الاتحاد الدولي لكرة القدم يتلقى 4.5 مليون طلب لشراء تذاكر كأس العالم    حموشي يجري زيارة عمل إلى تركيا    الانبعاثات الكربونية في أوروبا تبلغ أعلى مستوى منذ 23 عاما    تأهب داخل الحلف الأطلسي.. روسيا تنفي انتهاك مقاتلاتها المجال الجوي الإستوني    هجوم إلكتروني في قلب أوروبا.. تضرر أنظمة وتوقف رحلات عدة مطارات    حموشي يجري زيارة عمل إلى تركيا        موسكو تُعيد رسم معالم النقاش حول الصحراء وتُضعف أطروحة الجزائر    فوز ثمين لأولمبيك آسفي أمام نجيليك النيجري في كأس الكاف            العمران تنظم محطة مدريد من معرض "إكسبو مغاربة العالم" لتعزيز روابط الجالية مع العرض العقاري الوطني    "الأحرار" يستحضر من الداخلة مسيرة نصف قرن من العطاء بالصحراء المغربية    الرباط وبكين تؤسسان لحوار استراتيجي يرسخ المصالح المشتركة    فيينا.. المغرب يترأس الاجتماع العام ال11 للشبكة الدولية للأمن والسلامة النوويين    كأس العالم لكرة القدم لأقل من 20 سنة (الشيلي 2025) .. تركيز "أشبال الأطلس" منصب الآن على عبور الدور الأول (الناخب الوطني)    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة لن يستضيف سان جرمان في ملعبه ال"كامب نو"    المغرب والصين يرسّخان شراكتهما الاستراتيجية عبر حوار دبلوماسي مؤسساتي جديد    الرسالة الملكية في المولد النبوي            برادة: 800 مؤسسة مؤهلة هذا العام لاستقبال تلاميذ الحوز    الحسيمة.. موعد طبي بعد أربعة أشهر يثير الاستياء        سيدي بنور.. حظر جمع وتسويق المحار بمنطقة سيدي داوود    جمعيات تتبرأ من "منتدى الصويرة"    إعادة إنتخاب ادريس شحتان رئيسا للجمعية الوطنية للإعلام والناشرين لولاية ثانية    بعد الجزائر وموسكو .. دي ميستورا يقصد مخيمات تندوف من مدينة العيون    العداءة الرزيقي تغادر بطولة العالم    "الملجأ الذري" يصطدم بنجاح "لا كاسا دي بابيل"    سي مهدي يشتكي الرابور "طوطو" إلى القضاء    حقوقيون يبلغون عن سفن بالمغرب    "حركة ضمير": أخنوش استغل التلفزيون لتغليط المغاربة في مختلف القضايا    مشروع قانون يسمح بطلب الدعم المالي العمومي لإنقاذ الأبناك من الإفلاس        ترسيخا لمكانتها كقطب اقتصادي ومالي رائد على المستوى القاري والدولي .. جلالة الملك يدشن مشاريع كبرى لتطوير المركب المينائي للدار البيضاء    منتخب الفوتسال يشارك في دوري دولي بالأرجنتين ضمن أجندة «فيفا»    الصين تشيد بالرؤية السديدة للملك محمد السادس الهادفة إلى نهضة أفريقيا    مساء اليوم فى برنامج "مدارات" : صورة حاضرة فاس في الذاكرة الشعرية    حجز أزيد من 100 ألف قرص مهلوس بميناء سبتة المحتلة    ثقة المغاربة في المؤسسات تنهار: 87% غير راضين عن الحكومة و89% عن البرلمان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية    السجن المؤبد لزوج قتل زوجته بالزيت المغلي بطنجة        زلزال بقوة 7.8 درجات يضرب شبه جزيرة كامتشاتكا شرقي روسيا    أسعار النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب    المغرب في المهرجانات العالمية    إسرائيل تجمد تمويل مكافآتها السينمائية الرئيسية بسبب فيلم «مؤيد للفلسطينيين»    تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الكشف عن لوحة جديدة لبيكاسو في باريس    350 شخصية من عالم الدبلوماسية والفكر والثقافة والإعلام يشاركون في موسم أصيلة الثقافي الدولي    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    ألمانيا تقلق من فيروس "شيكونغونيا" في إيطاليا    خبير: قيادة المقاتلات تمثل أخطر مهنة في العالم    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة مصر ونكسة محور الاعتدال
نشر في هسبريس يوم 01 - 02 - 2011

بعد أن اجتاحت المظاهرات عددا من المحافظات المصرية وأظهرت الاحتجاجات في ميدان التحرير أن الأمر لا يتعلق بخرجات تنفيسية محدودة ، أطل حسني مبارك على الشعب مخاطبا إيّاه بخطاب ما كانوا ليصدقوه حتى لو قاله قبل عشر سنوات فكيف سيقبلونه بعد أن انفرط عقد النظام. كان درس مبارك للشعب هو أنني سأحقق لكم مطالبكم المشروعة من خلال وضع عمر سليمان نائيا للرئيس فيما أعين أحمد شفيق رئيسا للوزراء. لم يكن الأمر يتعلق بسوء فهم لمطالب الشارع المصري بل كان يتعلق بإفلاس تام لنظام لم يتدرب كفاية على فنّ تدبير حلول حقيقية للشعب. لقد جعلهم قانون الطوارئ في غنى عن تطوير ملكة تقديم الحلول السياسية. حتى أن حكيم الخارجية المصرية أبو الغيط سبق واعتبر حديث انتقال عدوى تونس إلى القاهرة بالكلام السخيف. ومن جهة أخرى كان ذلك هو مقدار ما فهمه مبارك من رسالة واشنطن من ضرورة إيجاد تغييرات فورية والاستماع لمطالب الشعب. كانت واشنطن قد اعتبرت مجرد وجود الحكومة الجديدة مثالا عن التغيير ، وكان أن بدأ التحرش بالمظاهرات والدخول في خطة قمع ممنهج للثورة لكن بهدوء حتى لا تتكرس المواقف الجذرية في الشارع المصري ضد واشنطن ويكون البديل انقلابا يعيد المنطقة إلى الدرجة الصفر من المواجهة مع إسرائيل. ولا يزال هنا أمام مبارك فسحة ضيقة من الوقت للّعب بمزاج الشعب الثائر، قبل أن يتلقى الإشارة الأخيرة للمغادرة. وكل ذلك مرتهن لاستقامة الشعب على موقف رفض سياسة أنصاف الحلول. وفي هذا يوجد دعم خفي لمبارك من قبل إعلام محور الاعتدال وكذا المخابرات الإسرائيلية والكثير من الذخيرة الحية لقمع انتفاضة الشعب المصري تمده بها تل أبيب كما لوحظ ذلك مؤخرا. بعد قرار تحدي حضر التجول بمسيرات مليونية اجتاحت كلاّ من القاهرة والإسكندرية وسويس والدمنهور ودمياط وغيرها من المحافظات ، انقلبت الصورة ولم يعد الأمر يتعلق بفوضى تتزعمها مجموعات الخارجين عن القانون والبلطجية والمخربين الذين شكلوا جيش احتياطي للنظام الفاسد في مصر قصد الإساءة إلى جدية المطالب التي توحدت عليها كافة التيارات المشاركة في هذه المسيرات الاحتجاجية. ما يجري في مصر هو استفراغ لآخر ما تبقى من وسائل استغباء الشعب. كان درس بنعلي قريبا في الزمان والمكان من حسني مبارك، حيث كرر هذا الأخير من خلال خطابه الأخير، الحكاية نفسها باستثناء عبارة "فهمتكم" لأنها بدت عبارة شؤم. ولكن مبارك استعاض عنها بعبارة أنا واعي بمطالبكم في آخر خطاب له جسّد خيبة أمل إضافية لشعب حكم بقانون الطوارئ لثلاثين عاما. ولا يمكننا هنا الحديث مطولا عن ذكر مخازي هذا الديكتاتور المستبد، لأنها باتت نارا على علم. مبارك كما يقال لا يقبل بالتنحي عن السلطة، لكنه حتما سيضطر إلى ذلك في وضع أسوأ مما يتصور. فالمتحكم اليوم باللعبة هو الشعب وليس مبارك. ليس أمام هذا الأخير اليوم سوى الرحيل قبل أن يقع بين يدي الثوار. وطبعا وكما كان أمر أسلافه قد لا يجد عاصمة تأويه. وباستثناء جدة وربما تل أبيب ، فإن مبارك سيلقى مصير نظرائه بدء من الشاه حتى بنعلي.
تغييرات داخل منظومة محور الاعتدال
يهم أمريكا وإسرائيل اليوم أن تحافظ على النظام في مصر، ليس لدرء الفوضى كما حصل في العراق ، بل للحفاظ على كل المكتسبات السياسية لإسرائيل وفي مقدمتها معاهدة السلام بين القاهرة وتل أبيب. إن ثورة المصريين إذا تجاوزت عتبة المطالبة بتحسين أداء الحكومة لضمان "العيش" للشعب ، فإنها ستشكل زلزالا كبيرا في المنطقة بلا شك. فالشقيق الأكبر للدول العربية ينتفض بعد جرح مزمن. لا تريد واشنطن بقاء الحرس القديم في محور الاعتدال بل تريد تغييرات تمس شكل وديناميات هذا المحور. لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تمضي هذه الثورات إلى آخر مطالبها. وهنا فقط تكمن لعبة الوعي فيما يجري اليوم من ثورات احتجاجية في مصر. هناك ثورات تجتاح المنطقة ذات مطالب حقيقية تقودها شعوب متطلعة إلى الحرية والتحرر، لكنها ثورات جاءت في توقيت غير برئي. ليس معنى هذا أنه يجب الحذر من مدى مصداقيتها، بل يوجد في هذا تحريض لممارسة أقصى الوعي والحذر من أن تغتصب هذه الثورات قبل أن تحقق غايتها. دعوني أنبّهكم إلى قضية يجب أن لا تغيب عن أنظاركم؛ إنه ربيع ثورات الياسمين في حدود ما يعرف بمحور الاعتدال. لا نتحدث عن سقوط هذا الخيار فحسب، بل نتحدث عن إعادة توزيع داخل هذا المحور لأنماط السلطة وعلائقها. ولفهم هذا يجب أن نفهم ما هو أبعد منه، أي أن مطالب هذه الشعوب لا تقتصر على مطالب اقتصادية فحسب وإلا فتونس التي حققت أعلى مستوى للتنمية والجودة في العالم العربي، كانت أولى الأقطار التي دفعت ضريبة إعادة توزيع أنماط السلطة داخل محور الاعتدال. فهناك مطلب التحرر قبل الحرية وهو ما أخّر التقدم في المنطقة العربية كلها. هنا سندرك لماذا أحيانا تسكت شعوبنا على نظم لا تتوفر على ديمقراطيات مثالية أو حتى أقل من مثالية نتيجة اختياراتها السياسية التي تعوض ضعف جنوحها لدولة الحقوق والحريات بجنوح كبير نحو التحرر القومي. إن الشعوب العربية قد تصبر على الكثير من الفقر الناتج عن الحصار وعن التضييق الذي يحصل في مقدار الحرية إذا ما وجدت نفسها متحررة من التبعية ومستقرة على أساس من سيادتها واستقلالها وقدرتها على إعلان مواقفها القومية ضد الهيمنة وفي مثالنا العربي: ضد إسرائيل أي تقبل بأن تكون شعبا لا يتمتع بكامل الحريات لكنه يتملكه إحساس بأنه أمة متحررة من هيمنة الأجنبي. مع أننا ننصح الكثير من هذه النظم إلى العمل على إنجاز مستوى أكبر من معدّلات الانفتاح السياسي لدرء مخاطر التآمر على موقفها القومي. ولذلك لا زالت ترفع الأمة صور جمال عبد الناصر على الرغم من نهجه سياسة داخلية غير منفتحة، نظرا لمواقفه من إسرائيل ومشروع توحيد واستقلال الأمة العربية. واليوم يبدو أن أمريكا أدركت بأن حلف الممانعة في تقدم ونفوذ ، بينما محور الاعتدال لم يعد يملك سوى الثرثرة بعد أن عجز عجزا بنيويا عن تأكيد مصداقيته لدى الشعوب العربية قبل أن يؤكدها لواشنطن. فهذه الأخيرة التي باتت تدرك أن سمعتها في العالم العربي تراجعت تراجعا فاحشا نتيجة سياسات الديكتاتوريات التي جمعت بين قمع إرادة الحرية وقمع إرادة التحرير ، وجدت نفسها مرغمة لتعديل صورتها في العالم العربي والقيام بتغييرات شكلية تمس الصورة والأشخاص وتخلق شيئا من التنفيس الاقتصادي والانفتاح السياسي لكي يكون محورا أقوى لمواجهة نفوذ محور الممانعة.
وتبدو الشعوب العربي أكثر طيبة من غيرها لأنها انفعالية تتحرك بحدس كبير وعاطفة جيّاشة، كان أحرى بالنظم العربية أن تقترب منها أكثر لتحصين نفسها من دورات لعبة الأمم. وقد كان مبارك وعلينا من الآن أن نعتاد على أن نخاطبه بصيغة الماضي لأنه راحل لا محالة هو أكبر ديكتاتور لأنه مارس قمعا سياسيا واقتصاديا وكذلك قمع حتى الشعور القومي بالقضايا العربية العادلة. فقد قام ببناء صور أسمنتي مسلح عملاق لإمعان الحصار على أهالي غزّة كما أحكم صورا آخر سياسي على شعبه المقهور الذي أسكن ألوفا منه في المقابر. فقد ظن مبارك أنه بمجرد أن نفّذ التعليمات الأمريكية والإسرائيلية بات من حقه أن يبتلع المشهد السياسي على طريقته. هكذا أخرج المعارضة من البرلمان في مهزلة انتخابية سافرة ، ليرمي بها في الشارع. وكانت تلك هي بداية الكارثة على نظام يقرأ تعليماته كلها من واشنطن وتلأ أبيب ، التي لم تقدم له معلومات بالاستشعار عن قرب الإطاحة به . فلقد جهلت مراكز الاستشعار المصرية هذا الأمر ففوجئت بثورة عارمة من داخل المجتمع المصري . وقد كانت تلك المراكز صادقة في كونها فوجئت ، لأن الحكم النهائي في الاستشعار ظل في يد الأجهزة السرية لواشنطن وتل أبيب. واليوم كل ما يهم الاثنين ، أن يؤمن انتقال للسلطة في مصر دون وجود فراغ أمام أي تيار سياسي أو أيديولوجي معادي لواشنطن وتلأبيب، لأنهما أدركا أن سياسة مبارك باتت في مرحلة سكر الديكتاتورية التي رعوها ، أي في مرحلة تدمير بيته الداخلي وتدمير من حوله. إن أمريكا تدرك أن بقاء مبارك سيكون خطرا على مصالح واشنطن وأمن إسرائيل. هذه هي القراءة الاستشرافية الأمريكية والإسرائيلية لنظام حسني مبارك. كان حسني مبارك رجلا ديكتاتوريا بامتياز. لقد منع شعبه ليس من أن يعبر عن مطالبه الأساسية فحسب ، بل منعه حتى أن يخوض في مصير سيادته وتنميته المرتهنة لمعاهدة الصلح مع إسرائيل التي أدت إلى إيقاف كل شيء في مصر. وقد لفتنا دائما إلى أن وجود إسرائيل في المنطقة سيكون رقيبا على منسوب تنميتها الاقتصادية والسياسية وتطورها الصناعي والعسكري. وأنّ القبول بالسلام غير العادل معها في أقل تقدير لا يحرر هذه الأقطار العربية من الرقيب الأمريكي والإسرائيلي على تنميتها السياسية والاقتصادية ، بل يجعلها رقابة ممأسسة وقصارى ما يمنحها من امتيازات، ارتفاع في مقدار المساعدات التي تعتبر عنصرا من عناصر تخليف الاقتصاد والسياسات وتكرس التبعية وتهدر طاقة الأمم وتجعل الدول رهينة لنظيراتها. ولذا لن يقبل من هذه الدول سوى نصف ثورات يدفع ثمنها أشخاص حكامها فقط. وذلك هو الحدّ الممكن من وفاء واشنطن وتل أبيب للنظم التي ترعاها وتحميها وتفرض عليها الكثير من الاشتراطات. إن إسرائيل تدمرنا في الحرب والسلم معا. ولذلك تراها تبكي على مصير حسني مبارك الذي قدّم لها من الخدمات ما لم يقدمه للشعب. ومع ذلك حينما يسأل بايدن حول ما إذا كان مبارك ديكتاتورا أم لا ، يجيب بأنه لا يظن ذلك ، لأن هذا الرجل لعب دورا بارزا في معادلة الشرق الأوسط مما كان له دور في خدمة المصالح الأمريكية. أصبح واضحا أن للديكتاتورية ونقيضها الديمقراطية معاني خاصة في علم السياسة الخارجية الأمريكية: أن تخدم المصالح الأمريكية أو تكون ضدها. وهذا ما ألفيناه مع صدام حسين حينما كان صديقا حميما لرامسفيلد وحليفا كبيرا لواشنطن طيلة حرب الخليج الأولى. لكنه سرعان ما اكتشفت واشنطن أنه ديكتاتورا، فجعلت منه العدو رقم واحد لواشنطن حينما لم يفهم الرسالة الأمريكية بعزله بعد استنفاد دوره. رسالة واشنطن إلى صدام نفسها تتكرر مع حلفائها اليوم. فلو صعد مبارك ومسك بمعاهدة السلام مع إسرائيل ومزّقها أمام الشعب ، ودخلت تل أبيب وواشنطن معه في مواجهة مفتوحة ، لأصبح وضعه مثل وضع صدّام حينما حاول أن يعيد ثقة الشعوب العربية به بإطلاقه بضعة صواريخ خاوية على عروشها فوق مناطق من فلسطين المحتلة. لكن مبارك كان قد تلقّى درس العراق، وكل ما يملكه اليوم أن يحظى برعاية أمريكية بعد أن يستقل طائرته لمغادرة القاهرة. لم تكن جريمة صدام بالنسبة لواشنطن في أنه استعمل الكيماوي ضد شعبه وكان مستعدا لإبادة كل الشعب، بل تكمن جريمته في أنه لم يفهم الرسالة ، أي أنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه لمرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية، ومع ذلك قاوم ليظل رئيسا من دون حماية أمريكية. وقد كان من الغباء السياسي أن أعرب في كثير من الأحيان حتى وهو في سجن الاحتلال بأنه مستعد للقيام بحرب خليج ثالثة، لصالح واشنطن هذه المرة. لكن صدام لم يفهم أنه مجرد مأمور في لعبة أمم وليس شريكا. إن واشنطن لا تهمها حرية الشعوب العربية أو تحررها كما لا تميّز بين معارضة شخوص خصومها أوأعدائها. بل لا زال همّها الوحيد حفظ مصالحها. وبالتالي فإنها تدرك أن حماية إسرائيل هي في صلب حفظ مصالحها القومية. وهذا ليس عيبا ، ما دام مشهد العلاقات الدولية هو مجال للمصالح لا لتبادل العواطف النبيلة. لكن المشكلة أن الكثير من النظم العربية التي لا تتوفر على مشاعر نبيلة تجاه شعوبها ، تحسن قول الكثير من الشعر في المشهد الدولي. وعلى ذكر صدام حسين ، فلقد كان حسني مبارك من أقرب أصدقائه ومعاونيه في معركة أهدرت إمكانات شعبين مسلمين وجرّت الدمار على العراق. ذلك لأن الثقة الكاملة في واشنطن أوهمت صدام بأنه قادر على احتلال وتدمير دولة في حجم إيران، قبل أن يفيق من خدعة أن الدول الكبيرة تزيدها تحديات الحروب مناعة بينما تؤدي الحروب الخاطئة والأحجام المغشوشة للدول إلى انتكاسات في أوضاعها الاقتصادية والسياسية. وكان مبارك قد بعث ضباطا مصريين إلى الجبهة يومها للقتال إلى جانب حامي البوابة الشرقية كما لو كنا حقا أمام هجمة فارسية. ولعب الإعلام الكاذب لعبته الكاملة حينما زرع في النفوس هذا الرهاب لينسينا خطر إسرائيل التي قبلنا بها كجسم ليس غريبا عنّا. يومها كان صدام يخاطب الشعب الإيراني عبر بث إذاعي بالفارسي خاص إلى المجتمع الإيراني، بخطاب مختلف عن الشعب العربي. فللعرب يعزف على وتر القومية العربية على الرغم من أن دولا فاقته في العروبة وقفت ضد هذه الحرب ، مثل سورية وليبيا أنذاك. أما للشعب الفارسي فكان صدام يخاطبهم، بأنكم أنتم الشعب الفارسي الإيراني العظيم كيف تسمحون لشخص غير إيراني، أي شخص عربي مثل الخميني، يستغلكم ويخرب بلدكم؟! هذا هو كذب الحروب وخدعتها. لكن ما أن وضعت الحرب أوزارها حتى أصبح حسني مبارك هو أبرز قيادات التحالف ضد صدام في حرب الخليج الثانية وأحد الذين عملوا في سبيل احتلال العراق. إذ احتلال العراق انطلق من داخل جغرافيا دول الاعتدال العربي والقواعد العسكرية المرابطة في تلك البلاد . لم تنطلق طائرات القصف الأمريكية من إيران التي كانت بينها وبين العراق حكاية ثماني سنوات من الحرب ، بل انطلقت من قواعد دول الخليج التي كانت تعتبر العراق بوابتها الشرقية وتعتبر صدام حسين بمثابة سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية الثانية . لقد رأوا في حرب الخليج الأولى الخطر الساساني على العرب ، لكنهم لم يروا في حرب الخليج الثانية الخطر الروماني على العرب. هنا التاريخ العربي لما قرئ له. ونعيدها مرات عديدة : إن انتفاضة العراق تم اغتصابها عنوة بالحديد والنار بتواطؤ بين واشنطن ودول الاعتدال في المنطقة. وقد أدى الإحباط في نفوس العراقيين الذين تآمر الجميع ضد ثورتهم إلى القبول بكل الحلول ، لذا كان طريقهم مختلفا واستثنائيا جدا ، حيث فرض عليهم الاستثناء النظرة العنصرية والطائفية التي كرستها دول حلف الاعتدال ضد مطالبهم الإنسانية المشروعة، وجندت لها من الإمكانات الإعلامية والمادية ما فاق الخيال. لذا كنا ولا زلنا ضد تخوين الشعب العراقي، بل اعتبرنا أن غزو العراق جريمة تحاسب عليها محور الاعتدال بالمنطقة قبل أي جهة أخرى. فهل يعلم الرأي العالم بأن انتفاضة شعبان التي اجتاحت كل المحافظات العراقية، أجهضت بعد أن سمحت القوات الأمريكية لصدام استعمال الطائرات والقذائف بينما كانت أمريكا قد فرضت الهزيمة على الجيش العراقي ومنعت حركة الطيران داخل التراب العراقي؟! درس العراق مهم لجميع الأقطار العربية شعوبا ونظما. ووجب أن لا تنساه هذه الأخيرة وهي تتلمس طريقها نحو مصير مشترك ومستقبل أفضل.
الآن فقط : مصر هي أمّ الدنيا
الآن أم الدنيا تنتفض. ولا خوف على الشعب المصري من أي لعبة داخلية أو خارجية. إنه شعب يكتظ بالكفاءات وبالوعي الكبير وتتمتع تياراته بحيوية ونشاط ناذرين. فالتلويح بخطر الفوضى والانزلاق الى متاهاتها نوع من التخويف يراد منه التشويش على إتمام المسيرة الاحتجاجية الواضحة المطالب . إن سنوات من الاحتقان والتدافع والصراع أبلغت المجتمع المصري إلى نوع من الوعي بالمطالب المشتركة للمجتمع ضمن حراك تقودها اليوم في مصر كتلة تاريخية واعية بمقاصدها مستقيمة على درب مطالبها. فالملاحظ أن ثمة وعيا حقيقيا يجتاح المشهد السياسي المصري برمته. فقد غدت مطالب القوميين هي مطالب الإخوان المسلمين هي مطالب الشيوعيين هي مطالب عامة الشعب. وهذه شروط كافية لتحقيق غاية الثورة المصرية. هذه الثورة التي لم يشهد لها المصريون مثيلا في كل تاريخهم الحديث ، بعد أن جربوا شكلا واحدا من الثورات لم تتحقق معه أحلام هذا الشعب ، أي نموذج الانقلابات العسكرية التي ليس للشعب إلا أن يتفاعل معها بالتأييد والتصفيق ( صفق ، صفق لا يعتقلوك)، لكنها اليوم تنتفض من خلال جيل من شبابها الذي لم يفقد بصمته وهويته وحلمه ، كما لم يفقد الوعي بمكانته وموقعيته في معادلة التحدي في المنطقة. "تبهدلت" مصر عقب توقيع معاهدة السلام حتى أصبحت أقل الدول العربية شأنا، بينما كانت مصر تستحق أن تكون في طليعة الوطن العربي ، وهي تملك كل المؤهلات لتصنع المعجزة لنفسها وللعرب، شريطة أن لا تسمح لمبارك ونظامه الفاسد أن يلعب بمشاعرها أو يلتف على مطالبها. وشريطة أن يحمي الشعب ثورته من أي اختراق داخلي أو خارجي.. وشريطة أن لا تلتهم الثورة أبناءها وذلك بالحذر من أن يسعى كل طرف إلى أن يجعل هدفه من الثورة هو السلطة والصراع على احتكارها.. وشريطة أن يصبح الناصريون والإخوان المسلمون والشيوعيون والليبراليون وكل الطيف المصري أركانا لدولة الحق والقانون والحريات.. دولة التنمية والممانعة والاستقلال.. حينها تصبح مصر أكبر من أن تكون ناطورا لتل أبيب كما فعل بها مبارك ونظامه الفاسد .. حينها فقط ، سنعود ونقتنع بأن مصر هي حقّا أمّ الدنيا!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.