الحكومة تصادق على مشروع قانون يتعلق بنظام الضمان الاجتماعي    بايتاس يؤكد على "الإرادة السياسية القوية" للحكومة لمعالجة مختلف الملفات المطروحة مع النقابات    بايتاس… الأسرة المغربية في صلب مختلف السياسات العمومية    مطار الناظور يحقق رقما قياسيا جديدا خلال الربع الأول من 2024    المغرب يستنكر بشدة اقتحام باحات المسجد الأقصى من طرف مستوطنين    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    وزارة الفلاحة تتوّج أجود منتجي زيوت الزيتون البكر    وضع اتحاد كرة القدم الإسباني تحت الوصاية    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    الجماعات الترابية تحقق 7,9 مليار درهم من الضرائب    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    الرباط.. ندوة علمية تناقش النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (صور)    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    رسميا.. الجزائر تنسحب من منافسات بطولة اليد العربية    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَاعَةُ الصِّفْرِ قَدْ أَزِفَتْ..أَوْقِدُوا الشُّمُوع !
نشر في هسبريس يوم 30 - 12 - 2014

ها قد جاءت ساعةُ الصّفر تُجَرْجِرُ أذيالها إلينا،ومنّا تدنو ، وتقترب معها لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والطيش، وهنيهة (الوداع – الإستتقبال) ها قد أزفتْ.. فإذا بالكلّ يصيح.بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ....أوقدوا الشّموعَ، والأنوارَ..وانثروا الضّياء ..سترى الوجوهَ باشّةً هاشّة ً ضاحكة، وترى القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بإنسياب حِقبةٍ من الزّمان وإنقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضرالكبرى ستسبح في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج . أضواءُ النيّون ستملأ الدّنيا، وستنتشرُ،وتسطعُ في أماكان بعينها، وسوف يستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها ، قليلون منّا يعرفونها ..ستعاقرُ الكؤوسُ بعضَها بعضاً، ستنفرِجُ الأشداقُ من فرط القهقهات ، وتزيغُ العيونُ من فرط النظرات ، وتنتفخُ الأوداج، وتتيه العقول.
حرارةُ مُنتصف اللّيل
الكلّ ينتظر ساعةَ الصّفر ، الكلّ يرقب،ويترقّب،وعندما تملأ المكانَ حرارةُ منتصفِ الليل، وتنطفئ الأضواءُ في كلّ مكان، يكون العناقُ تلوَ العناق، الصّادق منه ,والمائق، والزّائف، والدّافئ الزّائد يتحوّل إلى نارٍ كاوية ، وتدورالأكْؤُسُ، وتتلوها الأكوابُ حتى الثّمالة،وتُوزّع الصّحون، وتمتلئ البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ،بعد أن تُوزّعُ الشموع الملوّنة،والقناديل المضيئة، وتوقدُ الشمعدانات المذهّبة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة ،التي يكاد زيتها يضيئ حيناً، ويخبو حيناً آخر، تسطع أنوارُها فى رومانسيّة حالمة، خافتة،باهتة ،وتتراقص فتائلها فى خجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة ،وإهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، ، االمكان يملأه الأثاث المزخرفَ،والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية،والمآدبَ الفاخرة،والمصاطب العليا، ومشروبات الكوكتيل الشهيّة، وطحالب السّوشي اليابانية البحرية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة !.وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الإصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح، والحديث ذو شجون بين الجميع، يجرّ بعضُه بعضاً، يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون،يصيحون،يغنّون،ويهلّلون،وهم دافئون..
وآخرون يلفّهم البردُ القارس الزّمهريرالذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيع المتكاثف الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة،هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة ،وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متتضخّم،ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ ،وفاقةٌ،وفقرٌ، وإحتياج ،وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم ، ولفحةٌ لاسعة من برد قارس.
ها قد حال الحَولُ،إذن ودار الزّمانُ، وعمّا قريب سيواريَ عام ٌ، وتتوارىَ معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلِنا،ومآسِينا، ونستقبلُ في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في طيّ المجهول،وخبايا الكِتمان ،وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وإنْزَوَى، وَمَضَي أوكاد إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أوالأتيِّ المنهمِر الضّائع فى طيّات الزّمن،وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، وفى معارج طباق السّماوات ، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّت،ومضت، وإنقضت، وذهبت بدون رجعة.!
بودلير، طاغور واللّيل
كان" بودلير" يكره الليل،لأنه كانت تقوى فيه عليه وتتفاقمُ آلامُه المُبرحة،كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة ،حالكة ، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به فى آخر المطاف إلى التّوى، ثمّ فى جُنحه حاق به الرّدى،فقد كان يشمّ فيه- كما كان يقول- رائحة القبور.أواني الورد لديه، ومزهريّاته لا تكلّل سوى ب" أزهاره الشرّيرة" الملعونة، وهو معذورٌ على كلّ حال ، فهو فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، وعليل لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته،إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه.
وهذا "طاغور"العظيم في " إنتقام الطبيعة" نراه يؤكد أنّ إنشطارالليل والنهار لايهمّه،ولا إنقسام الشهور، والأعوام ،فعنده تيّار الزّمن قد توقّف ، يرقص الزّمنُ على أمواجه، والقشّ والأغصان،هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه ، منهمكاً في ذاته،والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيم ُساكنٌ كبحيرة جبلٍ نائيةِ المَدىَ، بعيدةُ الغُور،عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه ،الماء ينضحُ، ويرشقُ، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة ، إنّه حبيسُ ذاتِه ،ينشد ترتيلةَ اللاّشئ... إنّه حرّ.
قديماً كانت الأسطورة تقول: كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس ، وغيابَ القمر،وكانوا ينتحبون سدولَ الليل،ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة ، ويبتلع كلّ شئ..والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار،ذلك أنّ الليلَ فى عُرفهم ساكنٌ،راكنٌ هادئٌ، حالم سماوى،لا حرّ ولا قرّ فيه،من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ ،وهناك العديد من المدفآت،والمبرّدات،ومكيّفات الهواء، والمراوح،والرّيش، والطنافس،والسجاجيد، والألحفة التى بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أولسعة البرد حسبما شاؤوا،أوأرادوا،إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب ،فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين،المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن،أمّا الليل فهو ملك لهم ، أفرأيتَ إذن كيف إنقلبت الآية..؟ أفرأيتَ الآن كيف أنّ النّاس يتشاءمون،ويتثاءبون،ويستاؤون من غياب النّهار، وغروب الشمس، ويهلّلون لمَقدمِ الليل..؟! ،
أدرانُ العام الآفل ومآسيه
الكلّ يصيح ،والكلّ يرقص طرباً ،ويضحكُ جذلاً بفرحة مَقدم العام الجديد،منتشياً، ومغتسلاً بغمرة... بل ب..( إقرأ بدلَ الغين خاءً) الدّوالي والكروم، وبهاجس إنسياب الزّمن، وزواله وإندثاره، فتنضحُ عنه ،ويستبشرُ بها خيراً في إستقبال العهد القادم المهروِل، تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَ شَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنضلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ،والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة،والكآبة، والشّقاء.
ما إنفكّت البشرية بخير ، قلّت الحروب الكبرى، وهدأت نارها، وخبا أوارها،وبرد وطيسُها، ونمتْ بالمقابل، وإستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، والثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور ،ما عدا في أماكنَ بعينها من العالم حيث لابدّ أن تظلّ فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة إلى أجَلٍ غيرِ معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالنّصر،ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية ، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة ..إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر،وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً ..هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً،وإفلاساً، وتذمّراً،وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ ، فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شئ، ولو إلى حين،ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان،والأدران برزخاً واسعاً،وهوّةً سحيقة عميقة.
لكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا
الشّاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذى عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم فى الأزهر وإنصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه ،وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة..حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه :" كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل .. صحّ النّوم "فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً،مهموماً، كئيباً، حزينا :
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي
الشّاعر المُعنّى كامل الشنّاوي، فى رحلة عمره ، كان فى كلّ خطوة من خطواته يشبّ فى قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه،ومع إخوانه،ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم ،إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم ،لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين،فهو لم يُخْفِ وجهَه،ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه، وإنساق وراء القطيع ،بل إنّه رفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً،سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذى لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون إستشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت،والتنكيل، والشقاء، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ، فذلك لأنَّ له إرتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لإنقضاء عام، وقدوم آخر،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء،ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الإحتفال، والإحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح ،والسعادة،والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء ...وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الإنتقام، وإغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة " الخيّام " القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك،فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول،أو من باب :
الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ / ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا .
إنّه كلام يتناثر،ويتطايرفي الفضاء ،تماماً كما تناثروتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة ،وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم،والعنت،والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا النّوع،فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام،والأحلام، والخيالات،والترّهات التي لا طائلَ تحتها . بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، و الضنك،النكد، والحرمان ،بعد أن كسدت أسواق الفكرالخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في كلّ شئ،فى دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وجَدّاً وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغدة.!
أشْجَارُ الصَّنَوْبَرالغَضّة
ألا ترى الناس هذه الأيام، وفي هذه التواريخ بالذّات مُسرعين،ومُهرولينً يذرعُون الشّوارعَ، ويقطعُون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون فى أعماق البحار، والمُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويهيمُون فى الصّحارى والقفار؟،والمَفاوز،والمهامه،والآكام،والآجام، لعلّك سمعتَ هذه الأيّام عن حركات،وتحرّكات الطيران غير الإعتياديّة، وعن إقلاع السّفن، والبواخر، وإنطلاق السّيارات،والقطارات وسواها من وسائل النقل،والسّفر،والتِّنقال، والترحال في جميع أنحاء المعمور ؟! فإنّك لو إطّلعت على الأعداد الهائلة من المُسافرين،والمتنقلين،والمغامرين، والرُحّل في هذه المناسبات لذُهِلتَ من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل .إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون،يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا،والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة،ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوارالعصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر،والمتصحّر أو فى طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات إحترام البيئة والطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، و الحفاظ على المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها ،ونستمتع برونقها، و ننعم ببهائها، وببساقتها،وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب . كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك ؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشّجيرات البريئة لتجعلها زينةَ،وقتيةَ،عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات،والياقات،والورقات، والأضواء، والألوان ،لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك،وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور،وما يجري فى هذا العالم من رزايا،وخطايا،وقضايا، وأهوال، وويلات .البشريةُ غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء.لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.،وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ،أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها ، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء الذي يقتلُ فقط للإستمتاع وإشباع رغبة الإنتقام في نفسه الآمرة،أو الأمّارةُ بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظّمة، وغيرالمنظّمة في عالم الصّيد، والقنص، والطّرد .
التّأريخ القديم والتّأريخ الجديد
هناك من السّنين ما تنطبع أحداثُها في أذهاننا ،وتسكنُ وجدانَنا ولا نجد لها أو منها مناصاً ،ولا فكاكاً،في حين أننا نمرّ بأعوامٍ، أوبالأحرى تمرُّ بنا أعوامٌ لا نقيم لها وزناً، أوحساباً، ولا نعيرها أهميّة وإهتماماً،وكأنّنا لم نعشها قط ّ من أعمارنا ،قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمنُ فيما نقدّمه خلالها من أعمال،وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.
ما إنفكّت الحضارةُ المعاصرة تحملُ إلينا عشرات المفاجآت كلّ يوم ، فما كنّا نخاله بالأمس خرافةَ أضحى اليومَ حقيقةَ ماثلةً حيالَ أعيننا،وما كنّا نظنّه أسطورةً أضحى اليوم واقعاً ملموساً نصبَ أنظارنا ،وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام ، تماماً كما كان أجدادنا يفعلون، ويقولون، فذاك عندهم كان عامَ الطوفان،وعامَ الفيل ،وعام الهجرة،وعام الفتنة، وعام المجاعة، وعام الفتح، وها قد أصبحنا نقول نحن اليوم كذلك كما كانوا يقولون ..هذا عام إندلاع الحرب الكونية، وذاك العام الذي وضعت فيه الحربُ أوزارَها،وتينك كانت سنة وعد بلفور المشؤوم، وأعقبه عام النّكسة اللعين، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود الى القمر، وعام الهبوط منه..! وعام مهازل ويكيليكس، وعام الرّبيع العربي... وخريفه،وشتاؤه وقيظه كذلك...
على مشارفِ وغياهبِ المَجْهُول
ها نحن نقف على مشارف، ومجاهيل،وغياهب عتبات عام جديد،لابدّ أنّه يحمل في طيّاته،وثناياه كثيراً من التخوّفات،والتوجّسات،والتساؤلات، والإستفسارات، والإرهاصات، و الآمال، والآلام معاَ،إنها لعبة الجّدّ كما وصفها أبو الطيّب ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في محيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أوحتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي ،لقد ودّعنا فيك،وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا ،ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم ،وكانت تربطنا بهم علائقّ حبٍّ، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا وشائجَ صفاء، ونقاء، ووفاء. فواعاماه... وواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد ... وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وفداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شئ، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً،وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل،ونتأمّل،ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفى أعماق أفئدتنا، وفى قرارة وجداننا ، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي ها هو ذا يدنو منّا رويداً رويداً،ووئيداً وئيدا،.. ويكادُ يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب السّرمديّ، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً ، حتى نمعن النظر ،ونعمل العقل فى هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات ، وعام آت،فلنصلّي، ونتلو ترانيم مباركة ونردِّدَ مع "آغا ممنون" المنكود الطالع، والخائب الظنّ، والبخس الرّجاء، وتقول : ليْتَ هذا العَامُ يأتيِ بالضّيَاء / ليْتَ هذا اليَأسُ يَتْلُوهُ الرّجَاء...!.
-كاتب من المغرب/عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم – كولومبيا - .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.