَ بهِ أذًى من رأسِه .
فأخَذَنِي المَشْهَدُ إلَى أبْعَدَ مِن ذلك .. إلَى الإعلَام ..
حَيْثُ الجَمْعُ الغَفِيرُ خَلْفَ الشَّاشَاتِ . يُتَابِعُ بِعَجَبٍ تلكَ الأفْوَاهَ التِي تَمْلأُ الشّاشةَ ضجيجًا ,تخرجُ عَنِ المَألُوفِ فِي بعضِ حالاتِهَا .. وعنِ المنطقِ في أغلَبِ شأنِهَا ..
كلماتُهم مألُوفَةٌ غَيْرُ مَفهُومَة , وخاصّةً إذا مَا تَمَّ تركيبُهَا فِي جُمَل ,حَيثُ تُجَسِّدُ الرَّكَاكَةَ في أوْضَحِ صُوَرِهَا .. ( فِي إطار - خَصّصنَا ميزانيّة - بَلْوَرَة - الأنثروبولوجيا - الانفِلَات - الانشِكَاح - الهَدْر - مُولْ العَصِير ... الخ ) . مَتَاهَة يعجَزُ المُتعلمُ عنِ الخُروجِ مِنها , فَضْلاً عَنِ الذِي لَم تتهيّأ لهُ أسبابُ المَعرفَةِ .. ويظلُّ انبهارُ هذَا الأخِيرِ كَبيرًا , لِدَرجَةٍ تجعَلُهُ يُدافِعُ ويَذُودُ عَن مُلقِّنِهِ ( المُثقّفِ ) , ظَنّا منهُ أنَّ الثّقافةَ والمعرفَةَ فِي التّعقيدِ , وأنَّ الخَلَلَ فِي شَخْصِهِ لَا فِي مُلَقِّنِهِ .
وَمِنْ ِخلَالِ قراءَتِي لِلْمَوْقفِ .. وما أكْثَرَ المواقفَ المَثِيلَة !! وَجَدتُ أنَّ الثَّقافةَ يُمكنُ أن تكونَ في بعضِ تَعْرِيفاتِهَا ( التي تَتَّفقُ وَوَاقعَنَا المُعَاش ) هِيَ : الكلامُ الغَيْرُ مفهوم , الدَّاعِي لِلْعَجَبِ والحِيرَة , والبَاعِثِ عَلَى التَّصْدِيقِ الأعْمَى , هُرُوبا منَ الرَّكاكَةِ والتَّعْقِيد .