إن الشريط السينمائي (البيضة والحجر) للنجم الراحل أحمد زكي، أحد ألمع وأصدق الفنانين العرب وأكثرهم إقناعا، يعد من أهم وأعمق كلاسيكيات السينما المصرية، إذ هو من الأفلام السينمائية العربية القليلة التي تخوض في مفهوم المثقف وتحاول تشكيل صورته وبناء مفهومه ورصد تأثيره في المجتمع والناس، أعني في الحال التي يخرج فيها من وضع التعالي الفكري والقيمي، ويدخل في تجاذبات الواقع وإكراهاته حتى يمتحن قدرته على ممانعة سلطة المال وشهوات النفس الهادرة والكاسحة، خاصة حينما يتخلى عن دوره الإصلاحي المفترض ويستغل علمه وثقافته ومعرفته بالنسق النفسي والروحي لمحيطه الاجتماعي ليحقق للذات رغباتها القصوى كأيّ انتهازي لم تمسّه أنوار العلم، فيخلق تركيبة سحرية ومؤثرة هي مزيج من العلم والخرافة الملتبسة بالدين، ليصنع منها سلطة مقدسة تخترق فئات اجتماعية مختلفة. وإذا كانت أفلام سينمائية عربية كثيرة تطرقت إلى موضوع الخرافة والشعوذة كما هو حال فيلم (يا أنا يا خالتي) لمحمد هنيدي بشخصية الخالة نوسة (إنتاج 2005) الذي كان تناول الموضوع فيه كوميديا على الآخر ومنزوعا من هالة التخويف، أو كما هو حال فيلم " الإنس والجن " من بطولة عادل إمام ويسرا (إنتاج 1985) الذي يبرز غموض هذا العالم وسطوته وقدراته الخارقة والمتعالية التي يصمها الشر وتطبعها الإذاية وإشباع غريزة التملك والسيطرة لكائنات العالم الآخر على الإنسان أو تطويع هذا الأخير لها من أجل استغلالها في إحداث تغيير على حيوات الأفراد إما شرا أو خيرا، أو وقوع إحدى كائنات العالم الآخر في حب إنسية واستعماله لقدراته الماورائية لتحقيق مآربه. فإن النجم الراحل أحمد زكي شخَّص العلاقة المركبة بين العلم والخرافة والدين بشكل أعمق بحيث يسائل الآثار النفسية والاجتماعية لتوظيفها من قبل مثقف هو أستاذ فلسفة سابق كان مفعما بالنظريات الفكرية التي تنتصر للبسطاء وتحارب، بكل ما أوتيت من جهد وعلم، لترسيخ ثقافة الاستغناء عن السيرورة الجبارة لثقافة الاستهلاك العولمية. وتحفته السينمائية (البيضة والحجر) من إنتاج تاميدو (1990)، التي نرى أنها تحتاج إلى قراءة ثقافية جديدة مادامت لا تزال تعرض على كثير من القنوات الفضائية المختصة بالسينما وتأثيرها الفني والثقافي متجدد، تبئر على العلاقة بين الثقافة بما هي تمثيل للنخبة في مقابل سلطة الخرافة المتغلغلة في النسيج الاجتماعي بقوة. ومن المعلوم أن هذه العلاقة تنبني على مواجهة يبحث فيها ممارسو الخرافة والشعوذة عن شرعية مفتقدة بين النخبة المثقفة التي تقود حملات ضدهم معتبرة أن عامل انتشار الطقوس الخرافية يعود إلى أمية ضاربة أطنابها في المجتمع . أصلُ التحوّل إن خصوصية تناول فيلم (البيضة والحجر) لموضوع الشعوذة تكمن في أن المثقف يصير نفسه مشعوذا، ويستغل علمه وثقافته الرصينة بالنفس البشرية وطرائق تفكيرها ليقدمها بالطريقة التي يصدقها الناس، مستندا إلى تعريف محدد للشعوذة باعتبارها (لعبا ذكيا على آمال وآلام الناس). والفيلم يحكي قصة مستطاع (أحمد زكي) أستاذ مادة الفلسفة الذي يلقن تلاميذه القيم والمبادئ التي تمكنهم من خلق مواءمة بين متطلبات النفس البشرية وبين شروط العيش المتعسفة والموسومة بالغلاء، متسلحا بحكمة شخصية يكررها على مسامع كل من ينتقد تقشفه في العيش ولجوءه إلى الرضى بالنزر اليسير من الضروريات (أنا إذا غلا علي شيء تركته). بيد أن خطابه الذي انتشر بشكل سريع بين المتعلمين، سيجر عليه وبال مواجهة زملائه والإدارة التي اتخذت الوشاية المغرضة سبيلا للتخلص منه خاصة أنه كان يقف ضد سلوكهم الاستغلالي للطلبة فيُطرد بعدها من سلك التعليم. في هذه الأثناء سيسكن مستطاع غرفة في سطح إحدى الأحياء الشعبية كان يقطنها قبله دجال اسمه "دباغ "، وسيرسل له حارس العمارة سيدة تبحث عمّن يساعدها لتخليص ابنها من (الربط الجنسي)، في البداية سيحاول توجيهها إلى كون ابنها في حاجة إلى علاج نفسيّ، فكان جوابها أنه بخير (ونفسَهُ طويل وزي الفل ولا صدره يوم عنَ عليه)، وفي ظل تفاوت مستوى الخطاب وعدم فهم السيدة العجوز، سيغير طبيعة خطابه ويتوفق في حل مشكلة الزوجين بانتهاج طريقة مغايرة وظف من خلالها تقنيات علم النفس لكن بلغة السحرة والمشعوذين وطلباتهم الغريبة. ومن تم يقرر الاستمرار في لعبة الشعوذة ويلج الطبقات المخملية و يتعامل مع أصحاب السلطة في مناطقها الأكثر خطورة. نسجل، إذن، لحظتين فارقتين في حياة مستطاع، الأولى كان خاضعا فيها لمبادئ فاضلة ومثالية لم تُمتحَن، وكان الاستغناء عن الكماليات والتحسينيات أهم ما يسِمها، والثانية تتعلق بنجاحه المبدئي في فك الربط الجنسي لابن السيدة العجوز وزوجته. وهذا يعني أن النسق الاجتماعي والثقافي أقوى من كل المثاليات التي يرفعها المثقف الذي لا يستطيع أن ينتج خطابا مفهوما ومهضوما من قبل الناس في الهامش، دليل ذلك عدم فهم السيدة كلامه العلمي وعدم تقبل جارته العانس (الممثلة معالي زايد) التفسير العلمي لحال العنوسة التي دخلت فيها، إلا بعد أن غلّفَه بتقنيات المشعوذين والدجالين وطلباتهم الغريبة. إن أصل التحول ولحظته الفارقة هي امتلاك مفتاح النجاح لاستغلال الناس، وهنا تنفجر غرائز اللذة الساكنة والمطمورة في الجانب الغائر من الذات، تلك المغلفة بفائض من القيم المثالية المغشوشة والهشة. أزمة المثقف إن المثقف مجسدا في الأستاذ مستطاع وممثلا له، هو نموذج معكوس لمفهوم المثقف العضوي الذي نادى به أنطونيو غرامشي، ذلك النموذج الذي ينغرس في تربة مجتمعه ويغيره من خلال مشروع ثقافي معتبر. إذ لم يتمكن من تنزيل المبادئ التي ظل يدعو إليها في الفصل الدراسي وبين أصدقائه، ولم تصمد مقولته الفضلى "أنا إذا غلا علي شيء تركته " أمام المال والسلطة اللذين أغرته بهما قدراته في التأثير على الناس واللعب على آلامهم وأمالهم، واستغل فساد البيئة والمجتمع لكي يشبع طمعه ونهمه، وهو الذي نصح أحد طلبته السابقين بأن يحتمي بعقله حين يواجه بيئة ينعدم فيها الوعي. يقول مستطاع في إحدى حواراته مع صديقه توالي (الممثل ممدوح وافي): لو لم أكن دباغا فلا بد أن أكون دباغا. ودباغ هو المشعوذ الذي كان يسكن الغرفة قبله، والذي يرمي إلى أن ينحو مساره ،وهي جملة تعبر عن إفلاس مشروعه الاجتماعي الذي يحارب من خلاله الغلاء المستشري بالزهد، والانخراط، بالمقابل، في اللعبة التي يريدها المجتمع وهي الدجل والشعوذة واستغلال الناس بسطاء ومتعلمين، أغنياء وفقراء، دهماء ونخبة... أكبر قدر ممكن، وهو استغلال واع جدا بخطورة هذا الفعل وقدرته على شل سيرورة الوعي التي من المفترض أن يتحمل مسؤولية نشرها، ويتجسد وعيه في ما قرر الإقدام عليه في قوله ( ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون والمثقفون )، وهي جملة ثقافية، بالرغم من ما تتضمنه من دلالة توهم بقدرة المثقف على تغيير الواقع سلبيا والزيادة في تمييعه وإفساده، إلا أنها قدرة معطلة في حقيقتها، ودورها السلبي ليس سوى عامل من عوامل أخرى أشد تأثيرا وأكثر تدميرا لعل المال والسياسة أهمها. السلطة المقدسة إن السلطة المقدسة هي نتيجة أحابيل الدجل والشعوذة، وهي سلطة لأنها قادرة على إخضاع الناس لسطوتها، وجعلهم يندمجون في طقوسها تلقائيا والخوف من جبروت حاملها، بل يتخشعون وهم يمارسون هذه الطقوس اعتقادا منهم أنها تنتمي للممارسة الدينية مما يكسب الفعل الساحر قداسته. ويعي مستطاع أنه لكي يكرس هذه القداسة عليه استغلال الإيحاء عند الناس مهما بلغ علمهم وثقافاتهم أو حتى تمثلهم وتشربهم لمبادئ الدجل نفسه، وهو ما تبين حين واجه عودة الدجال " دباغ " إلى الحي الشعبي شقته، إذ تملكه الخوف من تمثيل مستطاع وخسر أمامه المواجهة على الرغم من باعه الطويل في المجال. وتفوُّق مستطاع هنا ناجم عن استغلاله للقلق الذي يساور خصومه وضحاياه، فالقلق موّلد للإيحاء الذي يجعل النفس مطيعة للأوهام والأفكار مهما بلغت غرابتها وتعاليها عن الواقع ومخالفتها للمنطق السليم. وفي ظل هذه السلطة فإن معلومة صادقة واحدة كافية لصنع حقائق متعددة يصدقها الكل، وسر نجاح الدجال، يقول مستطاع، يتجسد في أمرين (ثقته بنفسه وقوة اعتقاد الناس به) وهذا الاعتقاد، الذي يضارع الإيمان القوي، هو الذي يستلب من الناس عقولهم التي من المفترض أن يحتموا بها ضد الاستغلال. إن الناس في النسق الثقافي حيث السلطة المقدسة، يخلطون بين ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة من تسخير النبي سليمان عليه السلام الجان والتحكم فيه وأحاديث السحر، وبين أحابيل المشعوذين الذين يحرصون على خلق الالتباس بين طقوسهم وبين شعائر الدين ونصوصه. إنهم يسعون إلى جعل خطابهم موائما لخطاب الدين وملتبسا معه، ومن هنا يحدث عند الناس التقدير الذي يصل إلى درجة التقديس لممارس الشعوذة، ويسهل عليه التحكم فيهم مادام يرتبط في ذهن الناس بصفتين مختلفين: الخوف من المشعوذ واعتباره خلاصا، فاللعب على الذات الخائفة عنده هي وسيلة ضرورية للسيطرة عليها. الصراع الدرامي في (البيضة والحجر) بلغ الصراع الدرامي أوجهه في مشاهد مواجهة الذات في لحظات نكوصها ووقوعها في شره الاستهلاك، حينما سيعم التعب حياة (مستطاع) ويَفقدُ معه كل لذة حقيقة، فيستشعر زيف حياته. وسينكأ هذا الجُرحَ لقاؤه بالغسالة التي كان سببا في تغيير حياتها بعد أن تزوجت من مصري/أمريكي أوصاها بالزواج بعده قبيل وفاته. استشارته في طلبات الزواج المقدمة لها، واشترطت أن يحسم فيها بمعيار الشخص بغض النظر عمّا يملك من مال أو سلطة، وأضافت أنها تريد عملة نادرة (أما العملات المزيفة فلا تساوي ثمن الكيس التي يحملها). ويظهر المشهد كيف مستطاع يتراجع ويسند ظهره إلى الكرسي في انكسار وضعف، لأنه أحسن بكونها معنيا بهذا الوصف، خلافا لجميع المشاهد السابقة أثناء نجاحه في حل مشاكل الآخرين واستغلال ضعفهم، حيث تظهر ملامحه وعيناه وحركات جسده ثقة هائلة، مهيبة ومخيفة. إن سيناريو الفيلم، وهو لمحمود أبو زيد، يظهر التراتبية في الخطاب، ويسهم في إظهار انفعالات الشخوص استنادا إلى ثقافاتهم المختلفة. فالنقاشات التي كانت تدور بين مستطاع وصديقه توالي تدور غالبا في جو من الهدوء من خلال محاولة الخوض في تفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية للمحيط، يجرب فيها مستطاع قدراته الإقناعية، بينما لا تخلو حواراته مع سكان سطوح العمارة من ظرف وفكاهة مستوجبة في فيلم درامي يعالج ظاهرة معقدة بهدوء وفنية، كالمشهد الذي يقول فيه للبنت/الغسالة (إنه يحتاج الكتب ليحضر دكتوراه)، فتبصق خفيفا على صدرها وتترجاه ألاّ يحضّرهم، تقصد الجن، وهي موجودة معه. وعموما فإن شخصية مستطاع تمثل المثقف السلبي الذي تتعدد نماذجه، ذلك الذي يخون مجتمعه في أول امتحان وينقلب عليه في أول منعطف، بل ويسهم في تقويضه ومص دمائه، ويجعل من خطاباته الدوغمائية، التي تلزم الآخرين ولا تلزمه، طريقا للسلطة وللمال. وهي الطريق التي لا يستطيع من يلجها، في الغالب، أن يحذر مخاطرها أو أن يتراجع عنها سالما كما تجسد في المقطع الأخير حين يعترف مستطاع للشرطة بكونه دجالا ولا يجد منهم تصديقا، حيث كان صدقه سببا في سجنه بادئا قبل أن يفرج عنه. وإن شريط (البيضة والحجر) يرصد هذا الجانب بكثير من الجدية، خاصة أن رؤيته الإخراجية مميزة وأن سيناريو الفيلم كتب بحرفية عالية وعالمة. * ناقد ثقافي